جلالة الملك يهنئ رئيسة جمهورية مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد استقلال بلادها    ارتفاع أسعار النفط بعد اتفاق "أوبك " على رفع الإنتاج بوتيرة أبطأ ابتداء من أكتوبر    الوطنية الاحترافية للقسم الأول برسم الموسم الرياضي 2025-2024: النادي الرياضي المكناسي يشحذ أسلحته بطموحات قارية        من أدغال إفريقيا..الركراكي يختبر أوراقه الجديدة أمام زامبيا بعد ضمان التأهل    برادة يفتتح الموسم الدراسي الجديد بزيارة مؤسسات تعليمية بمديونة        مكناس.. وفاة خمسيني في وضعية غير طبيعية أثناء نقله إلى المستشفى    الخارجية الليبية تتدخل لتصحيح خريطة المغرب مبتورة بمقر غرفة التجارة    "الاشتراكي الموحد" يقترح منع الاحتكار الانتخابي مع شرط الإجازة للبرلمانيين    أمطار رعدية تصل 35 ملم مرتقبة في مناطق مختلفة من المغرب    ربيع القاطي يطرق باب العالمية مجددًا عبر سلسلة "Atomic"    الراضي تتوج أفضل ممثلة إفريقية    "كناش الحشمة".. أسطورة الرحل فوق خشبة المسرح الكبير بنمسيك    أكادير تخصص أزيد من 500 مليون درهم لتأهيل محيط ملعبها الكبير استعدادا ل"كان 2025″    مراكش تستيقظ على حريق مأساوي أودى بحياة شخصين    ناصر الزفزافي... رسائل من فوق السطح إلى قلب الوطن    في مواجهة حملات الاستهداف.. يقظة وطنية والتفاف شعبي حول الملك    مقتل 6 إسرائيليين في عملية إطلاق نار بالقدس واستشهاد المنفذين وسط تصعيد بالضفة الغربية    اسبانيا تٌغلق مجالها الجوي وموانئها أمام الطائرات والبواخر التي تحمل أسلحة لإسرائيل والناقلات التي تزود جيشها بالوقود    اللغة والهوية في المغرب: خمسون عاماً بين الأيديولوجيا والواقع    الحكومة تصادق على مشروع قانون تعويض المصابين في حوادث سير    الركراكي: نحترم جميع الخصوم وهدفنا الفوز أمام زامبيا    زخات رعدية وهبات رياح مرتقبة اليوم الاثنين بعدد من المناطق    النقابات التعليمية بالحسيمة تنتقد تدبير الادارة للدخول المدرسي وتدعو إلى احترام المقاربة التشاركية    فضيحة الخطأ المطبعي.. شركة تعدين تخفض مردودية ذهب كلميم من 300 إلى 30 غراما فقط    قرية لمهيريز... صيادون منسيون في قلب الصحراء يطالبون بالكرامة والإنصاف    ميناء طنجة المتوسط يربك مدريد.. وحزب "فوكس" يرفع منسوب التصعيد ضد المغرب    الكلمة أقوى من الدبابة ولا مفر من الحوار؟..    الموقف الأمريكي يعزز المبادرة المغربية كخيار وحيد لتسوية نزاع الصحراء    بورصة البيضاء تبدأ الأسبوع ب"الأخضر"    تل أبيب تتهم إسبانيا بمعاداة السامية    مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان يحذّر من انهيار قواعد الحرب حول العالم    الدريوش.. هزة أرضية خفيفة تثير القلق بسواحل تمسمان    ألكاراز يتوج بلقب أمريكا المفتوحة للتنس للمرة الثانية    المنتخب المغربي يواجه زامبيا وعينه على مواصلة سلسلة انتصاراته    القدس الشرقية.. هجوم مسلح يوقع خمسة قتلى إسرائيليين    بنما تعلن حجز 39 طردا مشبوها على متن سفينة قادمة من المغرب        ميناء الحسيمة : انخفاض بنسبة 9 في كمية مفرغات الصيد البحري مع متم يوليوز الماضي    