برع ميلود الجراري في صناعة طيوره الرائعة بالورق المقوى، وتفنن في تشكيلها ليعبر من خلالها عن المناطق التي تنتمي إليها، والبلدان التي تتحدر منها وتصنيفها، هل هي طيور مهاجرة، أم محلية، وكيف تتغذى وكيف تنمو. تظهر طيور الجراري داخل "حديقته" بشارع مودي بوكيتا، وسط الدارالبيضاء، في أوضاع مختلفة، فتبدو برأس مرتفع أو منحي، أو بفم متباين التشكيل أو أن تكون واقفة على رجليها، أو على رجل واحدة والأخرى منكمشة، أو بأجنحة مفتوحة أو مجموعة، لأن الطيور عادة تختلف كثيرا في حركات أجنحتها يقول صانع الطيور، فبعضها يحلق والبعض الآخر يرفرف عند بدء الطيران، ويستخدم التيارات الهوائية ليحلق أو ينزلق فيها، وبعض الطيور تستخدم الرفرفة والتحليق حسب ظروف طيرانها وخاصة في عملية الصيد، كما في بعض أنواع الطيور الجارحة والتي تؤثث فضاءه. لم يقتصر ميلود الجراري على صناعة الطيور فقط، بل انتقل إلهامه لتشكيل بعض الحيوانات الورقية، مثل الديناصور والحمار الوحشي المزركش بالأبيض والأسود، والثعابين، التي استخدم فيها أيضا أنواعا متباينة من النفايات من أسلاك وأوراق، لكن براعة إنجازه جسدت التقنية العالية التي اعتمدها الفنان البيولوجي في تشكيله لمولوده الأخير، الذي يقف شامخا بعيدا عن الطيور الورقية وكأنه في غابة إفريقية. رواق "لارميطاج" بالدارالبيضاء، وتحديدا في منطقة بولو، بشارع مودي بوكيتا، بمركز التربية البيئية، التابع لوزارة التربية الوطنية، يقع رواق ميلود الجراري، صانع الطيور الورقية، في جناح خاص لا يعرفه إلا من سنحت له فرصة زيارته هذا الفضاء، سيما في اللقاءات التي تعقدها جمعية مدرسي علوم الحياة والأرض. ولإشباع الفضول الصحفي تمكنت "المغربية"، من اقتحام رواق هذا الفنان الفريد من نوعه، إذ يخال الزائر أنه وسط حديقة لطيور، وعصافير حقيقية، لكنها طيور "أبا ميلود الجراري" الورقية الرائعة والناطقة بأروع أشكال التعبير الفني، ولصاحبها عاشق الطيور بامتياز. ميلود الجراري، فنان فطري بيولوجي صديق للبيئة، تلمس طريقا أبدع من خلاله في صناعة الطيور من الأوراق والمتلاشيات، التي وظفها في هذا الشأن، عوض حرقها أو رميها بين القمامة والنفايات. المتلاشيات والنفايات يعتبرها ميلود الجراري ثروة كبيرة يجب استغلالها سواء في الأعمال اليدوية، أو في الفنون التشكيلية، أو في صناعات أخرى، بإعادة تدويرها، والاستفادة منها، سواء أكانت هذه الأخيرة عبارة عن أوراق، أو زجاج، أو أسلاك، المهم أن لا تطرح في الأزبال، يقول الفنان العصامي، ميلود الجراري، "يجب تحسيس الناس بالمحافظة على البيئية، وكيفية التعامل معها، وحثهم على جمع النفايات والمتلاشيات في أماكن معينة، أو في أوعية خاصة لكل نوع على حدة، كتلك الخاصة بالأسلاك، أو بالزجاج، أو الورق المقوى، وحتى النباتات، كي نساهم جميعا في تسهيل عملية جمعها، بالنسبة للشركات التي تعمل على إعادة استعمالها بعد تدويرها ومعالجتها"، مضيفا أنه يشاهد من خلال الأشرطة الوثائقية، كيف تتم الاستفادة من المتلاشيات في الدول المتقدمة، وأنه اكتسب من هذه الأخيرة معلومات كثيرة، إلى جانب الخبرة التي تلقاها في معمل تركيب الشاحنات بالدارالبيضاء الذي اشتغل فيه مدة طويلة، والمتعلقة