الداخلة على موعد مع النسخة الرابعة من منتدى "Africa Business Days"    شركات كبرى مثل Airbnb وBooking ضمن 158 شركة متورطة بأنشطة في المستوطنات الإسرائيلية    بوريطة يجدد بنيويورك تأكيد التزام المغرب بتطوير الربط في إفريقيا    منشور الخارجية الأمريكية واضح ومباشر: لا استفتاء، لا انفصال، الصحراء مغربية إلى الأبد    رقم معاملات المجمع الشريف للفوسفاط يتجاوز سقف 52 مليار درهم    بولس: الحكم الذاتي يضمن الاستقرار    نقابة الصحافة ببني ملال ترفض المنع    سفينة عسكرية إسبانية تنطلق لدعم "أسطول الصمود" المتجه إلى غزة    الحكم على الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي بالسجن لخمس سنوات    أكبر جمعية حقوقية بالمغرب تدين استهداف أسطول الصمود وتطالب الدولة بحماية المغاربة المشاركين    "أسطول الصمود" يتجه لقطاع غزة    أخنوش يشارك في اجتماع للفيفا بنيويورك بشأن التحضيرات لمونديال 2030    بلال نذير يستعد للعودة إلى المنتخب بعد نيل ثقة الركراكي    وفاة رجل تعليم بالحسيمة متأثرا بتداعيات محاولته الانتحار    نساء "البيجيدي" يطالبن الحكومة بجدول زمني لتفعيل قانون محاربة العنف ضد النساء    مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط يحتفي بنبيل عيوش وآيدا فولش وإياد نصار    مكافحة تلوث الهواء في باريس تمكن من توفير 61 مليار يورو    ترامب يهدد بتغيير المدن الأمريكية المستضيفة للمونديال بسبب "انعدام الأمان"    الدفاع الجديدي يعلن طرح تذاكر مواجهته أمام الرجاء    فيدرالية اليسار الديمقراطي تعلن عن دعمها للمطالب الشبابية    وفاة فيغار مهاجم أرسنال السابق            جولات وزير الصحة القسرية والمكوكية!    جمجمة عمرها مليون سنة توفر معطيات جديدة عن مراحل التطور البشري    الأصالة والمعاصرة.. من التأسيس إلى رئاسة حكومة المونديال    عبد الوهاب البياتي رُوبِين دَارِييُّو الشِّعر العرَبيّ الحديث فى ذكراه    أدب الخيول يتوج فؤاد العروي بجائزة بيغاس        بورصة البيضاء تبدأ التداولات بانخفاض        تركيا تعلن شراء 225 طائرة أمريكية    النرويج: السلطة الفلسطينية تتلقى دعما ماليا طارئا من الدول المانحة    حجز 9 أطنان من الأكياس البلاستيكية المحظورة وتوقيف مروج بالدار البيضاء    كيوسك الجمعة | السياقة الاستعراضية.. الأمن يوقف 34 ألف دراجة نارية            تراجع الطلب يؤدي إلى انخفاض نسبي في أسعار اللحوم بمجازر البيضاء    وزارة الداخلية تراهن على لقاءات جهوية في تحديث النقل بسيارات الأجرة    "أولتراس الجيش" تقاطع لقاء بانجول    نبيل يلاقي الجمهور الألماني والعربي    عامل الرحامنة يحفز مؤسسات التعليم    أخنوش: الملك يرعى أوراش المونديال    رامي عياش يسترجع ذكريات إعادة "صوت الحسن" وصداها العربي الكبير    الاتحاد الأوروبي يوافق بشروط على علاج جديد للزهايمر    تأجيل إطلاق المرحلة الأولى لبيع تذاكر "كان المغرب"    الاتحاد الأوروبي يجيز دواء "كيسونلا" لداء الزهايمر    البيضاء على وشك ثورة في مجال النقل بعد قطارات القرب    مئوية بي بي كينغ… صوت الجموع الخاص    حكيمي يكسر صمته: "تهمة الاغتصاب أقوى شيء