المغرب يبرز إصلاحاته القضائية والجنائية أمام مجلس حقوق الإنسان بجنيف    ولد الرشيد يتباحث مع رئيس برلمان المجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط إفريقيا    الصحة والنزاهة على طاولة واحدة .. ورشة تسائل التوريد والممارسات الطبية    ملف دكاترة التربية الوطنية يفجر الغضب من جديد .. التنسيق النقابي الخماسي والرابطة الوطنية يدعوان إلى إضراب وطني ووقفة احتجاجية أمام الوزارة غدا الخميس    بورصة البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأحمر    المديرية العامة للضرائب: أزيد من 220 مليار درهم من العائدات الجبائية الصافية خلال سنة 2024    تأجيل الجمع العام للرجاء الرياضي إلى غاية السابع من شهر يوليوز    قرار قضائي يسمح لتلميذة باجتياز امتحان الباكالوريا بدون بطاقة وطنية    مزور يعلن عن اتفاقيات جديدة في صناعة الطيران خلال مشاركته بمعرض باريس للطيران    الاغتيالات.. إيران تعلن عن خطة "البدلاء العشرة" الجديدة    دورة "منصة مراكش" تبدأ بأكادير    رونالدو يهدي قميصه لترامب برسالة غير متوقعة    الوداد الرياضي يختتم تحضيراته قبل مواجهة السيتي    عمور: الاقتصاد الاجتماعي والتضامني أحد القطاعات الواعدة في النسيج الاقتصادي الوطني    اليقظة تحبط تهريب أطنان من الشيرا    توقيف منتشل هواتف في طنجة بعد 16 شكاية ضده    القضاء يعاقب نائبة رئيس جماعي بالحبس والغرامة بسبب "تدوينات فيسبوكية"        لاليغا تدخل على خط تطوير البطولة الوطنية بشراكة مؤسساتية    رئيس الحكومة يؤكد على مكانة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني في النموذج التنموي    "سي إن إن": تقديرات استخباراتية تفيد بتأخير البرنامج النووي الإيراني لأشهر بسبب الضربات الإسرائيلية    هجوم إلكتروني يشل بنك "سبه" الإيراني    الذهب يصعد وسط القتال بين إسرائيل وإيران ودعوة ترامب لإخلاء طهران    هلال: المغرب يلتزم بالتصدي للكراهية    مجزرة جديدة تحصد أرواح المجوعين.. مقتل 47 فلسطينيا بنيران إسرائيلية قرب مركز مساعدات في غزة    أمطار رعدية مصحوبة بتساقط للبرد وبهبات رياح مرتقبة اليوم الثلاثاء بعدد من مناطق المغرب    استئنافية الرباط تحجز ملف الصحافي حميد المهدوي للمداولة والنطق بالحكم في 30 يونيو    طنجة الدولية.. اختبار فرضيتي التحول والتفاعل    هذا المساء في برنامج "مدارات" :لمحات من سيرة المؤرخ والأديب المرحوم عبدالحق المريني .    الصويرة ترحب بزوار مهرجان كناوة    خبير يعرف بالتأثير الغذائي على الوضع النفسي    ترامب يقول إنه يريد "نهاية فعلية" للنزاع بين إسرائيل وإيران "وليس وقف إطلاق نار"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    سطات تطلق مشروعا لإنشاء 30 محطة لتحلية المياه لمواجهة الإجهاد المائي    موازين 2025… أزمة توزيع المنصات تثير استياء الجمهور    تقنيون بالتعليم العالي يحتجون أمام الوزارة رفضا للتهميش    22 دولة إسلامية تدين العدوان الإسرائيلي على إيران وتطالب بوقف فوري للتصعيد في الشرق الأوسط    برشلونة يعزز تصنيفه الائتماني ويترقب زيادة إيراداته بعد العودة إلى كامب نو    الأمير مولاي رشيد يترأس الجمع العام الاستثنائي للجامعة الملكية المغربية للغولف    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الثلاثاء    فدرالية اليسار تدين العدوان الإسرائيلي على إيران وتستنكر الجرائم المتواصلة في غزة    مجموعة السبع تؤكد على"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" وتعارض امتلاك إيران لسلاح نووي    وليد الركراكي.. بين فورة الغضب ومتطلبات البناء الوطني    تطوان تحتفي بعبق الموسيقى التراثية في أول ملتقى جهوي يحتفي بعبد الصادق شقارة    د محمد صبري : الصيدلة دعامة أساسية في الرعاية الصحية القريبة من المواطن..    