كتب عالم المعرفة التطوري جيريمي شيرمان: "لا شيء له نتيجة واحدة فقط. تتشعب العواقب في كل اتجاه مع مرور الوقت، الحياة أشبه بعزف البيانو وأنت ترتدي قفازات الفرن، تضغط على مفتاح واحد، فتُضرب على مفاتيح أخرى في نفس الوقت". بهذا التحليل يمكن قراءة حصيلة السياسة الخارجية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية إلى اليوم. نعم نجحت الولايات المتحدةالأمريكية طيلة القرن العشرين في تدبير علاقاتها الدولية، خاصة لما ورطت الاتحاد السوفياتي في الدوامة الأفغانية، وجندت العالم الإسلامي لمحاربة "مده الإلحادي المزعوم". لكن هذا النجاح، سرعان ما وجد أمامه عقبات كؤود، عرقلت حسابات السياسة الخارجية لأقوى دولة في العالم. ونجد من بين هذه العقبات، ملفات وقضايا دولية صعبة ومعقدة، ك : صعود الصين، الإرهاب الدولي، إسرائيل وحروبها مع الجوار العربي، انهيار الصناعة المدنية الأمريكية نتيجة الرهان المفرط على التسلح..، وهذا ليس اجتهادا شخصيا مني في التحليل، بل نقل أمين لخلاصة من الخلاصات المهمة التي وردت على لسان أحد كبار صانعي السياسة الخارجية الأمريكية، زبغنيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس جيمي كارتر. أول ما واجهت الولايات المتحدة بعد سقوط جدا برلين، هو ملف "اسرائيل"، وهو الكيان الذي أخذته نهاية خمسينيات القرن الماضي بالقوة والنفوذ من يد بريطانياوفرنسا، لتحوله لاحقا إلى أداة طيّعة تنفذ بها سياستها الخارجية في الشرق الأوسط. نعم نجح الكيان نسبيا في ضبط دول المنطقة (حرب 67 و73 ..) لصالح الولايات المتحدة، في انتصار تام على النفوذ السوفياتي. لكن مع سقوط جدار برلين سنة 1991، سيصبح عبئا على الإدارة الأمريكية. ولما فشلت اسرائيل في إدارة ملفات كبيرة أسندتها لها الولايات المتحدة، سارعت الأخيرة لإنهاء هذا "كابوس" المكلّف، عبر مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو للسلام، الموقّع بين ياسر عرفات وإسحاق رابين، من أجل دمج الكيان في استراتيجية السلم والتعايش بدل الحرب والنزاع. لكن خلال عقد التسعينيات "سيُوافق شنّ طبقة"، سواء داخل أمريكا لما تسيد المحافظون الجدد المشهد، وجلسوا وراء كرسي الرئيس جورج بوش في حربه على الإرهاب وضرورة دك أمريكا لقلاع الإرهابيين في عقر دارهم. أو داخل إسرائيل بعد عودة حزب الليكود للسلطة (شامير، نتنياهو، شارون)، وهو الحزب المدافع عن مشروع اسرائيل الكبرى وفكر المحافظين الجدد. ومنذ هذه الفترة لم يعش الشرق الأوسط، إلا في أجواء الحروب والنكسات (غزو العراق، حرب جنوبلبنان، سقوط الدول والأنظمة، الحروب المتتابعة على غزة، العدوان الأخير على إيران...). حتى مع نهاية مرحلة المحافظين الجدد عقب فوز دونالد ترامب بالرئاسة، لم تستطع الإدارة الأمريكية احتواء اسرائيل وحماقاتها. إذ بمجرد ما لمست الحكومة اليمينية المتطرفة، سنة 2023 بوادر استراتيجية سلم وتعايش جديدة بالمنطقة، حتى سارعت لحرب "هرمجدون" قضت فيها على البشر والشجر والحجر، لضمان المساعدات المالية السنوية الطائلة من بلاد "العم سام". وفي مثال آخر لا يقل أهمية عن سابقه، اندفعت حكومة بنيامين نتنياهو لحرب مباشرة مع إيران قبيل "لقاء عمان" المرتقب بين المبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف ووزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، المُمَهّد لاتفاق نهائي حول البرنامج النووي. ولولا التدخل الأمريكي، بإعلان اتفاق وقف إطلاق نار كامل وشامل، لتمكنت اسرائيل من دفع العالم لحرب نووية مدمرة. ومازالت الإدارة الأمريكية لحد الآن تدفع في اتجاه محاصرة الكيان باستراتيجية شاملة في منطقة الشرق الأوسط، ستحاول من خلالها تحويل هذا الكيان تدريجيا من "قوة عسكرية" عدمية ومنتحرة إلى طرف سلمي "بدون مخالب" يساهم في استقرار المنطقة لا في تأزيم أوضاعها. أيضا من العقبات التي واجهتها الولايات المتحدة بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار المعسكر الشرقي، قضية الصين، وهي الأعقد بكثير من القضية الفلسطينية واسرائيل، نتيجة عوامل تاريخية وسياسية واقتصادية متشابكة، سنتعرض لها بالشرح لاحقا. في سنة 1979 سيعقد الزعيم الصيني، دينغ شياو بينغ، بعد زيارته لواشنطن أول اتفاقية مع الولايات المتحدة، ستتبعها "صفقات" لاحقة فَتحَت الطريق أمام النهوض الاقتصادي والتجاري بالصين الشعبية، مقابل اصطفاف الأخيرة مع الأمريكيين ضد السوفييت في الحرب الباردة. لكن مع بزوغ فجر القرن الواحد والعشرين، ستجد الولايات المتحدة قطار الصين قد فاتها دون تردد. ليصبح الخيار العسكري مع مرور الوقت، الحل الوحيد أمام كل رئيس أمريكي يريد هزم الصين في معركة قيادة النظام العالمي. وما يؤكد خيار المواجهة مع الصين، هو حجم التوافق الذي نلمسه في تصريحات وخطابات قادة الطرفين المتناقضين في الإدارة الأمريكية (الحزب الديمقراطي والجمهوري) إزاء هذا الملف الذي تحول تديريجيا إلى أول نقطة في جدول أعمال الإدارات الأمريكية (سواء السياسية أو العسكرية أو الاستخباراتية..). فكل الحروب القائمة اليوم، سواء في أوكرانيا أو غزة أو طهران..، هي في نظر الأمريكيين، مجرد معارك "ثانوية" يحاولون إنهائها بأي ثمن، نتيجة عامل "الوقت" الذي أصبح حاسما في معركتهم القادمة مع الصين. في الجهة المقابلة لهذا التوجه، نتساءل، هل الصين مجرد دولة "تاجر" تفكر في العالم بمنطق التجارة والاقتصاد غير مبالية بمعارك السياسة والحروب؟! كل الاستراتيجيين والمختصين في الشأن الصيني، يعرفون أن الصين تظهَر للعلن في صورة مهتم بالتجارة والاقتصاد لا غير، لكن في الخفاء تدرك حتمية الصدام مع أمريكا آجلا أم عاجلا. وفي سياق هذا الصدام المحتمل، أطلق الصينيون مبادرة "الحزام والطريق" التي ستقوض عمليا أي استراتيجية أمريكية للنهوض. كما شاهدنا أحداثا دولية تحركت فيها الصين، ضمن نفس الرؤية، كتطورات الحرب التجارية والاقتصادية عبر الرسوم الجمركية، والانخراط غير المباشر في الحرب الإيرانية-الاسرائيلية، التي أظهرت فيها إيران قدرات عسكرية حاسمة عجلت بنهاية العدوان الاسرائيلي على طهران، وهي القدرات العسكرية التي لو لم تكن الصين وراءها لما أثبتت فاعليتها (إذ يمكن الرجوع في هذا الصدد إلى التقارير التي تناولت الرقائق الصينية المستعملة في الصواريخ فرط صوتية). وما زيارة وزير الدفاع الإيراني لبكين في اليوم التالي لإعلان ترامب عن اتفاق وقف النار، إلا دليلا آخر على استعداد الصين للمواجهة مع