حدث لي.. لقد شوهوا صورتي واسمي"    الجامعة الوطنية لأرباب محطات الوقود تنبّه الوزيرة بنعلي إلى استفحال ظاهرة البيع غير القانوني للمحروقات    مونتريال.. المغرب وروسيا يبحثان سبل تعزيز الربط بين البلدين في مجال النقل    دراسة: غثيان الحمل الشديد يرفع خطر الإصابة بأمراض نفسية        بوريطة: تخليد ذكرى 15 قرنا على ميلاد الرسول الأكرم في العالم الإسلامي له وقع خاص بالنسبة للمملكة المغربية        الجدل حول الإرث في المغرب: بين مطالب المجتمع المدني بالمساواة وتمسك المؤسسة الدينية ب"الثوابت"    الرسالة الملكية في المولد النبوي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التربية على الحدود.. التربية على الحياة
نشر في المساء يوم 04 - 06 - 2008

قد نتساءل يوما عن السبب الذي يجعلنا ننأى عن الإساءة إلى شخص ما كان بإمكاننا الإساءة إليه دون أن يعلم أحد، ولكننا لم نسمح لأنفسنا بفعل ذلك، ربما لأنهم أحسنوا تربيتنا وتهذيبنا بقولهم لنا في يوم من الأيام «راه يلا درتي هاد الحاجة الله غادي يفلسك ويمسخك»، أو «غادي يضحكوا عليك الناس»، أو «ماغاديش تكون أحسن واحد فدراري ديال العائلة والجيران»، أو بكل بساطة «غادي نقتلك بالعصا وما غاديش تبقا ولدي، غادي نجيب واحداخور يكون ولدي».
ولأننا كنا صغارا نستقي الحقيقة من عيون الآخرين وكلامهم ونسقيها بمخيلتنا ليتضخم حقها وأحقيتها في رسم ملامح شخصياتنا، ارتجفت أجسادنا عند تفكيرنا في أننا قد نتحول يوما إلى قردة، أو نصبح محط سخرية الناس، وحرصا منا على أن نكون أحسن من غيرنا بل وأفضلهم، ونتجنب صفعة قد تلتصق بواسطتها يد كبيرة على وجوهنا البريئة الصغيرة فتضل ملتصقة إلى الأبد، ولكي نضمن ألا أحد يمكنه أن يقصينا ويحل مكاننا، لم نفعل شيئا قبيحا للآخر الذي لعبنا معه يوما أو تقاسمنا معه لحظة الانتشاء بحلوى. لم نسئ إليه لأننا مهذبون وآباؤنا وأمهاتنا أحسنوا تربيتنا ومن العار أن نخذلهم. ومن يدري ربما إن نحن خذلناهم أسقطونا من دفتر الحالة المدنية دون علمنا، ليضعوا بدل حروف أسمائنا حروفا لم تتعود أناملنا الصغيرة على كتابتها.
كثير منا لم يسئ يوما إلى شخص ما لأنه يحبه، لأنه أبوه أو أمه أو أخوه أو زوجته أو صديقه، ولكن من منا لم يسئ إلى شخص ما لأنه يحبه رغم أنه لا يعرفه، لا يعرف اسمه أو عنوانه أو سنه أو قصته أو انتصاراته وهزائمه، إحباطاته وأحلامه، فضائله وعيوبه. يحزنني أن أرى آباء وأمهات كثيرون يحرصون على تربية أبنائهم «أحسن» تربية دون أن أشاهد على قناة مغربية برنامجا مخصصا فقط للتربية يسائلها ويساءل الآباء والأمهات، ويقارب بشكل جديد ومختلف هذه «الأحسن تربية» ويعيد النظر فيها. فنظل إلى الأبد نظن أن القواعد التي يجب أن تسري عليها حياة أطفالنا سطرت بشكل نهائي منذ اللحظة التي اعتقدنا فيها أن المفهوم الوحيد للتربية هو ذلك الذي اكتسبناه وسرنا على خطاه دون مشيئتنا، وبالتالي فهو الذي يجب أن نقتدي به إن تعلق الأمر بتربية أو توجيه أو تفكير في حياة شخصية مازالت جد هشة ولديها قدرة هائلة على امتصاص ما يقدم لها من المحيط الخارجي، إنها شخصية طفل تحتاج إلى تربية لكي تنضج وتتفتح وتنمو ولكن عن أية تربية نتحدث؟!
