مرت أجيال من الوطن، و لم يطأ جثمان البطل عبد الكريم الخطابي أرض الريف بعد، ومازال الجثمان غريبا في أرض الكنانة. تمر السنون، ومازال محمد بن عبد الكريم الخطابي، لم يستعد الأرض التي صنع من على جبالها أسطورة المغرب المعاصر، كما لو أن نكاية ما تريد من البطل أن يضيف الغربة إلى المنفى، حيا وميتا. في بلاد هي الآن في أمس الحاجة إلى البطولة الحقيقية، يبدو البطل بلا حاجة لكي يسعف بلاده بالمعنى الفعلي للبطولة. ليس الحنين وحده الذي يصنع العودة الدائمة إلى البطل الأسطوري، إنه المعنى الصافي للوطن وللوطنية، هو الذي يطالبنا بأن نتصالح مع أبائنا التاريخيين. لقد خرج المغرب من منطق العقاب الفردي والجماعي للريف إلى منطق المصالحة الوطنية، وخرج من الانغلاق إلى رحابة التعدد الحي للبلاد، وخرج من قمقم الإنفراد بالتاريخ إلى شساعة الإنصات إلى كل الأصوات وكل التأويلات. ولم يعد من المقبول بأن تضع الدولة المغربية أبطالها في حقوق الآخرين، ومقابر الآخرين، وذاكرة الآخرين. ليس جثمان عبد الكريم الخطابي مسألة ميت «يختار» وطنا لنومه الأبدي، إنه سؤال نطرحه على قدرتنا الحقيقية في أن نعيش تاريخنا بكل ما فيه، ونعيش مستقبلنا بلا تراتبية وبلا غائبين. نحن نعيش اليوم الحدث في مناطق زرعها عبد الكريم بأهازيج النصر والبطولة، مع الذين يزرعونها اليوم بالتهريب والمخدرات، بتواطؤ مكشوف من عناصر في السلطة. ونعيش بالفعل كيف تتسامح البلاد مع منطقتها الطاهرة في القلب وفي التاريخ معا، لكي يتحول الانشغال من صناعة الرموز الكبرى للإنسانية إلى صناعة الرموز الواطئة للفساد. نحن أمام جغرافيا مغايرة، لأننا بتاريخ منقوص. ونحن أمام ابتذال الأرض من طرف اللصوص، لأننا تركناها بلا سماد البطولة. لا يمكن أن نقبل بأن تستمر هذه المساحة الفاصلة بين شعب وبين رمز كبير من رموزه، لأن الأمر يتعلق بذاكرة وطنية نسعى إلى أن نحولها إلى مشترك حي، تعددي، خارج الترتيبات المحدودة في الزمن والمكان، ولأن الأمر يتعلق، أيضا، بمسافات كبيرة قطعناها، ويجب أن نتمم خواتمها. شخصيا مازلت أذكر يوم 6 فبراير من سنة 1988، عندما قررنا في شبيبة الاتحاد بالناظور أن نخلد، لأول مرة، الذكرى 25 لرحيل البطل. يومها تم تطويق المقر الموجود بالفعل في شارع عبد الكريم الخطابي بالقرب من سينما الريف، ووضعت الحواجز وتفرقت عناصر الأمن بكل تلاوينها أمام المقر. ووصل الأمر بالبعض منها أن كانت تسأل المارة الذين يقتربون من المقر إن كانوا يتوجهون إلى مقر الاتحاد الاشتراكي، وهناك من طلبوا منه بطاقة التعريف الوطنية للترهيب وإبعاد ذلك السيل العرمرم من الشباب ومن الأطر الذين جاؤوا يخلدون الذكرى في مغرب الثمانينيات. كان لدينا إحساس بأننا نكسر جدارا كبيرا من التاريخ المسلح، وأننا نحفر في أرض ممنوعة. منذ ذلك الحين، لم تعد الأشياء بهذه الصعوبة، ولا بمثل كل تلك التوجسات التي وصلت بالدولة، فيما بعد، إلى اعتقال شبيبة الحزب، وكاتب هذه السطور نفسه. المياه التي جرت تحت الجسر تتطلب أن تواصل تدفقها بنفس الصفاء. فلا يعقل بأن تتردد الدولة المغربية في المصالحة مع رمز وطني كبير، علم العالم كله كيف يرسم الحرية، وكيف يشتق لنفسه مستقبلا خارج الطوق الاستعماري، رجل له أبناء في الفيتنام الأسطورية، وفي أمريكا اللاتينية، وفي كل الثورات. رجل من هذا القبيل لا بد له من أن يكون بيننا وفي تربته الطاهرة، وله مؤسسة تحمل اسمه، ولا تردد في القبول بها! لقد روى القائد الفلسطيني أبو إياد كيف أنهم ذهبوا إلى فيتنام الجنرال جياب، وطلبوا منهم دروس الثورة الناجحة ووصفة الوثبات الثورية التي تقود إلى الاستقلال، فقال لهم هوشي منه، لقد أخذنا من عند رجل منكم، اقرأوا تاريخه وثورته، إنه عبد الكريم الخطابي. رجل من هذه القوة لا يمكن أن يظل غريبا، حتى ولو كانت الأرض التي تحتضنه أرض الثورات. ليعد البطل إذن!