الركراكي يستدعي أيت بودلال للتجمع الإعدادي لمباراتي الموزمبيق وأوغندا    بعد فراره… مطالب حقوقية بالتحقيق مع راهب متهم بالاعتداء الجنسي على قاصرين لاجئين بالدار البيضاء    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    ملعب ابن بطوطة بطنجة يدخل التاريخ بإنهاء أشغال سقفه في 69 يومًا فقط    تشكيلة "أشبال المغرب" أمام كاليدونيا    تتويج إسباني وبرتغالية في الدوري الأوروبي للناشئين في ركوب الموج بتغازوت    المنتخب الرديف يدخل مرحلة الإعداد الأخيرة لكأس العرب بقطر..    حصيلة ضحايا غزة تبلغ 69176 قتيلا    تشييع جنازة الراحل أسيدون بالمقبرة اليهودية في الدار البيضاء    توقيف مسؤول بمجلس جهة فاس مكناس للتحقيق في قضية الاتجار الدولي بالمخدرات    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    بأعلام فلسطين والكوفيات.. عشرات النشطاء الحقوقيين والمناهضين للتطبيع يشيعون جنازة المناضل سيون أسيدون    مديرة مكتب التكوين المهني تشتكي عرقلة وزارة التشغيل لمشاريع مدن المهن والكفاءات التي أطلقها الملك محمد السادس    عمر هلال: اعتراف ترامب غيّر مسار قضية الصحراء، والمغرب يمد يده لمصالحة صادقة مع الجزائر    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الرئيس السوري أحمد الشرع يبدأ زيارة رسمية غير مسبوقة إلى الولايات المتحدة    شباب مرتيل يحتفون بالمسيرة الخضراء في نشاط وطني متميز    التجمع الوطني للأحرار بسوس ماسة يتفاعل مع القرار التاريخي لمجلس الأمن حول الصحراء المغربية    أولمبيك الدشيرة يقسو على حسنية أكادير في ديربي سوس    مقتل ثلاثة أشخاص وجرح آخرين في غارات إسرائيلية على جنوب لبنان    إنفانتينو: أداء المنتخبات الوطنية المغربية هو ثمرة عمل استثنائي    بعد حكيمي.. إصابة أكرد تربك الركراكي وتضعف جدار الأسود قبل المونديال الإفريقي    مغاربة فرنسا يحتفلون بذكرى المسيرة    دراسة أمريكية: المعرفة عبر الذكاء الاصطناعي أقل عمقًا وأضعف تأثيرًا    "حماس" تعلن العثور على جثة غولدين    النفق البحري المغربي الإسباني.. مشروع القرن يقترب من الواقع للربط بين إفريقيا وأوروبا    درك سيدي علال التازي ينجح في حجز سيارة محملة بالمخدرات    فرنسا.. فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات باريس الدامية للعام 2015    لفتيت يشرف على تنصيب امحمد العطفاوي واليا لجهة الشرق    الأمواج العاتية تودي بحياة ثلاثة أشخاص في جزيرة تينيريفي الإسبانية    الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    بنكيران: النظام الملكي في المغرب هو الأفضل في العالم العربي    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    "صوت الرمل" يكرس مغربية الصحراء ويخلد "خمسينية المسيرة الخضراء"    العرائش.. البنية الفندقية تتعزز بإطلاق مشروع فندق فاخر "ريكسوس لكسوس" باستثمار ضخم يفوق 100 مليار سنتيم    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    عيد الوحدة والمسيرة الخضراء… حين نادت الصحراء فلبّينا النداء    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عندما تمنع «سلطوية» النظام ظهور نخب جديدة
الأحزاب السياسية المغربية ومأزق تجديد النخب
نشر في المساء يوم 26 - 09 - 2011

الواقعية السياسية، صعوبة المشهد السياسي المغربي وتعقده، الحاجة إلى الوقت، حساسية المرحلة، سطوة التاريخ.. كلها مبرّرات يلجأ إليها قادة الأحزاب السياسية،
بشتى تلويناتها، لتبرير عجز هذه الأحزاب عن إنتاج نُخب جديدة تعكس طموحات القواعد الشعبية، التي بدأت الفجوة بينها تتسع منذ أن قررت كل جماعة، على طريقتها، كما يقول الباحث الأنثربولوجي عبد الله الحمودي، أن تُدجّن النُّخَب وتزُجّ بها في دوامة من التسابق للحصول على «منافع سياسية»...