أهي التربية التي تصنع منا نسخا طبق الأصل لبعضنا البعض وتحرص كل الحرص على استلابنا فتمنع ذلك البريق الذي يضفي على كل واحد منا سحرا خاصا به من الانسياب في مجرى الحياة، لتنساب بدورها طاقاتنا الخفية والمختلفة، وتعبر عن نفسها بشكل يقربنا من أنفسنا بدل أن يبعدنا عنها؟! أم هي التربية التي تساعد الطفل على رسم الحدود الفاصلة بينه وبين الآخر، سواء كان هذا الآخر أمه أو أبوه أو أصدقاءه أو آخر إنسان يمكن له أن يلتقي به في هذا العالم.
إنها التربية التي تدفع الطفل إلى مساءلة ذاته والعالم من حوله، والتفكير بإبداع وإنسانية في القضايا التي تشكل بالنسبة إليه المحور الذي تدور حوله أيامه واهتماماته، ابتداء من اليوم الذي يكون فيه كل تفكيره مرتكزا على اللعبة التي سيقع عليها اختياره يوم العيد إلى اليوم الذي يجد فيه نفسه ككل الناس في ملتقى الطرق التي تفصل بينه وبين التفاهة والبهلوانية، وبين القدرة على امتلاك حس نقدي ونظرة عميقة تجاه ما يريد أن يفعله بحيات. إنها التربية التي تسمح له بالإحساس بالحب والأمان والانتماء إلى أسرة، دون أن تسمح له باقتسام غرفة النوم ليلا مع أبويه، لكي تشجعه على إقامة الحدود الفاصلة بين علاقته بوالديه كوالدين وبين علاقته بهما كزوجين لديهما حياتهما الحميمة التي تجعل دورهما داخل البيت غير منحصر في دور الأب والأم، وإنما يشمل دور الزوج والزوجة أيضا.
فمثلما يشعر هذا الكائن الصغير بالفرحة حينما يحضنه أبوه أو أمه ويقبلانه ويهتمان بما يمكن أن يدخل السعادة إلى قلبه الصغير، مثلما هو بحاجة أيضا إلى الشعور بالإحباط، إذا ما أراد النوم على فراش واحد معهما، أو انتزاع لعبة من يد طفل آخر، أو القيام بشيء قد يضره أو يضر بالآخرين.
ولكن ما هي الطريقة التي نحبط بها أبناءنا؟ هل الوهم هو الذي يحبطهم، فإذا ما انقشع ضبابه يوما عن أعينهم فعلوا كل ما يرغبون به؟ أم هو مبدأ إنساني ذاك الذي يقف حاجزا بينهم وبين رغباتهم المدمرة؟ ماذا عن طفل قيل له حين سرق قطعة حلوى إنه لو أعاد فعل ذلك مرة أخرى سيزوره الغول ليلا ليبتلعه بشراسة، وحينما كبر الطفل اكتشف ألا وجود لشيء اسمه الغول. وفي يوم ما أصبح الطفل وزيرا وإذا به ينهب مال المساكين والمحتاجين ويستغل منصبه للقيام بأبشع الأمور التي تعتبر بالنسبة إليه هي الشيء الوحيد الذي يجب القيام به. «ولم لا مادام الغول غير موجود؟!».
