إنها الدولة التي تعتبر الإنسان ثروة حقيقية، وتسعى إلى حمايته من الأخطار الاجتماعية التي تهدده، كالمرض والشيخوخة والبطالة والفقر... وهي نموذج للدولة الحديثة، التي عرفت منذ وقت مبكر ظهور نظام التأمينات الاجتماعية ومؤسسات الضمان الاجتماعي ومنظمات المجتمع المدني، التي أصبح يوكل إليها القيام بأدوار موازية لعمل الدولة، بهدف التخفيف من حدة الكوارث الناجمة عن تدهور الأوضاع الاجتماعية. لقد جاءت الدولة الاجتماعية كنتيجة لتطور السياق السوسيواقتصادي للعولمة، وما حملته هذه الأخيرة معها من تراجع في دور النقابات المهنية والأحزاب السياسية، حيث لم تعد الأجوبة الوطنية وحدها كافية لتصحيح الاختلالات وتحقيق المطالب الاجتماعية. فالمجتمع العادل لم يعد يخضع فقط لعمل الدولة وإنما أضحى يقوم، إلى جانب ذلك، على علاقات مؤسساتية، اقتصادية واجتماعية، ترتكز على معايير عادلة وتقوم على مبادئ ومرجعيات مشتركة، ترمي إلى بناء مجتمع عادل ومتضامن ومسؤول. حيث لم تعد الدولة المرجع الوحيد للمجتمع العادل، بل ظهرت إلى جانبها حركة مجتمعية واسعة، أكثر تنظيما وأقوى تأثيرا، تهدف إلى جعل التصرفات الاقتصادية أكثر عدلا وإنسانية. هذه الثنائية في الأدوار وفي المسؤوليات بين الدولة والمجتمع المدني، يمكن اعتبارها أساس الدولة الاجتماعية اليوم. كما أن المسؤولية الاجتماعية لا تقتصر على الدولة والمجتمع المدني فحسب، وإنما تتعداهما، لتشمل المدخرين والمستثمرين، عندما يتحول الادخار إلى استثمار في القطاعات الأقل مردودية (في الثقافة وفي الخدمات الاجتماعية) أو إلى قروض لصالح الفئات الفقيرة (من خلال مشاريع مدرة للدخل). إن التنمية ليست مجرد عملية إنتاجية لتوفير المواد والسلع والخدمات، وإنما هي أكبر من ذلك، تبتدئ بسد الخصاص في الشغل والسكن والصحة والتعليم، وتنتهي عند تحقيق الأمن السياسي والمشاركة في الحفاظ على التوازن البيئي واحترام القانون والمؤسسات. لكن، في المقابل، هل الدولة مستعدة اليوم، بما فيه الكفاية، للقيام بكل هذه الأدوار والوظائف الاجتماعية الجديدة؟ وهل الدولة قادرة كذلك على احتواء واستيعاب جميع شرائح المجتمع، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ودينيا... وهل الدولة مستعدة للتخلي عن جزء من سلطتها وجعل مستقبل التنمية داخلها بيد الأفراد والمؤسسات؟ إن الدولة الاجتماعية، كمؤسسة عادلة، ترتكز على التزامات متعارف عليها، تحتاج في عملها إلى «عقد اجتماعي»، يكون بمثابة ميثاق وطني، يحدد المسؤوليات، حتى يستطيع كل المتدخلين تكييف مبادئهم وكفاءاتهم مع طبيعة مسؤولياتهم، وذلك بهدف بناء مجتمع فاعلين ومسؤولين. إن التنمية الاجتماعية مسار طويل ومتشعب ومتعدد الأبعاد، يقود إلى تنمية القدرات الفردية والفرص والإمكانات المتاحة، وإلى توسيع دائرة الخيارات وتقوية الطاقات، على أساس من المشاركة والحرية والفاعلية، من أجل الوصول إلى تحقيق الرفاهية لأفراد المجتمع، اليوم وغدا، دون أن ترهن في ذلك قدرة الأجيال القادمة على الاستجابة لرغباتها. ولا يتأتى ذلك كله إلا بالزيادة من مخزون الرأس المال المتاح، بجميع أصنافه ؛ المادية (أراضي وتجهيزات) والمالية (ادخار وقروض) والطبيعية (مواد طبيعية) والبشرية (تعليم وصحة) والاجتماعية (علاقات اجتماعية). من هذا المنطلق تمثل التنمية البشرية برنامج عمل بنيوي وطويل الأمد ومتعدد الجوانب؛ يشمل الجانب المادي (توفير المواد والسلع والخدمات) والجانب الثقافي (حماية الهويات) والجانب السياسي (تقوية السلطة) والجانب الأخلاقي (المعايير والقيم)، وكل ذلك بهدف مواكبة العملية الاقتصادية، حتى لا تؤدي إلى اختلالات اجتماعية، تعوق الاستمرار في النمو وفي تحسين ظروف العيش. إن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية تعتبر تجسيدا حقيقيا للدولة الاجتماعية والتضامنية، ومقاربة تنموية نموذجية ورؤية استراتيجية ومستقبلية، واضحة المعالم، ترتكز على ثقافة التقويم والمساءلة والحكامة الجيدة، وتهدف إلى التصدي إلى مظاهر العجز المختلفة، من فقر وإقصاء وبطالة وقصور في ولوج المعرفة وضعف في تمكين المرأة وتقهقر في الخدمات الاجتماعية. الأمر الذي يتطلب مبادرات جريئة وشفافة وإمكانات هائلة، واختيار نخبة من النساء والرجال يتمتعون بروح المسؤولية والاستقامة والنزاهة، وإشراكهم لتقلد المسؤولية على أساس من الكفاءة والفاعلية والمساواة بين الجميع، وليس على اعتبار الحزبية أو العائلية أو الزبونية، وذلك حتى تتسع رقعة المشاركة في التدبير السياسي لجميع أفراد الشعب. إضافة إلى بناء أسس اقتصاد قوي ومتين وذي تنافسية عالية. إذ لا تنمية اجتماعية من دون نمو اقتصادي حقيقي، ومن دون استثمار منتج في الفلاحة والصناعة. كما أنه لا تنمية اجتماعية من دون حل جذري ونهائي لإشكالية التبعية والمديونية الخارجية، أي من دون استقلالية وتحرر وإرادة وكرامة، ولا تنمية اجتماعية من دون وحدة وتضامن ومن دون عيش كريم، تُحترم فيه كافة الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية، ولا تنمية اجتماعية كذلك من دون أمن غذائي وسياسي وثقافي وديني...