حين خصَّصْنا، في بيت الشِّعر في المغرب، في سنوات التأسيس الأولى، يوماً وطنياً للشِّعر، (8أبريل من كل سنة، وهو يوم إعلان فكرة التأسيس) قبل أن نذهب لمطالبة منظمة اليونسكو بتخصيص يوم عالمي للشِّعر، كُنَّا اسْتَشْعَرْنا، آنذاك، ما وصل إليه الشِّعر من تهميش، ونسيان، وسَعْيِ بعض مؤسسات التعليم العالي وبعض الجمعيات والمنظمات الثقافية، وعلى رأسها اتحاد كُتَّاب المغرب، آنذاك، إلى تكريس بعض أجناس الكتابة، كمجال للبحث، والدراسة، وهو ما كان انعكس على الإعلام نفسه، وعلى ما كان يُعْقَد من ندوات ومحاضرات، وما صدر من أعداد مجلة «آفاق»، كلها كان الشِّعر خارجَها، وما كان يُكْتَب من مقالات عن «موت الشِّعر» و»زمن الرواية»، ما حذا بأغلب الناشرين، إلى اعتبار الشِّعر، ليس وارداً ضمن منشوراتهم، وما ضاعف من وضع الشِّعر خارج السياق الجمالي للكتابة، وخارج ما يجري في المشهد الثقافي العام بالمغرب. ف»بيت الشِّعر»، قبل أن يصير إلى ما هو عليه من حَرجٍ اليوم، معالي وزير الثقافة، لعب دوراً كبيراً في إعادة الشِّعر إلى سياقه الثقافي العام، ونقلنا اللقاءات، والندوات، وما يصدر من أعمال شعرية، بما في ذلك مجلة البيت، من مستوى التجاهُل والنسيان، إلى مستوى من الحضور، لم يعرفه الشِّعر المغربي، في سياقه التخييلي الجمالي. فأمسية الشاعر المغربي، والسبت الشِّعري، والندوة الأكاديمية للبيت، والمهرجان العالمي للشِّعر، كلها كانت تعبيراً عن الحاجة الكبيرة للشِّعر، وبدا من خلال ما جرى أن الخلل لم يكن في الشِّعر، في ذاته، بل في طريقة النظر إليه، والتعامُل معه، بنوع من التمييز، وتوجيه الرأي العام، الثقافي، نحو سياقات تخييلية أخرى، هي ما عاد اليوم للواجهة، وبنفس الطريقة السابقة، لتعود معها الخطابات التأبينية، السابقة، والكتابات التي تُشَكِّك في أهمية الشِّعر، وترى في ما كان في الستينيات والسبعينيات، هو الشِّعر، وما جرى بعد ذلك، هي مياه فاسدة، أو كتابة خارج الكتابة ! «بيت الشِّعر» لم يعد له وجود، بل أصبح جزءاً من المشكلة، بما عمل على تكريسه من غنائم، وتحويل البيت إلى ملكية خاصة لأفراد محددين، وهو نفس الوضع الذي تركوا عليه اتحاد كتاب المغرب قبل أن يخرجوا منه، واتحاد الكتاب عليه أن يُعيد النظر في علاقته بالشِّعر والشُّعراء، وأن يفكر جدياً في وضع الشِّعر ضمن مجموع برامجه وسياسته الثقافية، فليس مقبولاً أن يعيش مجال التخييل بالرواية وحدها، دون مسرح ولا قصة ولا شعر، فهذا يمس الرواية ذاتها، في قيمتها، ويمس مفهومنا للإبداع، بشكل عام. التراكمات الجمالية والمعرفية لا تتحقق، ولا يمكن للإضافة أن تكون دون أن تُحَلِّق الكتابة بكل أجنحتها، وفي نفس السماء. ولعل الأخطر، في هذا الوضع، هو أن يتحوَّل الناشر إلى مُقَرِّر لمصير الشِّعر، بالامتناع عن نشره، بدعوى أنه غير مقروء. وهنا معالي وزير الثقافة أتوجه إليكم للتدخُّل لوضع الشِّعر ضمن اهتمامكم، من حيث الدَّعْم الذي تقدمونه للناشرين وللمؤسسات والجمعيات التي تعمل على نشر الشِّعر. ففي أوربا، وأكتفي بمثال النرويج، دون فرنسا التي هي قريبة منا، ونعرف تقاليدها، في الموضوع، فالحكومة النرويجية، من خلال «مجلس الفنون»، تعمل