ثنائية فلامنغو تهزم الترجي التونسي    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    جراحات جبل "طوبقال" القديمة    نصائح ذهبية لحماية المسنين من ارتفاع الحرارة    "أرواح غيوانية" يُكرّم رموز المجموعات الغيوانية ويُعيد أمجاد الأغنية الملتزمة    في أول لقاء مع جمهوره المغربي.. ديستانكت يكشف ألبومه العالمي وسط تفاعل صاخب    برلماني يطالب بالتحقيق في صفقات "غير شفافة في مستشفى ابن سينا الجديد        فقدان حاسة السمع يرفع خطر الإصابة بالخرف    ماذا يفعل تحطُّم الطائرة بجسم الإنسان؟        السبحة.. هدية الحجاج التي تتجاوز قيمتها المادية إلى رمزية روحية خالدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عندما تمنع «سلطوية» النظام ظهور نخب جديدة
الأحزاب السياسية المغربية ومأزق تجديد النخب
نشر في المساء يوم 26 - 09 - 2011

الواقعية السياسية، صعوبة المشهد السياسي المغربي وتعقده، الحاجة إلى الوقت، حساسية المرحلة، سطوة التاريخ.. كلها مبرّرات يلجأ إليها قادة الأحزاب السياسية،
بشتى تلويناتها، لتبرير عجز هذه الأحزاب عن إنتاج نُخب جديدة تعكس طموحات القواعد الشعبية، التي بدأت الفجوة بينها تتسع منذ أن قررت كل جماعة، على طريقتها، كما يقول الباحث الأنثربولوجي عبد الله الحمودي، أن تُدجّن النُّخَب وتزُجّ بها في دوامة من التسابق للحصول على «منافع سياسية»...
يبدو موضوع الأحزاب السياسية وتجديد النُّخَب في زمن الإعداد للانتخابات نوعا من التّرف الفكري المتجاوَز، فلا حديث يعلو، هذه الأيام، على شجون التزكّيات والسباق المحموم بين مختلف الأحزاب السياسية للظفر بمقعد مريح في استحقاقات ال25 من نونبر المقبل، وإن كانت بعض الأحزاب السياسية طرحت الموضوع للنقاش بعد الخطاب الملكي، الذي بدا حازما في ما يرتبط بقضية تجديد النخب السياسية بعد مرحلة استحوذت فيها وجوه حزبية بعينها على الساحة السياسية.
لم يجد المفكر المغربي عبد الله العروي، وهو يشرح مظاهر أزمة المشهد السياسي المغربي في كتابه الشيق «من ديوان السياسية»، مناصا من العودة إلى المرحلة الأولى للتنشئة السياسية أو ما وصفه بتربية الأم للفاعلين الحزبيين على خشبة السياسة المغربية لتفسير «داء العطب» الأصيل، الذي نخر جسد النخبة المغربية. وبطبيعة الحال، تنسحب هذه الخلاصة على «ترهُّل» النخبة السياسية المغربية، التي لم تعد قادرة على استيعاب ظرفية تاريخية تتّسم بالتغير الإقليمي والجهوي والداخلي. غير أن هذه الخلاصة الفكرية لا تجد لها صدى لدى محمد مدني، أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس، الذي يرى أن الأزمة أعمق من ذلك بكثير. صحيح أن مدني لا ينكر دور التنشئة في استنبات القيم السياسية عند النخبة المغربية، لكنْ صحيح كذلك، وفي تقديره دائما، أن الأحزاب السياسية ابتُليّت بأمراض الزبونية والولاءات القبلية والقرابات العائلية، مما يجعل أي خطاب حول تجديد النُّخَب شعارا من قبيل الترف الفكري الذي تُتقنه الأحزاب المغربية، بمختلف مشاربها.
