هل نحتاج إلى التذكير بأن السياسة من العلوم الإنسانية وأن الآداب من التعبيرات الثقافية الوجدانية نثرا كانت أم شعرا شأنها في ذلك شأن باقي الفنون الإنسانية من موسيقى ورقص وغناء ومسرح…إلخ؟ وهل نضيف شيئا جديدا إذا قلنا بأن السياسة من العلوم التقريرية المباشرة اللصيقة باحتياجات الإنسان الأساسية من أكل وشرب وشغل وصحة وسكن وتعليم…في المقام الأول ثم من عدل وحرية وكرامة…في المقام الثاني؟ بمعنى آخر، السياسة ضرورة مادية موضوعية بينما الآداب والفنون الجميلة من الضرورات الذاتية المعنوية. لماذا هذا الكلام؟ أو لماذا نقتحم هذه الأبواب المفتوحة كما يقال في المثل الفرنسي؟ الجواب..لأننا ابتلينا بصنفين من المتعالمين بأعراضهم المزمنة على أرض الأولياء والزوايا والأضرحة والصالحين. صنف يريد أن يقنعنا بالسطحية والتفاهة والرداءة في مجال الإبداع الأدبي والفني تحت مسمى الحرية الفردية والواقعية إلى ما هنالك من الأعذار الواهية. وصنف من الحالمين الرومانسيين الذين يغوصون في الخطابات السياسية كالضفادع البشرية ينقبون عن تحف أثرية ثمينة وكنوز دفينة في سفينة السياسة الغارقة في محيط الجهل والأمية والتخلف منذ زمن بعيد. هم كذلك يريدون أن يقنعوننا بأن وراء اللغة الخشبية رموزا ودلالات وإشارات وتأويلات وأسرارا…وكأننا في معرض ′′للعلوم الباطنية′′ من سحر وكهانة وتنجيم! السياسة ليست رجما بالغيب! والخطاب السياسي خطاب الظاهر والظواهر لا خطاب الألغاز والبواطن! وإذا جاز للخطاب السياسي أن يتماهى مع الخطاب الأدبي فمن حيث الشكل فقط لا من حيث المضمون وسنرتاح على الأقل من اللغة الخشبية الفارغة التي بلغت مستوى غير مسبوق من الهذيان والغثيان. في المعارك السياسية، اللغة وسيلة لا غاية والخلط بينهما لا ينم إلا عن شيء واحد : – الخوف والعجز..أو ′′نهاية الشجاعة′′ على حد تعبير الفيلسوفة الفرنسية سانتيا فلوري. والسياسة لا تحتاج إلى كل هذه التحاليل العميقة كالتحاليل الطبية بل إلى أفعال تترجم على أرض الواقع وإجراءات ملموسة وظاهرة للعيان تحد من تفشي الفقر والبطالة والجهل… التغيير بالأفعال لا بالأقوال! وعلى الذين يلوون ألسنتهم وأقلامهم لتقول ما لم تقو على فعله السياسة وسياسيو هذا الزمان الرديء أن يحترموا ذكاء الآخرين..ما كل شيء يقال..وما يقال ليس كل شيء..رجاء لا تحتقروا الناس. تخبرنا كتب التاريخ السياسي أن الشخصيات السياسية التي نجحت في تغيير مجرى الأحداث وإقامة صرح جديد على أنقاض البناء القديم يلتقون في سمتين أساسيتين : – قول الحقيقة لتجار الكذب أولا، ثم.. – الدفاع عن هذه الحقيقة أمام جبابرة التضليل والتزييف ثانيا. وبالأقوال والأفعال معا..بخطاب سياسي واضح ومباشر..لا خطاب أدبي موغل في الباطنية أو الغنوصية. تسمية الأسماء بمسمياتها هي أول الطريق..ووضع النقاط على الحروف هي نهاية الكلام لا بدايته إلى ما لا نهاية..الجميع بات يحسن القراءة والكتابة. رجاء! لا تستحمرونا من فضلكم! في قصيدة الغراب والثعلب للشاعر الفرنسي لافونتين، نجح هذا الحيوان الذكي وهو جاثم على الأرض أن ينتزع قطعة الجبن بدهاء ومكر كبيرين من منقار الغراب الجالس عاليا على غصن شجرة. ماذا انتزعنا نحن من مكاسب سياسية بعد عقود من الثرثرة الملونة؟