بعيدا عن التاريخ المفترى عليه المرتبط بامتداد جذور المغرب إلى إفريقيا والخاص بالجزء المتعلق بصحرائه، في سياق ارتبط كما هو معلوم بالمرحلة الاستعمارية من جهة وبدكتاتورية جوار فرضتها مرحلة المد والجزر بين سياسة الاستقطاب والاحتواء عبر الشرق والغرب.. ولعل مفترق طرق هذا النزاع المفتعل ستتضح معالمه بشكل يكشف النوايا المزعومة والحقائق المغلوطة، منذ إطلاق المغرب لمبادرة الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية، فثلاث سنوات كانت كافية ليفهم الجميع، على المستوى الدولي، أن جبهة البوليساريو ومن ورائها الجزائر حاولت، لسنوات طوال، الادعاء بأنها حركة سياسية تناضل من أجل حق تقرير المصير، وبطبيعة الحال عمدت، من أجل ذلك، إلى نهج أساليب تخرق المواثيق الدولية وتكفر بالشرائع السماوية من قبيل الاختطاف الجماعي للقبائل والاحتجاز القسري لمئات الأسر والأفراد بمخيمات الحمادة، قبل أن يتفنن الجلادون في أساليب التعذيب والتنكيل والمهانة ضد مئات الأشخاص، مغاربة وموريتانيين وماليين ونيجيريين وغيرهم، سواء منهم من يعارض الرأي أو الاستعباد الذي اختطف من أجله أو التوجهات المعدة سلفا من طرف مسؤولي جهاز الأمن العسكري الجزائري. فالاستراتيجية الجزائرية آنذاك، والمعبر عنها صراحة بدعم جبهة البوليساريو عسكريا وماديا ولوجستيكيا، كانت تستند إلى تقعيد نهج ينبني على توجهين أساسيين: - استهداف التاريخ البطولي لجيش التحرير بالأقاليم الجنوبية ضد الاستعمار الإسباني من خلال العمل على تبخيس أدواره الطلائعية وتشويه صورته واستبداله بما اصطلح عليه الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب. - التوجه الثاني كان أشد إرهابا ورمى إلى تكثيف الحملات الشرسة ضد القبائل والأعيان والعلماء من أبناء الصحراء المغربية بهدف التدجين وفق جدول ضرب سطره جهاز الأمن العسكري الاستخباراتي الجزائري، أساسه الاختطاف والاحتجاز والتحقير والتصفية الجسدية، لبث الرعب بفرض تحقيق الحلم الهلامي المتمثل في خلق دولة هلامية. لقد شكلت انتفاضة 1988 محطة تاريخية فاصلة، حيث أصبح الكل يصرح داخل المخيمات برغبته في العودة إلى الوطن الأم في تحد للقمع والتعذيب، لتتأصل فكرة العودة بصدور النداء الملكي «إن الوطن غفور رحيم»، ولم يعد هاجس الفرار يقتصر على المدنيين من شيوخ ونساء وأطفال، بل هيمنت الرغبة منذ ذلك الوقت على عدد من مؤسسي وقادة الجبهة بمنطقة الرابوني، رافضين الاستمرار في لعبة الرهان الخاسر الذي تقوده البوليساريو بالوكالة عن النظام العسكري الجزائري. غير أن التحول الجذري الذي يعرفه ملف الصحراء اليوم، من خلال الإجماع الدولي على أن المبادرة المغربية حول الحكم الذاتي تخريجة سياسية وسلمية تحتمل حكمة أساسها مفهوم رابح رابح في سبيل إنهاء نزاع استطال 35 سنة، جعل الموقف المغربي أكثر صلابة من خلال صمود المبادرة منذ إطلاقها إلى الآن في ظل سياق دولي سمته الأساسية الهاجس الأمني بالمنطقة بعد أن صارت الجزائر والبوليساريو أرضية خصبة لتنامي الخلايا الإرهابية بها، بالنظر إلى استمرار العمل المسلح داخل التراب الجزائري وبالنظر إلى التشتت الحاصل داخل قيادة البوليساريو وتحول الميليشيات إلى أعمال المتاجرة في كل شيء والتنسيق مع كل التنظيمات الإرهابية والعصابات الإجرامية بمنطقة الساحل جنوب الصحراء، وهو ما تأكد من خلال مشاركة عناصر البوليساريو في عمليات إرهابية بموريتانيا خلال هذه السنة. ومن الناحية الاستراتيجية، فإن المبادرة خلقت حراكا وصل إلى درجة اختراق الأجهزة الاستخبارية والأمنية الجزائرية، وهو ما جسده نزيف العودة إلى أرض الوطن، حيث وصل عدد العائدين خلال ثلاثة أشهر إلى أزيد من ألف شخص مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف الطبيعية القاسية، لينضاف إلى ذلك إعلان المفتش العام للشرطة في مخيمات تيندوف مصطفى ولد سلمى عن الرغبة في فض النزاع، منوها بمبادرة الحكم الذاتي كحل ينهي الحقائق المعنية من خلال فتح حوار صريح تكون خلاصته وضع حد للمآسي والمعاناة داخل المخيمات بل وإنهاء الحجر الجزائري الذي يحول الصحراويين إلى قاصرين غير قادرين على اتخاذ مواقف تهم مصيرهم، وهو أمر يتنافى مع أنفة وعزة سكان الصحراء تاريخيا. أمام هذه المكتسبات الدولية التي حققتها المبادرة المغربية على الصعيد الدولي وقفزها على المؤامرات الجزائرية الرامية إلى إعادة الملف إلى نقطة البداية، فإن المتوقع خلال هذا الموسم أن تصعد الجزائر من مواقفها العدائية تجاه المغرب وفق استراتيجية عمادها التشويش على التطور الإيجابي الذي يعرفه، خصوصا في الجانب الحقوقي، وقد دشنت بالفعل هذا العمل بإنزال جمعيات إسبانية مرتزقة بالصحراء المغربية قصد إثارة القلاقل وتوجيه أنظار الرأي العالمي إلى المنطقة في إطار دعاية معرضة. وهذا التوجه الاستراتيجي الجزائري انتقل من تحريك ما يسمى بانفصاليي الداخل الذين لا يتجاوز عددهم حتى عشرين فردا إن كانوا لازالوا يصلون إلى هذا العدد، بضربة إعلامية ناجحة لأميناتو ومجموعة التامك ومجموعة النعمة، إلى تحريك الأجانب داخل المغرب. وإن كان من أمر تفرضه الوطنية الراسخة دفاعا عن الوحدة الترابية وسيادة ومقدسات البلد، فإن التحذير للدبلوماسية المغربية بأن المخطط الجزائري سيكون أكثر شراسة هذه السنة في العواصم الدولية، وقد يذهب إلى استهداف النخب المغربية الفاعلة في الملف خارج التراب الوطني، لأن الحسابات قد انقلبت والجزائر لن تسمح بكرة في مرماها لوقت أطول.