أصل الداء
يكاد أساتذة العلوم السياسية يُجمِعون على أن تجديد النّخب السياسية في المغرب يظل أمرا مستعصيا، لكون بنية المجتمع المغربي، التي تعترف بالقبيلة والمحسوبية، تؤثر، بشكل أو بآخر، وتتفاعل مع الأحزاب السياسية، لتعطي مشهدا سياسيا أصيبت فيه النخبة بالجمود. في هذا الصدد، يؤكد الأستاذ إدريس لكريني، أستاذ الحياة السياسية في جامعة القاضي عياض في مراكش، أن أي تشريح للواقع السياسي المغربي في علاقته بتجديد النخب ستتمخّض عنه نتائج أساسية، وهي أن سيادة أسلوب التزكية ومنطق الوراثة في بناء الشرعية السياسية، بالشكل الذي يمس «شخصنة» هذه الهيآت يحول دون تجددها ويخلق حالة من التوتر والصراع بين الأحزاب وتنظيماتها الشبيبية، وهذا ما «يدفعنا إلى التساؤل عن مدى جدية ومصداقية مطالبة هذه الأحزاب الدولة بإعمال أسلوب الديمقراطية و«التناوب السياسي»، في الوقت الذي تتنكر له، هي نفسها، في ممارساتها الداخلية لهذه المبادئ».
ويقر الأستاذ محمد مدني أن محايثة هذا الموضوع لا يمكن أن تتم بمعزل عن بعض المعطيات السوسيولوجية المميزة للبنية الاجتماعية المغربية، كطغيان ثقافة القبيلة، مثلا. لكنّ ذلك لا يعني، في نظر مدني، أن ننسى أن البيروقراطية، التي تسِم عمل الأحزاب، هي السبب الرئيس الذي يعيق مسلسل دوران النّخَب، الذي توقف حين «اعتزلت» الأحزاب السياسية من الجامعة، المغربية التي كانت تعتبر، في إحدى فترات المغرب الحديث، مشتلا خصبا لتكوين نخبة سياسية مثقفة قادت النضال السياسي طيلة عقود.
لقد كانت الجامعة المغربية، إلى حدود ثمانينيات القرن الماضي، مرتعاً لصراع سياسي مرير بين الأحزاب السياسية المغربية لاستقطاب أكبر عدد من الطلبة إلى صفوفها، وبذلك تشكل وعي سياسي وأفرز السجال المشتعل بين الأحزاب بروز نخبة سياسية نهضت بالأحزاب، التي كانت محسوبة على اليسار، في عز «سنوات الجمر والرصاص»...
يعود مدني ويطرح عدة فرضيات لأفول النُّخب السياسية وتعثر صناعتها، حيث يرى أن توقف عجلة دوران النُّخب يرجع إلى أسباب أساسية تتصل بالانفصال القائم بين الأنساق الحزبية والفئات الاجتماعية، خاصة الفئات الوسطى، رغم أن بعض الأحزاب احتفظت بنوع من العلاقة مع قواعدها الاجتماعية. وهناك سبب آخر يتمثل في سلطوية النظام السياسي القائم في المغرب، الذي لا يسمح بظهور نُخَب جديدة وقوية، إضافة، طبعا، إلى بواعثَ أخرى، من قبيل التحولات الداخلية في قاعدة الأحزاب السياسية، أي هيمنة العنصر البيروقراطي داخلها وتحوله إلى جهاز مكون من الموظفين، وفي نفس الوقت، تراجع المناضلين الذين لا يبتغون الحصول على منافع معيّنة. ونسجل، كذلك، غياب رجالات الدولة داخل الأحزاب وسيطرة رجال الدبلوماسية، بمعنى أن الأحزاب يقودها دبلوماسيون، والحال أن رجل الدولة يقول «لا» وهو يريد، دائما، تغيير الوضع القائم، في حين أن الدبلوماسي يتعامل مع هذا الواقع كما هو.