وسط استقبال "مهيب"... سفن "أسطول الصمود" القادمة من إسبانيا تصل إلى تونس        فرنسا.. تصويت حاسم على الثقة في الجمعية الوطنية يهدد بسقوط حكومة بايرو            جديد الشاعرة المغربية سعاد الرايس: «لوحات الإبحار» اهتمامات إنسانية وعشق للكتابة بقلق وجودي    أمير المؤمنين يصدر أمره إلى المجلس العلمي الأعلى بإصدار فتوى شاملة توضح للناس أحكام الشرع في موضوع الزكاة    البيئة ليست قضية اختيارية أو محلية بل هي قضية وجود الإنسان والحياة    روسيا تعلن جاهزية أول لقاح ضد السرطان    فيلم مريم التوزاني يمثل المغرب بأوسكار 2026    "غروب".. مسرحية تفتش في وجع الإنسان وتضيء انكساراته بلوحات شعرية    المغرب يسجل واحداً من أعلى معدلات السمنة في إفريقيا.. والنساء الأكثر تضرراً    دراسة: عصير الشمندر يُخفّض ضغط الدم لدى كبار السن    دراسة : السلوك الاجتماعي للمصابين بطيف التوحد يتأثر بالبيئة    نقد مقال الريسوني    الملك محمد السادس يأمر بإصدار فتوى توضح أحكام الشرع في الزكاة    المجلس العلمي الأعلى يعلن إعداد فتوى شاملة حول الزكاة بتعليمات من الملك محمد السادس    مبادرة ملكية لتبسيط فقه الزكاة وإطلاق بوابة رقمية للإجابة على تساؤلات المواطنين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حميدي: المرايا وهندسة العالم
من 4 مارس إلى 4 أبريل برواق باب الرواح
نشر في المساء يوم 05 - 03 - 2009

ثمة أثر جرح تنضح به هذه السلسة من الأعمال. إنه أثر حاد وخطير يعيِّن لنا وجهة مسامات مبتغاة. إنه جرح ينصاع بنفسه للتعدد من خلال أثر مرايا متحركة. وهي مرايا تختلط بالإحساس المتوالد والشذري لفنان تتجلى رغبته في اختراق الذات ومفازها.
يقيم محمد حميدي في خلوته الذاتية الخاصة مثل ناسك متعبد، كي يأخذ المسافة الإبداعية الضرورية التي تحمله في أناة نحو مكامن قوته الفنية والمعاني العميقة المعتملة في داخله. فهذا الفنان، الذي ساهم بشكل حثيث في تكوّن الفن المعاصر بالمغرب منذ فجر الستينيات، لم يقع أبدا تحت إغراء الأضواء الباهرة للشهرة ولا تحت تأثير أمواج سوق فنية منحت مساربها المعتمدة الوجودَ والاعتبار للعديد من أشباه الفنانين، فبما أن عملته هي الصمت والانزواء في رحاب الإبداع، فإن رفيقه الوحيد في هذه التجربة الوجودية الفريدة يكون هو قوته العميقة الدائمة اليقظة لعوادي الزمن، على هامش الطرق الملكية للعيانية الفنية التي انتهجها العديد من رفاق الدرب من زمن.
ينصاع حميدي في مرسمه بالدار البيضاء، كما بأزمور (المدينة التي اختارها لأسرارها الدفينة)، للدعوة الدائمة إلى السفر والترحال. واختيار مدينة آزمور موطنا ثانيا، ليس وليد الصدفة لدى هذا الفنان المنحدر من جبال الأطلس. فآزمور مدينة تسهر عليها سيولة أم الربيع بأسطوريته، بمياه نابعة من تلك الجبال نفسها، محمولة في ذاكرة الماء والبشرة. إنها مدينة بين البحر والنهر، متشبعة بالعديد من كرامات أوليائها. دورها الخربة أو الآيلة للسقوط تمنح الانطباع برغبتها العميقة في الولادة من جديد، ومتاهتها الصغيرة وأسوارها تزج بالكائن في حضن رحم أمومي يحوله صدى الزمن إلى دعوة للولادة الدائمة.