كل عام على شراء 100 نسخة من كل عنوان، من 220 عنوانا، في مجال الخيال، بينها الشِّعر والدراما، لتقوم بتقريبها من القارئ، من خلال توزيعها على المكتبات العامة. وهو ما تفعله دول أخرى مع مجالات الكتابة التي تجد صعوبة في النشر، والتوزيع، والوصول إلى القارئ. فوزارة التعليم، والشبيبة والرياضة، وعموديات المدن، والمجالس المنتخبة، كلها معنية، بشكل خاص، بدعم الكتاب، ودعم ترويجه، من خلال ما قد تخصصه من ميزانيات لاقتناء الشِّعر، وغيره مما له علاقة بالمجالات التي أصبح الناشر يتدخل في رفضها، أو التحفُّظ عليها، فالمكتبات المدرسية تعاني من نقص كبير في الأدب المغربي الحديث والمعاصر، وهو ما يسري على مكتبات دور الشباب والمكتبات التابعة للمجالس المنتخبة. فتدخل وزارتكم، ووزارة التعليم، ووزارة الشبيبة والرياضة، والمجالس المنتخبة، سيخلق دينامية جديدة في مجال النشر والتوزيع، وسيجعل الناشرين يرفعون حصارهم عن الشِّعر، بشكل خاص. ليس مقبولاً، معالي الوزير، أن يصير وضع الشِّعر بيد أطراف، إما تعمل على ازدرائه وابتذاله، بأكثر من طريقة، أو بيد من لا يدركون بأن النشر لم يكن حكراً على مجال دون مجال، فالناشر هو مؤسسة تبتكر في طرق الدعاية، وطرق النشر، وفي اختيار الأعمال النوعية، لا نشرَ ما يمكنه أن يصير حُجَّة على الشِّعر، في ما هو لا علاقة له بالشِّعر. لا بد من وضع الشِّعر في سياقه الثقافي، باعتباره خطاباً به تتأسس علاقة الإنسان بالوجود، وعلاقة الإنسان بالخيال، الذي هو أساس كل ابتكار وخلق. وهو ما كان قاله جان دلامبير، عن المسرح، في الإنسكلوبيديا (1757)، الذي كان في زمنه يُنْظَر إليه باحتقار، وكان روسو أجابه، في رسالة بتاريخ 1758، للتأكيد على نفس الفكرة، أو دفاعاً، بالأحرى عن الفن، وعن الجمال، الذي لا يمكنه أن يكون مجرد صدفة في حياتنا. دعم الإبداع هو دعم لقيم الابتكار، والاختراع، ودعم للمعنى العميق ل «التنمية البشرية»، التي يكون الإنسان في قلبها، وليس خارجها، بما نَضَخُّه في روحها من محبة للطبيعة، وللتأمُّل، ولاخْتِلاقِ القيم وابْتِكارِها، وتطوير اللغة، نفسها، التي لا يمكنها أن تكون لغةً حية، إذا كان ما تقوم عليه، وأعني الشعر، خاصةً، ممنوعاً، أو مُحاصَراً، من قِبَل من لا يعرفون قيمة الخيال في حياة الشعوب وفي فكرها. معالي وزير الثقافة، يحتاج الموضوع منكم لقرار واضح، دون أن يجري على الشِّعر والقصة والمسرح، ما يجري على غيرها من أنواع الكتابة الأخرى، مما لم يتنصل منه الناشرون بعد، أو ما يزالون يعتبرونها «سِلْعَةً» قابلةً ل»الاستهلاك»! قد يكون اليوم العالمي للشِّعر، معالي الوزير، الفرصة التي من خلالها تتقدمون بالتحية للشُّعراء، وللناشرين بتحرير الشِّعر من أسْر قراراتهم المُجْحِفَة، في حق تاريخ عميق، وبعيد، من المعرفة الإنسانية، تاريخ «الإليادة»، و «الأوديسا» الإغريقيتين، و «الشَّهْنامه» الفارسية، و «المهاباتا» الهندية ... ومن تاريخ الثقافة العربية، التي كنت ثقافة شُعَراء، من مثل امريء القيس، وطرفة، والمتنبي،وأبي تمام، والمعري … لا ثقافة ناشرين تآمروا، عن قَصْدٍ، أو بغير قصد لوضع الشِّعر خارج المعرفة. ولكم كل التقدير والاحترام.