وأنا أقرأ خبر وفاة محمد الصباغ وجدت الذاكرة تعود بي إلى ما كتبه صاحب "الخبز الحافي" محمد شكري، حينما كان يبحث عن طريقه في عالم الكتابة. حينما شاهد شكري الناس يتحلقون حول الصباغ أصيب بنوع من الذهول. ذلك أنه لم يكن يتصور الكاتب إلا ميتا أو شخصا لا يمكن مشاهدته، لكنه حينما قرأ ما كان يكتب قال إنه لا يمكنه أن يكتب بتلك الأناقة. كان واقع الكاتبين مختلفا، فكان محمد شكري صوت القاع الاجتماعي، في حين كان محمد الصباغ أنيقا ومخمليا في ما يكتب. يحكي محمد شكري أنه سأل عن الرجل الذي كان يتحلق حوله المعجبون فقيل له إنه كاتب. "كان الكاتب بالنسبة لي غير موجود. كان دائما إما ميتا أو شخصا عصيا على الرؤية. كنت مقيما في تلك الفترة داخل كوخ صحبة الفئران. شرعت بدوري في ارتداء ربطة فراشة، واشتريت سلسلة يد زائفة مذهبة. فكرت في أن أكون كاتبا كي أتبجح وأتظاهر، وكي أندد بالفقر والمعمرين وأن أكون ناطقا بلسان من تعوزهم القدرة على التعبير. كنت راغبا في الاحتجاج وأن أستفز من كانوا يعيشون معي في طنجة داخل جنة مترفة نبيلة ومحروسة". لم يكن كاتب مقهى كونتيننتال سوى محمد الصباغ رئيس قسم المجلات والمطبوعات بالمكتبة البلدية بتطوان. كان شاعرا ينتمي إلى التيار الرمزي ويتميز بأسلوبه الرفيع وعلاقاته بالكتاب والشعراء المصريين واللبنانيين. كان يمضي حياته في تطوان متوحدا بالشعر. اشترى شكري في تلك الفترة بعض كتبه (“شلال السباع” و “الظمأ الجريح”) وقرر أن ينافس هذا المعلم الذي لم يتعرف عليه بعد بأن كتب بضع صفحات. اقترب منه وسلمه النثر الذي قام بكتابته، فشجعه محمد الصباغ وقام بتوجيهه في قراءاته، فشرع ابن "الشارع" يبحث عن ملهمة، ولم يبق له إلا أن يقرر بأن يصير كاتبا ومتعلما ليدفع عنه الاحتقار ويصرخ في وجه المستغلين ويندد، وكذلك كان. القرار خلق تحولا جذريا في سيرة "ابن الريف"؛ إذ لم تلبث رغبته في التعلم أن تحولت إلى ولع وهوس بالقراءة والكتابة. كان اللقاء /الصدفة مع الكاتب المغربي محمد الصباغ فاتحة علاقته بالكتابة؛ إذ لم يلبث محمد شكري أن نسج علاقات بالوسط الأدبي في طنجة من خلال إدوارد روديتي وبول بولز والناشر الأمريكي بيتر أوين. كانت تجربة "الخبز الحافي" التي دفعته إلى العالمية. بالرغم من الفارق الطبقي ولغة الكتابة الأنيقة عند الصباغ فقد شجعته مكانته الاعتبارية ككاتب في أن يبرز كاتبا مختلفا عنه إسمه محمد شكري. لقد كان الراحل من مؤسسي اتحاد كتاب المغرب الذي سيصبح صوتا لجميع كتاب المغرب. ترك الإنتاجات الإبداعية التالية:"العبير الملتهب"1953،و"شجرة النار"1954، و"أنا والقمر" 1956، و"فوارة الظمأ" 1961، و"عنقود وندى" 1964 ، و"شجرة محار" 1977، و"كالرسم بالوهم" 1977،و"تطوان تحكي" 1979، و"دفقات" ،1995 و"أطالب بدم الكلمة" 1995. وقد حصل الراحل الذي أصدرت وزارة الثقافة، مجموعة أعماله الكاملة، على جائزة المغرب في الآداب سنة 1970 وعلى وسام الاستحقاق الفكري الإسباني سنة 1986. رحم الله محمد الصباغ ومحمد شكري .