ظل حلم الحصول على دستور ديمقراطي بالمغرب حاضرا باستمرار لدى الطبقة السياسية والفكرية في بلادنا طيلة قرن من الزمن، منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، منذ أن عملت فئة من النخبة الفكرية والعلمية بالمغرب على وضع مسودة أول مشروع دستوري عام 1908 بتأثير من رياح الشرق، التي كانت تهب على المغرب من الإمبراطورية العثمانية. وبالرغم من توالي إصدار الدساتير في المغرب والتعديلات الجزئية، التي كانت تخضع لها منذ العام 1962، فإن دستور 1908 ظل مطمحا للجميع، إذ كان بمثابة المرجعية التاريخية التي تقاس عليها جميع المكاسب الديمقراطية في المغرب. ويمكن القول إن دستور 2011، الذي أعلن عنه الملك أول أمس في خطابه بعد ثلاثة أشهر من المشاورات والمداولات، يرسم قطيعة مع الدساتير الممنوحة، التي كان يشرف عليها فقهاء دستوريون فرنسيون، ويعلن الابتعاد كثيرا عنها، بينما يؤكد القرب النسبي من طموحات الجيل الأول من المغاربة، التي عبر عنها مشروع 1908، على الأقل من حيث المنهجية الديمقراطية، حيث إنه لأول مرة يتم إشراك الطبقة السياسية والمجتمع المدني في وضعه، إذ كان التقليد السابق يقضي بأن يتم وضع مشروع الدستور داخل القصر بإشراف أجانب، ثم يتكلف الملك بمنحه للمغاربة، الذين يطلعون عليه للمرة الأولى أثناء الاستفتاء «التأكيدي»، بينما اعتمد وضع المشروع الجديد منهجية مقلوبة، إذ تم وضعه من قبل لجنة مثلت فيها مختلف التوجهات المجتمعية، ثم رفع إلى الملك كي يطلع عليه، وخرج جزء كبير من مضامينه إلى الرأي العام المغربي في مواكبة للنقاشات التي كانت تدور حوله. نص الدستور الجديد في تصديره على أن المغرب دولة إسلامية ذات سيادة متشبثة بوحدتها الترابية وفاعلة ضمن المجموعة الدولية، وعلى أن الإسلام دين الدولة، التي تضمن للجميع حرية ممارسة الشعائر الدينية، وعلى تكريس الأمة المغربية لوحدتها وعلى التنوع المستمد من روافدها التي رسخت هويتها العربية والأمازيغية والحسانية والصحراوية -الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية، وكذا تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار من أجل التفاهم بين مختلف الحضارات الإنسانية. كما تم ترسيخ مكانة اللغة العربية كلغة رسمية والتنصيص على وسائل النهوض بها، واعتبار الأمازيغية لغة رسمية إلى جانب العربية، مع الإحالة على قانون تنظيمي يحدد كيفيات إدماجها في التعليم وفي القطاعات ذات الأولوية في الحياة العامة. ونص المشروع على أن القانون هو التعبير الأسمى عن إرادة الأمة، وعلى مساواة جميع المواطنات والمواطنين أمام القانون. وأكد المشروع على انتخاب ممثلي الشعب داخل الهيئات المنتخبة الوطنية والترابية بالاقتراع العام المباشر، وبشكل تكون فيه الانتخابات الحرة النزيهة والشفافة أساس الشرعية والتمثيلية الديمقراطية، وعلى مبدأ الربط بين ممارسة المسؤوليات والمحاسبة. كما أكد على تكريس الملكية المواطنة الضامنة للخيارات الأساسية للأمة، والتي تتولى مهام السيادة والتحكيم الأسمى من خلال تحديد سن رشد الملك في 18 سنة إسوة بكل المواطنين المغاربة. وفيما يخص إمارة المؤمنين ميّز المشروع بين صلاحيات الملك، بصفته أميرا للمؤمنين الذي يرأس المجلس العلمي الأعلى، الهيئة الوحيدة المؤهلة لإصدار فتاوى رسمية، وبين صلاحياته بصفته رئيسا للدولة، وخول رئيس الحكومة سلطة تنفيذية فعلية وجعل البرلمان مؤسسة قوية ذات صلاحيات واسعة تشمل ممارسة السلطة التشريعية والتصويت على القوانين ومراقبة الحكومة وتقييم السياسات العامة. وفي إطار منح المواطنين المزيد من المشاركة في التشريع منح الدستور الجديد للمواطنين والمواطنات الحق في تقديم عرائض إلى السلطات العمومية، على أن يحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسة هذا الحق، ومنح للمغاربة المقيمين بالخارج حقوق المواطنة كاملة، بما فيها حق التصويت والترشيح في الانتخابات، ونص على إحداث هيئة للتكافؤ ومكافحة كل أشكال التمييز، في إطار تحقيق مبدإ التكافؤ بين الرجال والنساء. ونص الدستور الجديد أيضا على أن حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها، وعلى أن السلطات العمومية تدعم بالوسائل الملائمة تنمية الإبداع الثقافي والفني والبحث العلمي والتقني والنهوض بالرياضة، كما يسعى إلى تطوير تلك المجالات وتنظيمها، بكيفية مستقلة، وعلى أسس ديمقراطية ومهنية مضبوطة. وأقر الدستور الجديد، لأول مرة، بالحق في الحصول على المعلومات الموجودة في حوزة الإدارة العمومية، والمؤسسات المنتخبة، والهيئات المكلفة بمهام المرفق العام، وعلى أنه لا يمكن تقييد الحق في المعلومة إلا بمقتضى القانون، بهدف حماية كل ما يتعلق بالدفاع الوطني، وحماية وأمن الدولة الداخلي والخارجي، والحياة الخاصة للأفراد، وكذا الوقاية من المس بالحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في هذا الدستور، وحماية مصادر المعلومات والمجالات التي يحددها القانون بدقة. كما نص على أن حرية الصحافة مضمونة، ولا يمكن تقييدها بأي شكل من أشكال الرقابة القبلية، وعلى أن السلطات العمومية تعمل على تنظيم قطاع الصحافة بكيفية مستقلة وعلى أسس ديمقراطية، وعلى وضع القواعد القانونية والأخلاقية المتعلقة به. وفيما يتعلق بصلاحيات الحكومة أصبح لهذه الأخيرة، بموجب المشروع الجديد، صلاحيات أوسع، إذ انتقل الوزير الأول إلى رئيس فعلي للحكومة، وصار هو الذي يقود وينسق العمل الحكومي، وينفذ البرنامج الحكومي، الذي نال على أساسه ثقة مجلس النواب، وله صلاحية الإشراف الفعلي على الإدارة والمؤسسات العمومية، بمن في ذلك ممثلو الدولة على المستوى اللامركزي، وهو يعين خلال انعقاد مجلس الحكومة الموظفين المدنيين السامين، بمن فيهم الكتاب العامون والمديرون المركزيون للوزارات ورؤساء الجامعات. وتم منح صلاحيات أوسع لمجلس الوزراء، تهم السياسات العمومية والقطاعية، ومشاريع القوانين قبل تقديمها إلى البرلمان، ومشاريع قوانين المالية، فضلا عن السلطة التنظيمية والتعيينات. وارتقى مشروع الدستور الجديد بالقضاء إلى سلطة مستقلة، لتكون في خدمة الحماية الفعلية للحقوق وضمان احترام القوانين، حيث أصبح المجلس الأعلى للسلطة القضائية، الذي يترأسه الملك، حجر الزاوية في هذه السلطة ويسهر على احترام الضمانات الممنوحة لرجال القضاء.