يبدو موضوع الأحزاب السياسية وتجديد النُّخَب في زمن الإعداد للانتخابات نوعا من التّرف الفكري المتجاوَز، فلا حديث يعلو، هذه الأيام، على شجون التزكّيات والسباق المحموم بين مختلف الأحزاب السياسية للظفر بمقعد مريح في استحقاقات ال25 من نونبر المقبل، وإن كانت بعض الأحزاب السياسية طرحت الموضوع للنقاش بعد الخطاب الملكي، الذي بدا حازما في ما يرتبط بقضية تجديد النخب السياسية بعد مرحلة استحوذت فيها وجوه حزبية بعينها على الساحة السياسية.
لم يجد المفكر المغربي عبد الله العروي، وهو يشرح مظاهر أزمة المشهد السياسي المغربي في كتابه الشيق «من ديوان السياسية»، مناصا من العودة إلى المرحلة الأولى للتنشئة السياسية أو ما وصفه بتربية الأم للفاعلين الحزبيين على خشبة السياسة المغربية لتفسير «داء العطب» الأصيل، الذي نخر جسد النخبة المغربية. وبطبيعة الحال، تنسحب هذه الخلاصة على «ترهُّل» النخبة السياسية المغربية، التي لم تعد قادرة على استيعاب ظرفية تاريخية تتّسم بالتغير الإقليمي والجهوي والداخلي. غير أن هذه الخلاصة الفكرية لا تجد لها صدى لدى محمد مدني، أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس، الذي يرى أن الأزمة أعمق من ذلك بكثير. صحيح أن مدني لا ينكر دور التنشئة في استنبات القيم السياسية عند النخبة المغربية، لكنْ صحيح كذلك، وفي تقديره دائما، أن الأحزاب السياسية ابتُليّت بأمراض الزبونية والولاءات القبلية والقرابات العائلية، مما يجعل أي خطاب حول تجديد النُّخَب شعارا من قبيل الترف الفكري الذي تُتقنه الأحزاب المغربية، بمختلف مشاربها.
أصل الداء
يكاد أساتذة العلوم السياسية يُجمِعون على أن تجديد النّخب السياسية في المغرب يظل أمرا مستعصيا، لكون بنية المجتمع المغربي، التي تعترف بالقبيلة والمحسوبية، تؤثر، بشكل أو بآخر، وتتفاعل مع الأحزاب السياسية، لتعطي مشهدا سياسيا أصيبت فيه النخبة بالجمود. في هذا الصدد، يؤكد الأستاذ إدريس لكريني، أستاذ الحياة السياسية في جامعة القاضي عياض في مراكش، أن أي تشريح للواقع السياسي المغربي في علاقته بتجديد النخب ستتمخّض عنه نتائج أساسية، وهي أن سيادة أسلوب التزكية ومنطق الوراثة في بناء الشرعية السياسية، بالشكل الذي يمس «شخصنة» هذه الهيآت يحول دون تجددها ويخلق حالة من التوتر والصراع بين الأحزاب وتنظيماتها الشبيبية، وهذا ما «يدفعنا إلى التساؤل عن مدى جدية ومصداقية مطالبة هذه الأحزاب الدولة بإعمال أسلوب الديمقراطية و«التناوب السياسي»، في الوقت الذي تتنكر له، هي نفسها، في ممارساتها الداخلية لهذه المبادئ».
ويقر الأستاذ محمد مدني أن محايثة هذا الموضوع لا يمكن أن تتم بمعزل عن بعض المعطيات السوسيولوجية المميزة للبنية الاجتماعية المغربية، كطغيان ثقافة القبيلة، مثلا. لكنّ ذلك لا يعني، في نظر مدني، أن ننسى أن البيروقراطية، التي تسِم عمل الأحزاب، هي السبب الرئيس الذي يعيق مسلسل دوران النّخَب، الذي توقف حين «اعتزلت» الأحزاب السياسية من الجامعة، المغربية التي كانت تعتبر، في إحدى فترات المغرب الحديث، مشتلا خصبا لتكوين نخبة سياسية مثقفة قادت النضال السياسي طيلة عقود.