إن الإحباط الذي يشعر به الطفل حينما يرغب في القيام بشيء لا يصح القيام به، يساعده على التنازل عن التمركز حول الذات وتقبل الحياة كما هي بكل ما يمكنه أن يستمتع به فيها، وبكل ما يمكنه العزوف عنه لأنه قد يؤذيه ويؤذي المحيطين به. فالإحباط إذن يرسم الحدود التي لا ينبغي للطفل تجاوزها لكي يعيش مع الآخر دون أن يقصيه أو يحطمه، إنه الإحباط الذي يدفع الشخصية إلى اكتساب الأدوات الصالحة والسليمة ل مساءلة العالم من حولها وخلق الفضاء المناسب الذي يمكن للذات أن تتحرك فيه دون أن تفقد خصوصيتها وتميزها وحبها لنفسها ولغيرها، وقدرتها على الأخذ الذي يغني طاقاتها والعطاء الذي يعزز وجودها وانتماءها الإنسانيين. فالإحباط يبني ويجمل ويهذب ويأنسن العلاقة بالآخر، إذا لم يكن الإحساس به ناتجا عن اعتقاد خاطئ أن رغبتنا أحبطت لأن غولا قد يبتلعنا، أو يدا قد تصفعنا أو لعنة ما سوف تلحق بنا. كثير منا يرى أن الطفل كائن غبي عاجز عن استيعاب بعض المبادئ الكبرى التي إن لم يلتزم بها الكون دمر على الفور. ولأن الطفل جزء من الكون وينتمي إليه، يمكنه أن يوظف مبدأ من هذه المبادئ في عدة مواقف يعيشها ويحسها. فإذا سألنا يوما عن السبب الذي يجعل الشمس معلقة على الدوام في السماء وعن السبب الذي يمنعها من الالتصاق بالأرض، أدرنا وجوهنا عنه، أو أكدنا له أن هذه الأشياء لا تعنيه، أو ربما قد يفهمها حينما يكبر.
ولكن ماذا لو قلنا له إن الشمس تقطن السماء لأن موقعها هناك يمنعها من تدمير نفسها وتدميرنا نحن البشر إن اقتربت منا أكثر في يوم من الأيام أو ابتعدت أكثر، وإننا نحتاج إلى دفئها ونحتاج إلى غيابها مثلما نحتاج إلى حضورها. نحتاج إلى دفئها لكي لا نموت بردا، وإلى غيابها لكي نستمتع بالليل وسكونه ونجومه، ونحتاج إلى حضورها لنتمتع بالضوء الذي يتسلل منها إلينا، وبفيتامين D الذي يقوي عظامنا، وإلى أشعتها التي تلعب دورا مهما في نمو النباتات والأطعمة التي نتناولها والتي لا يمكننا الاستغناء عنها.
ماذا لو قلنا له إن الشمس لا تلتصق بالأرض لأنها قادرة على الالتزام بحدودها التي لا يمكنها أن تتجاوزها، ولديها مكانها الخاص بها ولا يمكنها الاعتداء على الآخرين واحتلال مكانهم، كأن تحاول الالتصاق بالأرض لتحل محلها مثلا. فالشمس جزء من الكون وبمحافظتها على حدودها فيه تساهم في الحفاظ على نفسها والحفاظ عليه.
إن ما سبق ذكره لمثال بسيط لإجابة من بين آلاف الإجابات التي يمكن أن يتلقاها طفل يطرح سؤالا على والديه في حالة من الحيرة والحاجة إلى تحقيق الرغبة في السؤال والمعرفة، إنه يطرح سؤالا محددا ودقيقا، لكن إجابتنا يمكن لها أن تشجعه وتساعده على الوعي والانفتاح على أشياء أخرى أو ربما مبادئ كبرى. فمن الحديث عن الشمس والسماء والأرض، يمكننا الانتقال إلى الحديث عن الليل وهدوئه، وعن فيتامين D وأهميته، إلى أن نصل إلى الحديث عن ضرورة احترام كل منا لحدوده لكي نحافظ على بعضنا البعض ونعيش مع بعضنا البعض، لأن في الالتزام بهذه الحدود اعتراف بالغير واقتناع بحقه في الاستمتاع بالحياة مثلما نتمتع نحن بنفس هذا الحق. ما أحوجنا إلى الاعتراف بحاجة طفل صغير إلى الحديث والسؤال والاستفسار، وما أحوج مجتمعنا إلى تربية تعيد رسم الحدود بألوان لا تستأصل البراءة من عيون أطفا لنا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.