من يريد تحسس ملامح العهد الجديد الذي بدأ في مصر يوم الجمعة الماضي، بإجبار الرئيس حسني مبارك على الرحيل، فإن عليه أن يتابع قنوات التلفزة المصرية والانقلاب الكبير الذي حدث في برامجها ولهجتها ونوعية ضيوفها. فمن كان يصدق أنه سيرى، في يوم من الأيام، الأستاذ محمد حسنين هيكل جالسا في استوديو محطة دريم «ضيفا» في برنامج المذيعة اللامعة منى الشاذلي، أو يشاهد الزميل الأستاذ حمدي قنديل، الذي هاجر إلى محطات عديدة على طول الوطن العربي وعرضه بحثا عن مكان «لقلم رصاصه»، يكون ضيفا على قناة «المحور» أو الفضائية الرسمية؟ هذه القنوات المصرية كانت تدار من قبل منظومة حكومات محور الاعتدال العربي، ووفق قائمة سوداء تضم أسماء عديدة من الإعلاميين والكتاب المصريين والعرب. وبمجرد انهيار محور الارتكاز الأساسي لهذه المنظومة في القاهرة، تغيرت الصورة بالكامل وأصبحنا أمام مرحلة جديدة بوجوه جديدة، وإعلام جديد سيغير الخريطة الفضائية ومن بعدها السياسية العربية حتما، فالإعلام هو الذي يضع الأجندات السياسية هذه الأيام، وليس العكس مثلما كان يحدث على مدى الستين عاما الماضية. الثورة الشعبية الكبرى التي اندلعت في مصر ونظيرتها التي سبقتها في «تونس الكرامة» أعادتا صياغة المنطقة ورسمتا خريطة جديدة لشرق أوسط جديد، ولكن بعيون عربية ترى المستقبل من ثقب المصالح الوطنية، وبمنظار عربي إسلامي، وليس بعيون أمريكية أو ديكتاتورية توريثية. زمن الأحكام العرفية، والدول البوليسية، وإفساد القضاء، ونهب ثروات الفقراء المحرومين، وحصر الوظائف، والمناقصات، والمناصب العليا في أطر الأسر الحاكمة وبطانتها الفاسدة في طريقه إلى الانقراض وبسرعة قياسية، وفي أكثر من بلد عربي. مصر تشهد حاليا «عملية تنظيف» تبدأ من أرض ميدان التحرير، وعلى أيدي شباب الثورة، لتنطلق إلى كل رموز الفساد المسؤولة عن «تقزيم» مصر ودورها الريادي الطليعي، في مؤسسات الدولة، في البرلمان المزور، في مجلس الشورى المفبرك، في الوزارات، في الإعلام، في السفارات.. في كل مفاصل الدولة. الرابحون من هذا الزلزال الأكبر في تاريخ المنطقة كثر، أبرزهم فقراء الشعب المصري وأحراره وشرفاؤه الذين عانوا كثيرا على مدى السنوات الأربعين الماضية تقريبا، ومعهم مئات الملايين من العرب الذين عاشوا الذل والهوان بعد انسحاب مصر من المواجهة مع المشروع العدواني الإسرائيلي، والانتقال من المعسكر التقدمي إلى المعسكر الأمريكي رافعة الراية البيضاء أسيرة لفتات المساعدات. الخاسرون كثر أيضا، وعلى رأسهم الغالبية الساحقة من الزعماء العرب الذين استمرؤوا احتقار شعوبهم وحولوا بلدانهم إلى «عزب» لهم ولأولادهم وأحفادهم وكل من تفرع عن نسلهم، فهؤلاء يرتعدون خوفا وهم يرون الإدارة الأمريكية تنحاز مكرهة إلى الثوار في ميدان التحرير، وتتخلى عن زعيم (مبارك) كان خادما وفيا لمصالحها، مشاركا بحماس في حروبها، حاميا مخلصا لحدود حليفها الإسرائيلي. الولاياتالمتحدةالأمريكية خسرت، في الرئيس مبارك ونظامه، الثقلَ الحقيقي لسياستها الخارجية ومشاريعها في الهيمنة على المنطقة، مثلما خسرت حليفا قويا في حربها المقبلة ضد إيران والحالية في كل من أفغانستان والعراق، فالحلفاء العرب الباقون في المملكة العربية السعودية والخليج والأردن وشمال إفريقيا يظلون هامشيين بالمقارنة مع مصر، ولم يخوضوا حربا واحدة بمفردهم ومن دون الاستعانة بالقوات الأمريكية (إخراج العراق من الكويت)، أو التصدي للثورة الإيرانية الخمينية (من خلال النظام العراقي السابق). النفوذ الأمريكي في المنطقة في حال انحسار متسارع، وهو نتيجة منطقية لسياسات جسدت النفاق الأمريكي الغربي في أبشع صوره، فكيف لأمريكا، الدولة التي تدعي قيادة العالم الحر، أن تدعم أنظمة بوليسية تحت مسميات الاستقرار ومحاربة وهم التطرف الإسلامي؟ سماسرة السلام المغشوش لا يمكن أن يحققوا استقرارا، لأن ما يهم هؤلاء هو ملء جيوبهم بالأموال، والحصول على دعم وحماية الذين يسمسرون لهم على حساب شعوبهم وتعاليم دينهم وعقيدتهم ومبادئ أمتهم الأخلاقية العريقة. ولعل إسرائيل هي الخاسر الأكبر، ومعها السلطة الفلسطينية من انهيار نظام الرئيس مبارك، فقد كان الحضن الحنون للطرفين، والدرع التي توفر لهما الأمان والبقاء والشرعية. حجيج بنيامين نتنياهو وإيهود باراك وفؤاد بن أليعازر وتسيبي ليفني وشمعون بيريز وغيرهم إلى منتجع شرم الشيخ، حيث السجاد الأحمر والاستقبال الحار والضيافة العربية الأصيلة، هذا الحجيج سيتقلص إن لم يكن سيتوقف نهائيا، ولن تستطيع تسيبي ليفني إعلان الحرب على غزة وهي تقف إلى جانب رئيس مصر العظيمة، ولن يتباهى وزير مصري بتكسير عظام الشرفاء المحاصرين في قطاع غزة، فهذه السنّة غير الحميدة انكسرت، وربما إلى غير رجعة. السلطة الفلسطينية في رام الله يجب أن تعود إلى ثوابتها وتعيد النظر في كل مواقفها وسياساتها، فقد ذهب الرئيس المصري الذي وفر لها الدعم والملاذ على مدى العشرين عاما الماضية، ذهب إلى المجهول تطارده أرواح الشهداء الذين مزقت أجسادهم الطاهرة رصاصات أمنه، ولن تجد هذه السلطة رئيسا مصريا منتخبا يقف في خندقها بعد أن يطلع على مسلسل تنازلاتها في القدسالمحتلة وحق العودة. فعندما يرحب الرئيس الأمريكي باراك أوباما بانخراط الإخوان المسلمين في الحوار مع حكومة مبارك في الدقائق الأخيرة من عمرها، فلا يوجد أي سبب لكي لا يرحب بحوار حكومته مع حركة «حماس»، ورفع «الفيتو» المفروض عليها من قبل إسرائيل، ولن نستغرب أن يتخلى أوباما وغيره عن هذه السلطة مثلما تخلى عن راعيها الأبرز حسني مبارك، فالمنطقة تتغير والمنطق يتغير، وأمريكا أيضا. الزحف الوطني الديمقراطي انطلق من تونس الكرامة، وحط رحاله في أرض الكنانة، وسيقفز منها حتما إلى محطة جديدة، ستكشف لنا الأيام أو الأسابيع المقبلة عن اسمها، وما أكثر المحطات العربية التي تتلهف على استقبال هذا الزحف المقدس. فالمثل الشعبي العربي يقول: «لقد كرّت السبحة» والأيام المقبلة أيام عزة وكرامة وتغيير انتظرته الشعوب طويلا، ألم نقل لكم؟!