هل أنت سعيد؟ ومن أين تشتري سعادتك؟ هل هي «بلدية» أم مستوردة؟ وإذا كان الأمر كذلك، هل تأكدت جيدا من بلد المنشأ ومما إذا كانت أصلية أم مقرصنة؟ هذا مهم جدا كي تعرف من أي سوق أصلي يمكنك أن تتبضع ما تشاء من ألوان السعادة، إنها مثل البقر.. تتشابه؛ لكن عليك، بكل تأكيد، أن تساوم جيدا في السوق الذي نسميه الرأسمالية المتوحشة، التي جعلت كل شيء قابلا للقياس، بما فيه معدلات السعادة؛ فهناك اليوم شعب سعيد، وشعب سعيد جدا، وشعب متوسط السعادة، وشعب غير سعيد بالمرة، وهناك شعوب تكون سعيدة، ثم تصبح بين عشية وضحاها غير سعيدة، وهناك من يعانق السعادة مرة في القرن، وهناك شعوب كان قدرها ألا تذوق نعمة السعادة نهائيا، ليس لأن حكامها طغاة وديكتاتوريون، ولا لأن خيراتها الوطنية تنهب وتهرب إلى الخارج، ولا لأن انتخاباتهم غير نزيهة، ولا لأن «ربيعاتهم» غير عربية، ولا لأن الثروة غير موزعة جيدا.. ليس لهذه الأسباب، فهناك من قدره أن يكون تعيسا وأن يحمل معه هذا الوشم الصارخ من جيل إلى جيل، كما هو حال الهنود الحمر وكما هو حال الفلسطيني، اليوم، الذي تولد أجياله بلا أفق في أرض الشتات. أتعرف ما معنى أن تكون فلسطينيا بلا وطن؟ أتعرف معنى أن تكون بلا وطن؟ بلا قبر متعين، وبلا ذاكرة أطفال، وبلا منزل العائلة، وبلا بوصلة..؟ هل جربت يوما أن تبحر بلا هدف وبلا اتجاه وبلا أداة تعينك على أن تحدد وجهتك؟ ليس هذا سهل التمثل، ولا يمكن أن تستيقظ في الصباح وتتقمص شخصية الهندي الأحمر أو إحساس فلسطيني في الشتات ذاهب في بلد الصقيع إلى العمل. تقول الإحصائيات، والإحصائيات ما أكذبها، إن بلد الصقيع ذاك يحقق أعلى معدلات السعادة، ولكن لمَ لا يكون فلسطيني في البلد الثلجي نفسه سعيدا، ولمَ يضطر المغربي هناك إلى المتاجرة في «الغبرة» لكي يعيش، ولماذا تبيع فتاة إفريقية لحمها للغرباء كي تتدفأ من شرور الوحدة والاغتراب؟! السعادة تترنح في يومها العالمي، منشية بالقهر والاستعباد وسلب الإرادة الذي تتعرض له البشرية. الأكثر قدرة من مصاصي دماء وعرق الكادحين، يحصون الغنائم، مليارات ومليارات مضاعفة.. كيف يمكن لميلياردير في بلد فقير أن ينتشي بالثروة التي راكمها؟ ومن أين له بكل هذه القدرة المدمرة وهذا الانتفاخ الوحشي كي يهضم كونه الرجل الغني في البلد الفقير؟ وهل تساءل يوما مع نفسه، من أين يأتي كل هذا المال الوفير ومماذا تصنع المقدمة التي يحوزها، أليس ذلك بفضل عائدات تجارته وهامش الربح الذي يسطو على حقوق آلاف سواعد العمل من مواطنيه؟ ويا للمفارقة، هو سعيد بثروته، لكننا نحن تعساء لثروته، وإذا كنا مغفلين تماما، سنقول إننا قنوعون، هذا رزقنا، والأرزاق مثل الأعمار ومثل طول القامة أو قصرها، أو مثل أشياء كثيرة تطول وتقصر، هي كلها غير متساوية.. فسعادة البعض من شقاء الآخرين. غدا يوم سبت، من الجيد تماما الذهاب إلى البحر في شهر مارس. أنا أفضل أن أصحب معي روايات، هي أفضل ما يمكن أن نزجي به الوقت. لم أعد ألعب الكرة، كما أن الكيلوغرامات، التي أضفتها، لم تعد تخول لي الجري السعيد، لكنني سعيد، لأن البحر لم يقرف ولم يغادر مكانه. أول مرة رأيت فيها البحر، وجدته ممتدا ولا حدود له. قبلها، كنت أفهم معنى الحقول ومعنى الامتداد، لكن مع البحر، الذي صحبته بعد ذلك لفترة طويلة، صرت أفهم معنى العمق. هكذا تسلل البحر إلى كلماتي، وإلى لغتي، وأصبح الموج لغة قائمة الذات، والأزرق لوني المفضل، والنساء البحريات، كما في الأسطورة، هن المحلوم بهن.. نساء كريمات يخرجن من البوابة البحرية للقلعة، ويرششن بعض الجمال وبعض البهاء على الناس البؤساء في وطني. البحر هو رمز السعادة، لكنه هو الأكثر إثارة للشفقة بالنسبة إلى الفلسطيني الخارج من بيروت في سنة 1982، والمقذوف إلى البحر في سفينة الجلاء أو الخروج أو النفي، لا يعلم إلى أين يذهب، ولا على أي قعر سيرسو؛ فالبحر لا قشرة له ولا يابسة. البحر كائن هلامي، لذلك نجد شاعرا كبيرا مثل محمود درويش ينظر إلى البحر مثل منفى كبير، ومثل تيه لا أول له ولا آخر. يكتب محمود درويش في قصيدته البديعة «حجر كنعاني في البحر الميت»: لا باب يفتحه أمامي البحر قلت: قصيدتي حجر يطير إلى أبي حجلا، أتعلم يا أبي ما حل بي؟ لا باب يغلقه علي البحر، لا مرآة أكسرها لينتشر الطريق حصى.. أمامي أو زبد... هل من أحد.. يبكي على أحد لأحمل نايه عنه، وأظهر ما تبطن من حطامي أنا من رعاة الملح في الأغوار، ينقر طائر لغتي، ويبني عش زرقته المبعثر في خيامي.