في واقعنا السياسي، كما في تاريخنا، الكثيرُ من العطب. وداء العطب جعل منه المولى عبد الحفيظ عنوانا لكتاب من كتبه هو «داء العطب قديم». أعطابنا كثيرة وقديمة، لعل منها أعطاب السلطان الذي لم يتأت للمولى عبد الحفيظ إلا بعد تنازع وانقسام بين أبناء الحسن الأول، وهم خمسة إخوة، انتصب كل واحد منهم سلطانا، بعد استنفاره لعشائر وقبائل ومدن لمساندته، أولهم وأصغرهم المولى عبد العزيز الذي انتهى عهده بعد قبوله واعترافه بمقررات مؤتمر الجزيرة الخضراء، واعتماده الاستمرار في سياسة الإصلاح الخارجي المفروض من قبل قوى الاستعمار. انتصر المولى عبد الحفيظ على إخوانه السلاطين، وتقدم للولاية معلنا اتباع السلف الصالح ونصرة الجهاد وتحرير الثغور، لكن أمره انتهى كذلك بتنازله عن العرش سنة 1912، بعد أن وجد نفسه في نفس الوضع الذي كان عليه أخوه المولى عبد العزيز سنة 1907، لم يكن الضغط الاستعماري وحده السبب، ولا فراغ الخزينة، لكنها أعطاب مضافة إلى الانتشاء بالسلطة والاعتداد بالنفس ورفضه نصيحة علماء الأمة وعدم وفائه بشروط البيعة الحفيظية، من تحقيق للعدل وإلغاء للمكوس وإنهاء للفساد والاستبداد وذود عن الأوطان ورفض الارتكان إلى الاستعمار. فالتمكين للقوى الغربية لم يكن ليتحقق، خاصة وأن المغرب كان ما يزال محط تهيب، رغم هزيمتي إيسلي 1844 وتطوان 1860، لولا التنازع حول السلطان وحب المال والافتتان بسلبه من الأمة، وإطلاق اليد للقياد للعتو والفجور والسيبة والتسيب ورفض الإصلاح والتراجع عن اشتراطات البيعة؛ فانتهى الأمر، كما كتب ليوطي، بتوقيع عقد الحماية واستلام المولى عبد الحفيظ على نفس الطاولة شيكا بقيمة خمسة آلاف فرنك. انتهى بذلك عهده، وأنهى معه استقلال المغرب ومشروع الإصلاح الداخلي للدولة المغربية (في مقابل مشروع الإصلاح الخارجي لقوى الاستعمار) الذي تقدمت به نخبة من علماء زمانه، خلاصته مشروعان دستوريان وبيعة مشروطة، وبداية هندسة ديمقراطية للدولة لم تكتمل، أساسها بناء المؤسسات وإلزام السلطان بإلزامات، مع بوادر لإمكانية تقاسم السلطة. لكن هنا كان مربط الفرس وموطن من مواطن العطب والخلاف، فأساس السلطة القوة والغلبة والإخضاع والديمومة والاستمرار؛ وجوهرها، بحسب المولى عبد الحفيظ، لا يقبل القسمة ولا الاقتسام ولا الانقطاع، كمالها في وحدتها، من يملك عوامل قوتها يصعب عليه أن يقتسمها أو أن يتنازل عن بعضها. في عز علاقته بقوى الحماية، نظر المولى عبد الحفيظ إلى هذا المفهوم في كتابه «نفائح الأزهار» بقوله: «إن الذي يملك القوة، يريد في الغالب أن يمارس السلطة دون أن يقتسمها مع غيره». لطمة الاستعمار ودرس التاريخ هنا، هما أنه إذا كان المال والفرقة والانقسام يضيعان السلطان، فهما كذلك أساس للسيطرة والتحكم. لامتلاك السلطة وحيازتها، لا بد من المال ولا بد من الانقسام، فهما أداتان من أدوات التمكين والقوة لاحتكار السلطة واستمرارها. ولذلك كان تاريخ السلطة هو تأريخ لمواطن الهيمنة ولاستراتيجياتها في الوصول إلى غاياتها وتحقيق أهدافها، ولأساليبها التي تمكن من شرعنتها وإرساء قواعدها، منها: رعاية الريع ورعاية الانشطار، توزيع الثروات وإبداع الفرق والأحزاب وحتى المعارضات، ومن ثم فدَاءُ العطب قديم قدم التاريخ وقدم السلطان، قديم في الأصل ثم انعكس في الحاضر، ولربما سيمتد نحو المستقبل. داخل هذا الإطار، بين أشكال الهيمنة قديمها وحديثها، ظاهرها وباطنها، تشكل الحقل السياسي، وارتدت أعطابه على أصل السلطة ومفاصلها، وعلى أنظمتها الفرعية، فحضر التسلط وغابت الديمقراطية لدى الأحزاب والنقابات ولدى هيئات المجتمع المدني، ولم تسلم أيضا جميع حكومات وقف التنفيذ من الجبروت والهيمنة، منذ الاستقلال وإلى التناوب، بل وحتى الربيع العربي، لا أحد منها تمكن من أن يحكم ولن يستطيع، لأن الحكم شأن خاص للسلطان لا سبيل إليه، أما وظائفهم جميعا فهي تقف عند حد خدمة السلطان وتسويغ إرادته، وتدبير أموره واستمراره واستقراره، وما يفيض عنه. انعطب النظام الأساسي فانعطبت الأنظمة الفرعية، وانعطب الأفراد وانعطب حالهم، رعايا أو مواطنين. وتعارضت المسارات، مسار الإصلاح ومسار السلطان، وإن كان خطاب السلطان هو خطاب إصلاح الأمة وتأهيل المجال وإصلاح الحال، بإصلاح الدستور وإصلاح الأحزاب وغيرها كثير. لكن التاريخ يقول إن أصل الأزمة منه قد أتى وعلى الحقل السياسي يرتد ويعود. ومن ثم فمنطلقات الإصلاح ينبغي أن تنطلق من ذاته، قبل أن ترتد على غيره، فهو أصل في كل شيء وإليه يرجع الأمر في الأول والآخر، أما خطاب الانتقال الديمقراطي والربيع العربي وعشرين فبراير، وكل حديث عن التحول والإصلاح فليس إلا حديثا عن أساطير الأولين.