بفن الصباغة، وبفن المونتاج وتركيب الأجزاء، والعمل المتسلسل. كل هذه المعلومات غذت فكره وزادته إلهاما لصناعة أجزاء وأضلع الطيور، والدقة في تركيبها وصباغتها بألوان متباينة شبيهة باللون الأصلي للطائر الذي يرسم صورة مسبقة لتشكيله، حسب نوع وفصيلة انتمائه، ويحصل في الأخير على لون قريب جدا من لونه الطبيعي. وأبرز ميلود الجراري أن حبه للطيور تربى معه منذ الصغر، حيث كان يقضي الساعات الطوال في مشاهدتها محلقة في السماء معلنة للعالم عن روعة جمالها وهي تطير من مكان لآخر دون أن تخضع لمراقبة ولا لشروط الطيران، ففي البداية كان يعتمد على الموهبة في صناعة طيوره، وعلى مهارته وقدراته الفكرية والإبداعية في خلق طيور شبيهة بالتي توجد في الفضاء، أو في حدائق الحيوانات، أو الغابات والبراري، ناقلا أدق تفاصيلها، من رأسها إلى أخمص أرجلها، لكن حبه لها لم يقف عند هذا الحد، بل دفعه للتعمق في تشكيلها، ما دفعه لدراسة أنواعها وأشكالها وأحجامها، وتاريخها وبيئتها من خلال كتب خاصة بها، وحتى بمشاهدة أشرطة وثائقية خاصة بالطيور التي غذت معارفه ومداركه العملية والعلمية في صناعة الطيور، مؤكدا أن حبه للطيور هبة من الله، والطيور التي يسهر على صناعتها، تأخذ منه وقتا كبيرا في التركيز لتشكيل جميع أجزائها، حتى لا يترك الفرصة للخطأ. في البداية، يقول، تأتي الفكرة الخاصة بالطائر الذي يهم بصناعته، التي يعتبرها غير سهلة، وعندما يستقر الاختيار يبدأ في وضع دراسة مدققة للطائر من ناحية البنيان والوظيفة والسلوك والأماكن التي يوجد بها وتاريخه وتطوره البيولوجي ونوع جلده، والريش المرن والخفيف الذي يغطي جناحيه، هذا بالنسبة للطيور الطائرة، والشيء نفسه بالنسبة لتلك التي لا تستطيع الطيران، أو التي تكون أجنحتها مختزلة كما هو الحال بالنسبة للنعامة وما شابهها، أو بالنسبة للتي لديها زعنفتان صغيرتان مثل البطريق وأجنحة طيوره، تكون مدعومة بأسلاك عوض العظام التي توجد في الطرفين الأماميين والمشدودان إلى جسم الطائر، بمفاصل تسهل حركتهما، فضلا عن كونها مركبة بتقنية كبيرة يسهل عملية فكها أو تركيبها، مغطيان عوض الريش الكثيف، بأوراق مجموعة من النفايات، اجتهد في انتقائها وتنظيفها وترتيبها حسب نوع الطائر الحقيقي وشكل الريش الذي يغطي جسمه، إذ أن موهبته الكبيرة تساعده كثيرا على صنع ريش الطائر الواحد تلو الآخر، فضلا عن صباغته ووضعها في أماكن حتى يجف، ويثبته بلصاق خاص، ثم ينتقل لتشكيل باقي الأجزاء. وأضح أنه استفاد كثيرا من مطالعة الكتب التي مكنته من اكتشاف عالم الطيور، وسبر أغوارها ما جعله يبرع في صناعتها على أشكال وحالات مختلفة، حيث أكتشف أن جناحي الطائر متساويان في الطول وعدد الريش المرتب بشكل منظم، وبدقة متناهية ليساعده على حفظ التوازن أثناء الطيران، وأن اتصال أجنحة الطير تكون من أعلى عظام القفص وهذا يمنع انقلاب الطائر أثناء الطيران، وللطيور القدرة على الوقوف والنوم على الأغصان دون أن تتعرض للسقوط حتى ولو كانت الرياح شديدة ويرجع ذلك إلى العضلات المحركة لأصابع القدم القوية التي تؤهل الطائر للقيام بهذه العملية، إذ يمكن له أن يثنى الأصبع الخلفي إلى الأمام والإصبع الأمامي إلى الخلف وتتعاون