وقد أفرد الأنثروبولوجي المغربي المعروف عبد الله حمودي حيّزا هامّاً من كتابه حول «الشيخ والمريد» لمناقشة ظاهرة تشكُّل النُّخَب الحزبية المغربية، فاهتدى إلى أن هذه الأحزاب ما تزال تحافظ على «التسلسل السلطوي للزاوية»، مُقِرّاً أن النظام السياسي في المغرب قزّم هذه النّخب وجعلها تحت إمرتها وأبعدها عن هموم الطبقات الاجتماعية، التي فقدت الثقة تماما في نُخَبها. ومن هذا المنطلق، يقول حمودي، لم يبق أمام الأحزاب سوى أن تتخلص من سلطة «الفقيه»، لتصير مؤسسات حزبية لها وزنها ونفوذها.
في هذا الباب بالذات، أصدر عالم الاجتماع المغربي عبد الرحيم العطري كتابا قيّما سماه «صناعة النخبة بالمغرب، المخزن والمال والنسب والمقدس، طرق الوصول إلى القمة». وفي هذا الكتاب، يفسر العطري كيف أن النخبة الحزبية المغربية باتت رهينة للولاءات بشكل يثير الاستغراب في بعض الأحيان. يقول العطري: «لكي تتولى مهمة، ليس من الضروري أن تكون أهلا لها، ولكنْ يجب أن تكون أهلا للشخص الذي سيكون هو قناة وصولك إلى تلك المهمة، فعامل الكفاءة يظل ثانويا، لأن المحدد الطبيعي لتحصيل المنصب أو الوظيفة عالية الكعب هو نظام الولاءات». على هذا الأساس، يتبدى أن تجديد السياسية في المغرب يظل رهانا صعبا، في ظل وجود نظام مغلق تتفشى فيه الزبونية وتختلط فيه المناصب السياسية برائحة النفوذ.
الشرعية التاريخية
«ظهر المشكل في سبعينيات القرن الماضي، قبل أن تحتدّ وطأته بعد ذلك، لاسيما في العقود الأخيرة»، يقول سمير أبو القاسم، أحد قياديي حزب الأصالة والمعاصرة، إذ يؤدي استئثار طبقة سياسية بعينها بالسلطة لفترة تاريخية محددة إلى نشوء قوى محافظة تبتغي الحفاظ على مواقعها وتحصين مكاسبها، لكنْ، يضيف أبو القاسم، سرعان ما تدخل هذه القوى المحافظة في صراع داخل هياكلها، بعد بروز أصوات تُنادي بالتجديد. ويشاطر وجهة نظر أبو القاسم، التي تنتقد بعض الأحزاب المحافظة، الباحث إدريس لكريني، حيث يؤكد، بما لا يدع مجالا للشك، أن بعض القادة السياسيين القدامى، ممن يلوحون ب«الشرعية التاريخية» كل حين، لم يقتنعوا بعدُ بأهمية إتاحة الفرصة للفعاليات الشابة،التي أثبتت جدارتها وإمكانياتها في عدد من المجالات والميادين، لتحتل مواقع قيادية داخل الأحزاب السياسية وتُسهم في إخراج الأحزاب من جمودها وانغلاقها. والمؤسف أن هذه الظاهرة، غير السليمة، أصبحت تطبع عمل عدد كبير من الأحزاب، بما فيها تلك التي تعتبر نفسها محسوبة عن الصف الديمقراطي. فقد أضحى عدد من الأحزاب السياسية المغربية مجردَ مؤسسات مغلقة تغيب فيها مظاهر الشفافية والممارسة الديمقراطية، بل ووصل ارتباطها بأشخاص معيَّنين في المخيال الشعبي إلى حد الحديث عن حزب فلان، بدل التركيز عن اسم الحزب أو إيديولوجيته، وهو ما تترجمه الهالة التي تعطى للزعيم الحزبي أو تلك التي يحاول أن يخلقها لنفسه، والتي تسمح له، في كثير من الأحيان، بتحويل الهزائم إلى انتصارات وإطلاق وتوظيف خطابات وشعارات وتصورات لا تتلاءم وتحديات وواقع المرحلة
الراهنة.
لقد وصل تقديس الأشخاص، على حد تعبير الكاتب الأمريكي جون واتربوري، صاحب كتاب «إمارة المؤمنين»، إلى الحد الذي لا يمكنك معها أن تعرف أين يبدأ الحزب وأين ينتهي الزعيم. ويستطرد واتربوري، في أحد فصول الكتاب، أن زعيما سياسيا مغربيا معروفا اقتنى مقرا حزبيا فسجله في ملكيته...
جعل هذا التقديس، يقول الدكتور محمد ظريف في أحد مقالاته المنشورة على أعمدة جريدة «المساء»، النخبة السياسية تستكين إلى ثقافة الزعيم، مضيعة على نفسها فرصة تاريخية لتغيير ملامح الخريطة الحزبية المغربية. لذلك يصير لزاما، حسب الأستاذ محمد مدني، البحث عن وصفة جديدة وعن علاقات متوازنة بين كل الفاعلين في الحقل السياسي من دون الاستناد إلى مقولة الشرعية التاريخية، التي أصبحت أسطوانة مشروخة لا تُغري أحدا، وبات لزاما علي أحزاب الحركة الوطنية نفسِها أن تتأقلم مع الوضع الجديد، بمنأى عن استحضار الأبعاد التاريخية والنضالية في مرحلة ما من تاريخ المغرب.
الأحزاب السياسية.. «واقعية سياسية»
ثمة سؤال مركزي يفرض نفسَه بإلحاح شديد على بلد يواجه إكراهات متعددة، مثلما يرتبط بمواعيد دولية «حارقة» تُحتّم عليه السير قدما بوتيرة سريعة، لكنْ بتؤدة، وهو الأمر الذي يتطلب وجود نُخَب تستشعر طبيعة هذه التحديات الداخلية والخارجية. بهذا التصدير، يستهل الباحث محمد زين الدين دراسته حول النُّخَب السياسية المغربية. وإذا كان هناك شبه إجماع على وجود حالة من التراجع في مكونات النُّخَب الحزبية المغربية، فإن هناك، في المقابل، تباينا يطبع شتى تلاوينها، فالنّخب الحزبية لا يمكن موقعتُها في خانة واحدة، لذا ينبغي التأكيد أن هناك تفاوتا ملحوظا في تعامل الأحزاب السياسية مع مسألة استقطاب وإنتاج النّخَب، فمن «حسنات» أحزاب الكتلة الديمقراطية، قبل ولوجها تجربة التناوب التوافقي، أنها كانت تُشكّل مشتلا قويا لاستقطاب وإنتاج نُخَب متعددة المشارب، لعبت دورا مركزيا في إنضاج مسلسل المسار الديمقراطي في المغرب. لكن إخفاقات تجربة التناوب قادت إلى نوع من «الانكماش» لدى جانب من هذه النخبة، الأمر الذي دفع الكاتب الأول السابق لحزب «الوردة» محمد اليازغي، خلال أحد اجتماعات اللجنة الإدارية للاتحاد الاشتراكي، السابقة، إلى الإفصاح صراحة عن تطلّعه قائلا: «علينا أن نكون قوة سياسية تجعل من المنهجية الديمقراطية أمرا واقعا». غير أن تحقيق هذا المسعى لن يكون إلا بعودة «الروح» إلى مكونات الكتلة، من جهة، بالعمل على استقطاب الأطر المُغيَّبة من الحقل السياسي المغربي، ومن خلال تدبير ثقافة الديمقراطية الحزبية، من جهة ثانية. أما الأحزاب الجديدة، التي توصف بكونها إدارية، فلم تستطع، إلى حدود اللحظة، أن تجتذب ما يسمى «الأغلبية الصامتة».
