«الشيء إذا زاد عن حده ينقلب إلى ضده»، وهناك ظاهرة أخذت أبعادا مبالغا فيها خلال السنوات الأخيرة حتى تحولت إلى نقضيها: من مصالحة جدية مع الذات إلى هذيان سخيف يدعو إلى السخرية والضحك. وأقصد «تمجيد الوطن» أو«الوطنية الزايدة على القياس»، ما يصطلح عليه ب«تامغريبيت». فجأة، أصبح الجميع يردد، بمناسبة وبغير مناسبة، أننا «مغاربة تالموت»، ويرفع صوته وأصابعه ويخرّج عينيه، رغم أن العبارة تحصيل حاصل، لأن كل مغربي سيبقى مغربيا ليس فقط حتى الموت بل حتى ما بعد الموت، لأن «الشتا بالبيصارة» يمكن أن تسقط -كما تقول جدتي- والجنسية المغربية لا تسقط! ونادرا ما يصعد مغن إلى الخشبة، خلال السهرات وبرامج التلفزيون، دون أن يلبس الراية كأنه ذاهب إلى المسيرة. وقبل الأغنية وبعدها، يلقي بعبارات من قبيل «عاش المغرب» و«حنا مغاربة»... كأن الجمهور يتوهم أنه قادم من أمريكا. بل حتى المطربون العرب، الذين تضاعف حبهم للمغرب في السنوات الأخيرة، بسبب الدولارات المحترمة التي يعودون بها كل مرة يزورون فيها مهرجاناتنا السخية، صاروا مهووسين ب«تامغريبيت»... ولكل شيء ثمنه. يبدو أن التفاوض معهم يجري وفق أربعة اقتراحات، يزيد فيها الثمن كلما ارتفعت درجة «تامغريبيت»: الغناء لوحده، الغناء مع الراية، الغناء مع الراية والقفطان، الغناء مع الراية والقفطان و«علاش ياغزالي»... و«زيد الما زيد الدقيق». هكذا تحولت مصالحة المغاربة مع الذات، التي جاءت بعد سنوات من القمع والكبت ومصادرة الحريات، إلى تمجيد سخيف ومفتعل ل«تامغريبيت». الكل صفق للظاهرة عندما بدأت تأخذ أشكال الاهتمام بقضايا المغاربة الحقيقية وأحلامهم وفجرت المسكوت عنه طوال عقود، وعندما باتت وسائل الإعلام والإنتاجات الفنية تتحدث لغة المغاربة وتتطرق إلى همومهم وانشغالاتهم، بعد أن كانت تعالج مشاكل فرنسا والشرق العربي. لكن المصالحة مع الذات انقلبت بالتدريج إلى «شوفينية» ردئية، تريد استبدال العربية بالدارجة، والتضامن مع إسرائيل بدل فلسطين، ووضع العربي في مواجهة الأمازيغي، والانقلاب على قيم المغاربة... باسم «تامغريبيت». لقد واكبت الظاهرة ما سمي ب«طي صفحة الماضي»، وساعدت على التخلي عن المازوشية وجلد الذات، التي ورثناها عن سنوات الجمر، حتى إن البعض سارع إلى إغداق تسميات كبيرة عليها ومقارنتها ب«لاموفيدا» الإسبانية، متحدثين عن «ثورة ثقاقية» و«ثوار جدد»... لكن «سبع ايام ديال الباكور سالات»، وبسرعة تحولت الظاهرة إلى صيغة منقحة ومزيدة من «كولو العام زين. لا ثورة ولا بقرة ولا هم يحزنون، وبدل «الثوار» رأينا ثيرانا «تزعرط» على الخشبات من مهرجان إلى مهرجان، لا أعرف الفرق بينهم وبين من كانوا يغنون أيام «أضواء المدينة» و«السهرات الفنية الكبرى». صار المغرب مختصرا في «الراية» و«القفطان» و«منبت الأحرار» التي تتعالى من البورطابلات، وتحولت الأغاني الوطنية إلى أغان ضمن كلاسيكيات الكاباريهات والعلب الليلية، لا تقل شعبية عن «يوم يشبه يوم» و«كعكع يا زبيدة». وفي كل بيران المملكة، يرفع آلاف السكارى كؤوسهم في آخر الليل وهم يرددون مقاطعها.