لقد كانت الجامعة المغربية، إلى حدود ثمانينيات القرن الماضي، مرتعاً لصراع سياسي مرير بين الأحزاب السياسية المغربية لاستقطاب أكبر عدد من الطلبة إلى صفوفها، وبذلك تشكل وعي سياسي وأفرز السجال المشتعل بين الأحزاب بروز نخبة سياسية نهضت بالأحزاب، التي كانت محسوبة على اليسار، في عز «سنوات الجمر والرصاص»...
يعود مدني ويطرح عدة فرضيات لأفول النُّخب السياسية وتعثر صناعتها، حيث يرى أن توقف عجلة دوران النُّخب يرجع إلى أسباب أساسية تتصل بالانفصال القائم بين الأنساق الحزبية والفئات الاجتماعية، خاصة الفئات الوسطى، رغم أن بعض الأحزاب احتفظت بنوع من العلاقة مع قواعدها الاجتماعية. وهناك سبب آخر يتمثل في سلطوية النظام السياسي القائم في المغرب، الذي لا يسمح بظهور نُخَب جديدة وقوية، إضافة، طبعا، إلى بواعثَ أخرى، من قبيل التحولات الداخلية في قاعدة الأحزاب السياسية، أي هيمنة العنصر البيروقراطي داخلها وتحوله إلى جهاز مكون من الموظفين، وفي نفس الوقت، تراجع المناضلين الذين لا يبتغون الحصول على منافع معيّنة. ونسجل، كذلك، غياب رجالات الدولة داخل الأحزاب وسيطرة رجال الدبلوماسية، بمعنى أن الأحزاب يقودها دبلوماسيون، والحال أن رجل الدولة يقول «لا» وهو يريد، دائما، تغيير الوضع القائم، في حين أن الدبلوماسي يتعامل مع هذا الواقع كما هو.
وقد أفرد الأنثروبولوجي المغربي المعروف عبد الله حمودي حيّزا هامّاً من كتابه حول «الشيخ والمريد» لمناقشة ظاهرة تشكُّل النُّخَب الحزبية المغربية، فاهتدى إلى أن هذه الأحزاب ما تزال تحافظ على «التسلسل السلطوي للزاوية»، مُقِرّاً أن النظام السياسي في المغرب قزّم هذه النّخب وجعلها تحت إمرتها وأبعدها عن هموم الطبقات الاجتماعية، التي فقدت الثقة تماما في نُخَبها. ومن هذا المنطلق، يقول حمودي، لم يبق أمام الأحزاب سوى أن تتخلص من سلطة «الفقيه»، لتصير مؤسسات حزبية لها وزنها ونفوذها.
في هذا الباب بالذات، أصدر عالم الاجتماع المغربي عبد الرحيم العطري كتابا قيّما سماه «صناعة النخبة بالمغرب، المخزن والمال والنسب والمقدس، طرق الوصول إلى القمة». وفي هذا الكتاب، يفسر العطري كيف أن النخبة الحزبية المغربية باتت رهينة للولاءات بشكل يثير الاستغراب في بعض الأحيان. يقول العطري: «لكي تتولى مهمة، ليس من الضروري أن تكون أهلا لها، ولكنْ يجب أن تكون أهلا للشخص الذي سيكون هو قناة وصولك إلى تلك المهمة، فعامل الكفاءة يظل ثانويا، لأن المحدد الطبيعي لتحصيل المنصب أو الوظيفة عالية الكعب هو نظام الولاءات». على هذا الأساس، يتبدى أن تجديد السياسية في المغرب يظل رهانا صعبا، في ظل وجود نظام مغلق تتفشى فيه الزبونية وتختلط فيه المناصب السياسية برائحة النفوذ.