إن الاختلالات التي تعيشها الأحزاب المغربية حاليا، حسب الأستاذ إدريس لكريني، لا هي في صالح المجتمع ولا في صالح الدولة ولا في صالح الأحزاب السياسية نفسِها. ذلك أن تأمين انتقال ديمقراطي حقيقي يتطلب انخراطا من قِبَل الدولة والمجتمع، بمختلف مكوناته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتتحمل الأحزاب السياسية مسؤولية كبرى في هذا الصدد. ولا يمكن أن نتصور أن المشهد الحزبي، في وضعيته الراهنة، يسمح بتحقيق انتقال ديمقراطي مبنيّ على أسس متينة، فهناك عدد كبير من الأحزاب السياسية لم تعد قادرة على إنتاج وبلورة تصورات وأفكار ومشاريع اجتماعية وسياسية واضحة المعالم تستمدّ مقوماتها من الواقع. كما أن خطاباتها ما زالت جامدة ومتجاوَزة ولا تواكب التحولات الاجتماعية والسياسية وتصورات وانتظارات الأجيال الجديدة، فيما تفتقر غالبيتها، أيضا إلى مشروع مجتمعي واضح المعالم، بعدما تحوّلت من مؤسسات مفترَضة للتأطير السياسي والتنشئة الاجتماعية وبلورة المطالب إلى قنوات انتخابية مغلقة تنتج نُخَباً تبرّر الخطابات الرائجة ولا تستحضر سوى مصالحها، فحضورها (الأحزاب) تطبعه المرحلية، وغالبا ما يقترن بالمناسبات الانتخابية. وعلاوة على أهمية تبني الأحزاب إصلاحات داخلية تسمح لها بتجاوز مختلف هذه الاختلالات، فإنها تظل، أيضا، في حاجة إلى شروط موضوعية وإمكانيات دستورية تسمح لها بتطبيق برامجها والوفاء بالتزاماتها و«شعاراتها»، التي تقطعها على نفسها أمام أعضائها وأمام الناخبين، من داخل البرلمان أو الحكومة.
وعزا عبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، الذي بدا صارما في حديثه، مشكلة عدم تجديد النُّخب إلى وجود مشهد سياسي غير طبيعي تنتعش فيه «كائنات» حزبية تسيء إلى كل الأحزاب. يؤكد بنكيران أنه إذا استمر التحكم في الحياة السياسية والتدخل فيها، فستحافظ الوجوه القديمة ذاتُها على مواقعها، بيد أن هذه الإشكالية، استنادا إلى تصريحاته، ليست مطروحة بالمرة على حزب «المصباح»، بفعل استحضار مبدأ تداول الزعامة الحزبية وتجديد أعضاء هياكل الحزب بشكل دوري. وفي معرض حديثه عن المقترح الذي تقدَّم به أعضاء من المجلس الوطني بشأن عدم منح التزكية لبرلمانيي الحزب لولاية ثالثة، أبرز بنكيران أن الأمانة العامة ستتدارس الأمرَ بشكل جدّي، لكنه سرعان ما استدرك أن الحزب سيرشح المنتخَبين الذين تتوفر لديهم حظوظ أكبر للفوز.
