جاء كتاب "فكرة الإخراج السينمائي... كيف تصبح مخرجا عظيما؟" نتيجة لتجربة التدريس التي قام بها الناقد السينمائي الأمريكي الشهير، كين دانسايجر، لطلبة الإنتاج السينمائي في جامعة نيويورك، بالإضافة إلى تجربته مع المنتجين وفناني المونتاج المحترفين في معهد "مارريتس بينجر" بأمستردام من المهم بالنسبة إلى المتفرج أن يرى الفيلم باعتباره تجربة متسقة واحدة، وهو ما يعني أن كل العناصر تفسير النص، وأداء الممثلين، واختيار اللقطات، تعمل معا لكي تصنع تجربة موحدة للمتفرج، ولتتخيل على سبيل المثال أداء متحذلقا وسطحيا في فيلم مثل "أناس عاديون"، حيث الواقعية ومصداقية المشاعر شديدتا الأهمية في معايشة الفيلم، إن الوحدة والاتساق يعنيان أن أدوات الإخراج تعمل معا، وهذا هو هدف الفكرة الإخراجية الواضحة والقوية، التي تعزز وحدة تجربة مشاهدة الفيلم واتساقها. وسوف نسوق هنا أمثلة لتوضيح ذلك، وقد اخترت عامدا اثنين من الخطوط السردية البسيطة نسبيا لكي نوضح كيف تعمل فكرة المخرج. المثال الأول هو فيلم فولكر شلوندورف "اليوم التاسع" (2005)، فالقصة تحدث خلال تسعة أيام في عام 1942، حيث يعتقل كاهن كاثوليكي في معسكر داشاو، ويعامل وزملاؤه الكهنة بقسوة وإن كانت أقل من المعتقلين الآخرين، ثم يمنح تصريحا بتسعة أيام لكي يقنع أسقف لوكسمبرج بقبول السلطة النازية، ونحن نعلم أن الكاهن مثقف محترم وورع، وينحدر من عائلة مهمة في لوكسمبرج، وطوال ثمانية أيام يقوم بزيارة عائلته وسكرتارية الأسقف، ويزور قبر أمه، ويحاول الجميع الضغط عليه حتى لا يعود إلى داشاو ويعيش حياة أيسر، لكنه يعود في النهاية، ليعلن عن عدم خضوعه لمطالب النازيين. تتسم القصة بالبساطة، لكن فكرة المخرج شلوندورف تحول الفيلم إلى تجربة طاغية، ففكرة المخرج هي أن العالم في عام 1942 أصبح عالما بالأبيض والأسود، وبالنسبة إلى معظم الناس كان العالم أسود: حياتهم وكرامتهم، حيث يمكن انتزاع كل شيء منهم في لحظة، ومن جانب آخر كان هناك عالم أبيض، يحتشد بالسلطة والامتيازات، ويبدو أنه خالد إلى الأبد. في العالم الأسود لم يكن العنف والقسوة يغرفان حدودا، أما في العالم الأبيض فلم تكن هناك حدود لإطلاق العنان للشهوات والأنانية. ومن أجل العمل من خلال هذه الفكرة الإخراجية، فإن البداية هي في تفسير النص، ففي داشاو تكون البؤرة حول الموت، والقسوة، والتعذيب، والإذلال. أما في لوكسمبرج، حيث أجواء شقة عائلة الأب هنري، وإدارت الجستابو، والكنيسة، ومكتب الأسقف، والمدافن، فتلك الأماكن تبدو كما لو أنها لم تتأثر أبدا بما تمثله داشاو في القصة. وهناك شخصيتان نراهما يمثلان على الأخص الجانب الروحي: الأب هنري، وكاهن من النرويج ينتحر نتيجة معاناته في داشاو. إن الأب هنري يعاني أيضا لكنه يحافظ على إنسانيته رغم هذه المعاناة. وشقيق الأب هنري من رجال الصناعة، وقد اقترح سفر الأب هنري إلى باريس، أما أخته الحامل فإنها تعرض أن تستخدم كل صلاتها لتهريب هنري إلى سويسرا، ورغم ما تعنيه هذه المحاولات بالنسبة إلى كل منهما، فإن العائلة تريده أن يعيش، كما لو أنه هو المركز الروحي لها.