الشرعية التاريخية
«ظهر المشكل في سبعينيات القرن الماضي، قبل أن تحتدّ وطأته بعد ذلك، لاسيما في العقود الأخيرة»، يقول سمير أبو القاسم، أحد قياديي حزب الأصالة والمعاصرة، إذ يؤدي استئثار طبقة سياسية بعينها بالسلطة لفترة تاريخية محددة إلى نشوء قوى محافظة تبتغي الحفاظ على مواقعها وتحصين مكاسبها، لكنْ، يضيف أبو القاسم، سرعان ما تدخل هذه القوى المحافظة في صراع داخل هياكلها، بعد بروز أصوات تُنادي بالتجديد. ويشاطر وجهة نظر أبو القاسم، التي تنتقد بعض الأحزاب المحافظة، الباحث إدريس لكريني، حيث يؤكد، بما لا يدع مجالا للشك، أن بعض القادة السياسيين القدامى، ممن يلوحون ب«الشرعية التاريخية» كل حين، لم يقتنعوا بعدُ بأهمية إتاحة الفرصة للفعاليات الشابة،التي أثبتت جدارتها وإمكانياتها في عدد من المجالات والميادين، لتحتل مواقع قيادية داخل الأحزاب السياسية وتُسهم في إخراج الأحزاب من جمودها وانغلاقها. والمؤسف أن هذه الظاهرة، غير السليمة، أصبحت تطبع عمل عدد كبير من الأحزاب، بما فيها تلك التي تعتبر نفسها محسوبة عن الصف الديمقراطي. فقد أضحى عدد من الأحزاب السياسية المغربية مجردَ مؤسسات مغلقة تغيب فيها مظاهر الشفافية والممارسة الديمقراطية، بل ووصل ارتباطها بأشخاص معيَّنين في المخيال الشعبي إلى حد الحديث عن حزب فلان، بدل التركيز عن اسم الحزب أو إيديولوجيته، وهو ما تترجمه الهالة التي تعطى للزعيم الحزبي أو تلك التي يحاول أن يخلقها لنفسه، والتي تسمح له، في كثير من الأحيان، بتحويل الهزائم إلى انتصارات وإطلاق وتوظيف خطابات وشعارات وتصورات لا تتلاءم وتحديات وواقع المرحلة
الراهنة.
لقد وصل تقديس الأشخاص، على حد تعبير الكاتب الأمريكي جون واتربوري، صاحب كتاب «إمارة المؤمنين»، إلى الحد الذي لا يمكنك معها أن تعرف أين يبدأ الحزب وأين ينتهي الزعيم. ويستطرد واتربوري، في أحد فصول الكتاب، أن زعيما سياسيا مغربيا معروفا اقتنى مقرا حزبيا فسجله في ملكيته...
جعل هذا التقديس، يقول الدكتور محمد ظريف في أحد مقالاته المنشورة على أعمدة جريدة «المساء»، النخبة السياسية تستكين إلى ثقافة الزعيم، مضيعة على نفسها فرصة تاريخية لتغيير ملامح الخريطة الحزبية المغربية. لذلك يصير لزاما، حسب الأستاذ محمد مدني، البحث عن وصفة جديدة وعن علاقات متوازنة بين كل الفاعلين في الحقل السياسي من دون الاستناد إلى مقولة الشرعية التاريخية، التي أصبحت أسطوانة مشروخة لا تُغري أحدا، وبات لزاما علي أحزاب الحركة الوطنية نفسِها أن تتأقلم مع الوضع الجديد، بمنأى عن استحضار الأبعاد التاريخية والنضالية في مرحلة ما من تاريخ المغرب.