من جانب آخر، يتحدث امحند العنصر، الأمين العامّ لحزب الحركة الشعبية، عما أسماه ضرورة فك الارتباط مع الثقافة القديمة في عصر جديد. وتبدو عنده مسألة تجديد النّخب قضية جوهرية لا مناص من تفعيلها والتحلي بالجرأة السياسية الكافية لأجل الوصول إلى هذه الغاية. لكن ذلك لم يثن العنصر من الإشارة إلى أن تغيير النّخب لا يمكن أن يأتي بين عشية وضحاها، بل ينبغي أن تكون هناك إستراتيجية مدروسة لتكوين نُخَب حزبية قوية. غير أن العنصر لا ينسى أن الواقع السياسي المغربي يفرض على حزبه (الحركة) المراهنة على الحصول على مرتبة انتخابية مريحة تخول له المشاركة في أول حكومة في الدستور الجديد.
ويبدو أن هذه الحسابات «لا تعني» في شيء حزب الأصالة والمعاصرة، فسمير أبو القاسم، أحد ابرز قياديي الحزب، يؤكد بما لا يدع مجالا للجدال، أنه لم يمض على تأسيس حزبه سوى سنتين ومن ثم لا مجال لطرح هذا المشكل، علاوة على أن كل الذين انضموا إلى حزب «البام» أتوا من تشكيلات مختلفة، وهي، في الغالب، من جيل السبعينيات، الذي لم تستوعبه أحزاب الحركة الوطنية، التي صارت «مترهّلة» وموغلة في المحافظة.
لا يخفي حسن طارق، أستاذ العلوم السياسية وأحد أبرز القيادات الشابة داخل حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، قلقه إزاء الوضعية الخطيرة التي باتت تعيشها النّخب الحزبية المغربية. في المقابل، يرى طارق أن هذا السجال كان قد طرحه حزبه خلال انعقاد المؤتمر السابع للحزب، الذي ناقش ملف «الكوطا»، وإثر ذلك، أي خلال انعقاد المؤتمر الوطني الثامن لحزب رفاق، «بوعبيد» تعمَّق هذا النقاش. ومن الناحية الموضوعية، يقول طارق، فإن الشروط المتوافرة حاليا لا تساعد على عملية تجديد النّخَب في ظل وجود واقع انتخابي صعب ومعقد.. «وهذا هو المغرب»، يستدرك المتحدث. مع ذلك، يرى حسن طارق أن الأحزاب السياسية بمقدورها أن تفتح بعض المنافذ وتبعث بعض المؤشرات على نيتها الفعلية في تجديد
نُخَبها.
وليس حزب التجمع الوطني للأحرار بمنأى عن السجالات الدائرة بخصوص تجديد دماء الأحزاب السياسية، حيث أكد عضو من داخل الحزب أن أزمة تجديد النخب تطرح بشدة بالنسبة إلى حزب «الحمامة»، بسبب غياب الاستقرار التنظيمي واستوزار أسماء من خارج التجمع الوطني للأحرار، مضيفا أن الحزب أصبح مطالَبا بفسح المجال أمام أطره الشابة لتقوده بشكل صحيح، لأن «حسابات السياسيين من شأنها أن تؤدي بالحزب إلى الهاوية».
لقد أدى الفراغ السياسي، الذي تركتْه النّخب السياسية على مدى عقود من تاريخ السياسة المغربية، إلى أزمة عميقة مسّتْ كل الهياكل الحزبية وأدت، كذلك، إلى قطع الصلة بالقواعد الاجتماعية، مما أفرز، في مرحلة لاحقة، حركة عشرين 20، كنتيجة حتمية لغياب التأطير الحزبي والتهميش والغبن الذي طال الشباب.. لكنْ هل ستنجح الأحزاب المغربية في كسب رهان تجديد نُخَبها أم سيستمر المنطق القديم وستعود «نفس الوجوه» إلى واجهة الساحة السياسية؟!...
محمد أحداد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.