الأصابع في الإمساك بالغصن. وتختلف الطيور حسب الأنواع والأصناف المتفرعة عنها، ولديها ميزات عديدة، فرؤوس الطيور متباينة بتباين أنواعها وأصنافها، فلكل طائر رأس خاص به، فرؤوس النسور مختلفة عن الحمام، أو العصافير، أو الإوز أو البط، والطيور المتوحشة، ليست كالتي تربى في أقفاص، أو الطيور التي تعيش في الخلاء أو الغابات، مفيدا أن أعين الطيور مختلفة من حيث الحجم والشكل أيضا. اختار الفنان الجراري أن تكون أعين طيوره وحيواناته الورقية من أصداف الحلزون، إذ تربطه علاقة غريبة بهذا الكائن الصغير، الذي يصفه بأنه ذو جمال طبيعي أخاذ، لأن لكل حلزون مواصفات خاصة به دون غيره، من ناحية اللون والشكل، والرسوم الدائرية التي يحملها على ظهره، فوجد فيها مادة دسمة لتشكل أعين الطيور على اختلاف أنواعها، وأعين الحيوانات والديناصورات، وحتى الثعابين، حيث أنه برع في انتقائها حسب نوع الطائر أو الحيوان الذي يهم بتشكيله، بل انه وظف أصداف الحلزون في بورتري خاص بشخصه. طيور الجراري مهددة ينتاب مليود الجراري، في أغلب الأحيان، شعورا بالحزن، كلما تذكر أنه رجل متقدم في السن، وان متحفه يمكن أن يتعرض للتلف وللضياع من بعده، ويبقى أمله الوحيد أن يلقن هذا الفن للتلاميذ والطلبة، سواء في المدارس العمومية أو الخاصة، أو في فضاءات دور الشباب، كي تتوارث الأجيال المقبلة هذا الفن الراقي، سيما أنه قضى سنوات طويلة في اكتساب خبرة في صناعة الطيور والحيوانات الورقية، ففي البداية كان يشتغل في مصنع لتركيب الشاحنات بالدارالبيضاء، وفي أصعب مكان فيه، وهو "الفرن"، حيث تُعد صباغة الشاحنات، لأن ميلود الجراري كان العامل الأصغر سنا في قسم الصباغة، وكان يطبق جميع التعليمات، التي يتلقاها من رئيسه "عيطون"، وكان أيضا مشاكسا يحب المرح وتقليد الشخصيات، ضمنها شخصية المسؤول، فارتأى أصدقاؤه في الشركة أن لطلقوا عليه اسم "عيطون"، بعد تقاعد المسؤول عن الورشة. قبل تعاطيه صناعة الطيور الورقية، كتب الجراري أربع قصص، الأولى اختار لها عنوان "قلب في الشمس"، والثانية "فراغ في اليد"، والثالثة "سجين في إسطبل" ، والقصة الرابعة عنوانها ب"عيد الشجرة"، لكن قصصه لم يكتب لها النشر، ومازالت في رفوف بيته. توقف ميلود الجراري عن الكتابة لمدة طويلة، وانتابه شعور بالمرض وبالكسل، ومن ثمة يقول "اكتشفت الحلزون، هذا المخلوق الصغير الغريب"، مضيفا أنه كتب حوله قصة سماها "التفاؤليات"، إذ انه أخذ أربع حلزونات صغيرة، وكتب على ظهر الأولى كلمة "حب"، وكتب على ظهر الثانية كلمة "مال"، وترك حلزونتين دون أن يكتب عليهما أي شيء وكأنهما شاهدان، وألف من خلال الحلزونات الأربعة كوميديا أنجز من خلالها فرجة لعمال المصنع، وفي يوم آخر أخذ عجلة هوائية "شامبرير"، ووضع وسطه سلكا حديديا، في رأسه حلزونتين صغيرتين، فأصبح على شكل ثعبان طويلا، من ثمة أضحى الحلزون بالنسبة للجراري بمثابة الإلهام، الذي وسع خياله ومداركه، وشكل منه أعينا لطيوره وحيواناتها الورقية. وهكذا أصبح ميلود الجراري ميالا لصناعة الطيور والحيوانات من الورق والنفايات، و"فنانا بيولوجيا"، وهو الاسم الذي أعطاه إياه مجموعة من الفنانين التشكيليين الهولنديين الذين زاروا متحفه بالدارالبيضاء.