الأحزاب السياسية.. «واقعية سياسية»
ثمة سؤال مركزي يفرض نفسَه بإلحاح شديد على بلد يواجه إكراهات متعددة، مثلما يرتبط بمواعيد دولية «حارقة» تُحتّم عليه السير قدما بوتيرة سريعة، لكنْ بتؤدة، وهو الأمر الذي يتطلب وجود نُخَب تستشعر طبيعة هذه التحديات الداخلية والخارجية. بهذا التصدير، يستهل الباحث محمد زين الدين دراسته حول النُّخَب السياسية المغربية. وإذا كان هناك شبه إجماع على وجود حالة من التراجع في مكونات النُّخَب الحزبية المغربية، فإن هناك، في المقابل، تباينا يطبع شتى تلاوينها، فالنّخب الحزبية لا يمكن موقعتُها في خانة واحدة، لذا ينبغي التأكيد أن هناك تفاوتا ملحوظا في تعامل الأحزاب السياسية مع مسألة استقطاب وإنتاج النّخَب، فمن «حسنات» أحزاب الكتلة الديمقراطية، قبل ولوجها تجربة التناوب التوافقي، أنها كانت تُشكّل مشتلا قويا لاستقطاب وإنتاج نُخَب متعددة المشارب، لعبت دورا مركزيا في إنضاج مسلسل المسار الديمقراطي في المغرب. لكن إخفاقات تجربة التناوب قادت إلى نوع من «الانكماش» لدى جانب من هذه النخبة، الأمر الذي دفع الكاتب الأول السابق لحزب «الوردة» محمد اليازغي، خلال أحد اجتماعات اللجنة الإدارية للاتحاد الاشتراكي، السابقة، إلى الإفصاح صراحة عن تطلّعه قائلا: «علينا أن نكون قوة سياسية تجعل من المنهجية الديمقراطية أمرا واقعا». غير أن تحقيق هذا المسعى لن يكون إلا بعودة «الروح» إلى مكونات الكتلة، من جهة، بالعمل على استقطاب الأطر المُغيَّبة من الحقل السياسي المغربي، ومن خلال تدبير ثقافة الديمقراطية الحزبية، من جهة ثانية. أما الأحزاب الجديدة، التي توصف بكونها إدارية، فلم تستطع، إلى حدود اللحظة، أن تجتذب ما يسمى «الأغلبية الصامتة».
إن الاختلالات التي تعيشها الأحزاب المغربية حاليا، حسب الأستاذ إدريس لكريني، لا هي في صالح المجتمع ولا في صالح الدولة ولا في صالح الأحزاب السياسية نفسِها. ذلك أن تأمين انتقال ديمقراطي حقيقي يتطلب انخراطا من قِبَل الدولة والمجتمع، بمختلف مكوناته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتتحمل الأحزاب السياسية مسؤولية كبرى في هذا الصدد. ولا يمكن أن نتصور أن المشهد الحزبي، في وضعيته الراهنة، يسمح بتحقيق انتقال ديمقراطي مبنيّ على أسس متينة، فهناك عدد كبير من الأحزاب السياسية لم تعد قادرة على إنتاج وبلورة تصورات وأفكار ومشاريع اجتماعية وسياسية واضحة المعالم تستمدّ مقوماتها من الواقع. كما أن خطاباتها ما زالت جامدة ومتجاوَزة ولا تواكب التحولات الاجتماعية والسياسية وتصورات وانتظارات الأجيال الجديدة، فيما تفتقر غالبيتها، أيضا إلى مشروع مجتمعي واضح المعالم، بعدما تحوّلت من مؤسسات مفترَضة للتأطير السياسي والتنشئة الاجتماعية وبلورة المطالب إلى قنوات انتخابية مغلقة تنتج نُخَباً تبرّر الخطابات الرائجة ولا تستحضر سوى مصالحها، فحضورها (الأحزاب) تطبعه المرحلية، وغالبا ما يقترن بالمناسبات الانتخابية. وعلاوة على أهمية تبني الأحزاب إصلاحات داخلية تسمح لها بتجاوز مختلف هذه الاختلالات، فإنها تظل، أيضا، في حاجة إلى شروط موضوعية وإمكانيات دستورية تسمح لها بتطبيق برامجها والوفاء بالتزاماتها و«شعاراتها»، التي تقطعها على نفسها أمام أعضائها وأمام الناخبين، من داخل البرلمان أو الحكومة.
وعزا عبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، الذي بدا صارما في حديثه، مشكلة عدم تجديد النُّخب إلى وجود مشهد سياسي غير طبيعي تنتعش فيه «كائنات» حزبية تسيء إلى كل الأحزاب. يؤكد بنكيران أنه إذا استمر التحكم في الحياة السياسية والتدخل فيها، فستحافظ الوجوه القديمة ذاتُها على مواقعها، بيد أن هذه الإشكالية، استنادا إلى تصريحاته، ليست مطروحة بالمرة على حزب «المصباح»، بفعل استحضار مبدأ تداول الزعامة الحزبية وتجديد أعضاء هياكل الحزب بشكل دوري. وفي معرض حديثه عن المقترح الذي تقدَّم به أعضاء من المجلس الوطني بشأن عدم منح التزكية لبرلمانيي الحزب لولاية ثالثة، أبرز بنكيران أن الأمانة العامة ستتدارس الأمرَ بشكل جدّي، لكنه سرعان ما استدرك أن الحزب سيرشح المنتخَبين الذين تتوفر لديهم حظوظ أكبر للفوز.