الولايات المتحدة في حال ما ضُربت مصالحها المباشرة (خاصة أن ايران شريك رئيسي للصين في مجال الطاقة). وبالتالي فكل تدخل أمريكي في ساحة من الساحات سواء ايران أو أوكرانيا أو الشرق الأوسط، هو جزء من مواجهتها للصين؛ تستوجب تحركا صينيا موازيا يحمل كل خيارات المواجهة، سواء الدعم العسكري الخفي أو المعلن للحلفاء، أو الدخول في حرب مباشرة. ولعل المتابع لمخرجات قمة حلف شمال الأطلسي الأخيرة المنعقد بلاهاي، سيستنتج قرب المواجهة العسكرية بين أكبر قوتين نوويتين (الصين-أمريكا). إذ لم يذكر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اسم أوكرانيا التي تشغل بالَ أعضاء حلف الأطلسي الأوروبيين، بل تعهد بضمان عدم مهاجمة روسيا للحلف، وصرح أن المشكل مع إيران انتهى، في إشارة واضحة على أن الأجندة الأمريكية اليوم مركّزة على الصين لا غير، وكل التحالفات القادمة ستبنى على هذا الأساس. كما أن حث ترامب لأعضاء الحلف على زيادة الإنفاق الدفاعي إلى 5%، كزيادةً مضاعفةً في الميزانيات العسكرية لحلف الناتو، يعتبر تحضيرا عمليا لحربٍ عالمية هدفها القضاء على الصين، خاصة الجيش الصيني يملك أنواعًا فائقة التطور من الأسلحة التي لا يمتلكها الغرب. فهو تستخدم أسرابًا من الطائرات بدون طيار المزودة بالذكاء الاصطناعي، وهو التحدي شبه المعلن عند الناتو لما أُعلن عن إعادة تسليح كتلته، وإنشاء وحدات طائراتٍ مُسيّرةٍ مُزوّدةٍ بالذكاء الاصطناعي، وتطوير أنواعٍ جديدةٍ كليًا من الأسلحة. انطلاقا من هذه المؤشرات، يظهر أن العقل العسكري الجماعي للغرب، بقيادة الولايات المتحدة، مصمم على احتمال بدء حرب عالمية، خاصة أن الناتو يضم ثلاث دول على الأقل تمتلك أسلحة نووية استراتيجية (أمريكا، بريطانيا، فرنسا) كما يضم دولًا قوية قادرة على إنتاج أسلحة حديثة، مثل ألمانيا. ويقترب عدد سكان دول الناتو مجتمعةً من المليار نسمة، أي ما يعادل تقريبًا عدد سكان الصين. مع مرور الوقت تربح الصين بشكل غير متوقع مكاسب استراتيجية، وهي التي وصلت بالفعل إلى نهاية القرن الجاري، بفضل ابتكاراتها العلمية والتكنولوجية، وهو ما لا يمكن أن يتقبله الغرب بأي ثمن. الصين تمضي قدما لاحتكار التجارة العالمية عبر مشاريعها العملاقة الممتدة من آسيا إلى أوروبا عبر الخليج العربي (مبادرة الحزام والطريق). وما الحروب العالمية في المحصلة إلا حروبا لتقسيم الأسواق. فالخطة الصينية "المُحكَمة" التي تربط بين مكان انتاج الموارد وتسليمها في شكل سلع، لم تترك مجالا للغرب في أن يتفوق اقتصاديا أو تجاريا، الحل الوحيد أمامه هو إجبار الصين على المواجهة العسكرية، لكي يعدل الكفة لصالحه من جديد. لقد أدت عقود من نمو فقاعة الائتمان إلى خلق فائض في الطلب في العالم، الأمر الذي أدى بدوره إلى خلق فائض في الإنتاج، لكن في النهاية أصبح العالم يغرق في أزمات اقتصادية لا تنتهي بسبب محدودية الأسواق وقسوة المنافسة بين الصين والغرب، لِيُطرَح السؤال الجوهري التالي، بعد ما يقارب قرنا من نهاية الحرب العالمية الثانية: من سيتحمل فاتورة إعادة التوازن للاقتصاد العالمي لما ستقوم الحرب العالمية العسكرية؟ هل الصين أم أمريكا أم أوروبا..، هذا ما ستقرره المواجهة بين الكبار في المستقبل.