من جانب آخر، يتحدث امحند العنصر، الأمين العامّ لحزب الحركة الشعبية، عما أسماه ضرورة فك الارتباط مع الثقافة القديمة في عصر جديد. وتبدو عنده مسألة تجديد النّخب قضية جوهرية لا مناص من تفعيلها والتحلي بالجرأة السياسية الكافية لأجل الوصول إلى هذه الغاية. لكن ذلك لم يثن العنصر من الإشارة إلى أن تغيير النّخب لا يمكن أن يأتي بين عشية وضحاها، بل ينبغي أن تكون هناك إستراتيجية مدروسة لتكوين نُخَب حزبية قوية. غير أن العنصر لا ينسى أن الواقع السياسي المغربي يفرض على حزبه (الحركة) المراهنة على الحصول على مرتبة انتخابية مريحة تخول له المشاركة في أول حكومة في الدستور الجديد.
ويبدو أن هذه الحسابات «لا تعني» في شيء حزب الأصالة والمعاصرة، فسمير أبو القاسم، أحد ابرز قياديي الحزب، يؤكد بما لا يدع مجالا للجدال، أنه لم يمض على تأسيس حزبه سوى سنتين ومن ثم لا مجال لطرح هذا المشكل، علاوة على أن كل الذين انضموا إلى حزب «البام» أتوا من تشكيلات مختلفة، وهي، في الغالب، من جيل السبعينيات، الذي لم تستوعبه أحزاب الحركة الوطنية، التي صارت «مترهّلة» وموغلة في المحافظة.
لا يخفي حسن طارق، أستاذ العلوم السياسية وأحد أبرز القيادات الشابة داخل حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، قلقه إزاء الوضعية الخطيرة التي باتت تعيشها النّخب الحزبية المغربية. في المقابل، يرى طارق أن هذا السجال كان قد طرحه حزبه خلال انعقاد المؤتمر السابع للحزب، الذي ناقش ملف «الكوطا»، وإثر ذلك، أي خلال انعقاد المؤتمر الوطني الثامن لحزب رفاق، «بوعبيد» تعمَّق هذا النقاش. ومن الناحية الموضوعية، يقول طارق، فإن الشروط المتوافرة حاليا لا تساعد على عملية تجديد النّخَب في ظل وجود واقع انتخابي صعب ومعقد.. «وهذا هو المغرب»، يستدرك المتحدث. مع ذلك، يرى حسن طارق أن الأحزاب السياسية بمقدورها أن تفتح بعض المنافذ وتبعث بعض المؤشرات على نيتها الفعلية في تجديد
نُخَبها.
وليس حزب التجمع الوطني للأحرار بمنأى عن السجالات الدائرة بخصوص تجديد دماء الأحزاب السياسية، حيث أكد عضو من داخل الحزب أن أزمة تجديد النخب تطرح بشدة بالنسبة إلى حزب «الحمامة»، بسبب غياب الاستقرار التنظيمي واستوزار أسماء من خارج التجمع الوطني للأحرار، مضيفا أن الحزب أصبح مطالَبا بفسح المجال أمام أطره الشابة لتقوده بشكل صحيح، لأن «حسابات السياسيين من شأنها أن تؤدي بالحزب إلى الهاوية».
لقد أدى الفراغ السياسي، الذي تركتْه النّخب السياسية على مدى عقود من تاريخ السياسة المغربية، إلى أزمة عميقة مسّتْ كل الهياكل الحزبية وأدت، كذلك، إلى قطع الصلة بالقواعد الاجتماعية، مما أفرز، في مرحلة لاحقة، حركة عشرين 20، كنتيجة حتمية لغياب التأطير الحزبي والتهميش والغبن الذي طال الشباب.. لكنْ هل ستنجح الأحزاب المغربية في كسب رهان تجديد نُخَبها أم سيستمر المنطق القديم وستعود «نفس الوجوه» إلى واجهة الساحة السياسية؟!...
محمد أحداد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.