ومع أن حميدي ظل وفيا لاختياراته الفنية والجمالية، فإنه ظل مسكونا بالبحث عن مسالك جديدة للإبداع. من غير أن ينصاع للمغامرة غير المحسوبة النتائج، فإنه يسعى إلى الاستكشاف الدائم لطاقته الإبداعية بالأشكال والألوان. وبما أنه فنان الجسد والرمز، فإنه يسائل في الوجود ثنائية الجوهرية التي عليها ينبني. ومن ثم فإن الذكوري والأنوثي يتمظهران في وحدتهما، وفي مواجهتهما وتمرئيهما المستمر. بيد أن الجسد المؤسلب لا يخضع هنا لأي بلاغة دالة.ذلك أنه بالأحرى يُستعاد دوما في مختلف أوجهه الرمزية. لذلك. فالجسد لدى حميدي لايتم صوغه في بعده الإيروسي، بالرغم من أن أوضاعه وأشكاله لا تنفي ذلك. إنه بالأحرى جسد مشبع بالرمزية، جسد علامة ممنوح لتعددية دلالاته، ولالتباس طبيعته؛ إلى حد أن هذه الترميزية تنحو باتجاه نوكيد البحث عن الكائن المتوحد الجنس. تتخلل الأندروجونية هذه العملية، وتخترق التنويعات على النوع، كما لو أنها تؤسس لتبادل المواقع التي ترسم معالمها العلاماتُ أو تؤكدها أو تحولها. تفضح تلك العلامات المختلفة (سهم، حرف خيالية...) عن كلام دفين، وعن رغبة في الكلام سابقة على اللغة، وعن لغة مجاوزة للكلام. وبذلك يشكل الفنان نظامه الهجائي الخاص والمتخيل، تبعا لمقصدية مطبوعة بآثار الوقت وبغضب يظل حبيس العين والقلب.
من أين ينبع هذا التعليق الجامح بالهندسي؟ ولماذا ينحو الفنان اليوم إلى هجر تداويره المفضلة، وشخصياته «الأسطورية» التي يصوغها على هواه للتعبير عن ثنائية العالم؟ لماذا هذا الانتقال من البحث عن الأصل الأندروجيني الأسطوري للإنسان والكون للخوض في لعبة الأشكال والألوان التي يحجب بعدها الموسيقي رغبات الفنان السابقة؟ هل علينا البحث عن «دلالة» هذا الاختيار (الذي يفرض نفسه بعمق على الفنان) في الرمزية المتأصلة في الأشكال، أم في السينوغرافيا التي يمنحها لها باستمرار؟ عديدة هي الأسئلة التي من هذا القبيل التي ترتبط بالأسئلة النابعة من المسار الشخصي للفنان.
ثمة أثر جرح تنضح به هذه السلسة من الأعمال. إنه أثر حاد وخطير يعيِّن لنا وجهة مسامات مبتغاة. إنه جرح ينصاع بنفسه للتعدد من خلال أثر مرايا متحركة. وهي مرايا تختلط بالإحساس المتوالد والشذري لفنان تتجلى رغبته في اختراق الذات ومفازها. فما يستعرض نفسه هنا هو عموما الاشتغال على التآليف الممكنة والمحتملة، أو بالأحرى، على التراكب الممكن للحظات الاتصال والتواصل والوصال. وهي بمعنى تواصلات يكون الفضاء فيها زمنا خالصا.
إن الإيقاع المبتغى، المنسق بعناية فائقة، وتركيب الأشكال التي تكون عموما متعالية، في شكل سهم موجه للأعلى نحو سماوات الغيرية، والتنويعات اللامتناهية على الممكنات التي توفرها الأشكال، كل هذا يجعل من حميدي شكلانيا ولا تصوريا. وإذا ما نحن قاربنا تجربته هنا عمدا من صونيا دولوناي، فذلك من خلال أثر التناظر الشعري واللازمني. ومع ذلك فإن صرامة الشكل وكوريغرافيته الراقصة وسينوغرافيته المعلنة لا تغنينا عن النظر إلى أعماله الأخرى ذات الطابع الدقيق والملغز في الآن نفسه.
فحميدي فعلا فنان المادة واللون بامتياز، أو بالأحرى لنقل إنه فنان المادة- اللون. ففي ذلك تستعلن ذاتيته وتفرض علينا نفسها باعتبارها ذاكرة وبشرة. ومع ذلك فحتى حين يشتغل على ألوان هادئة، أو على النبرات الوطنية، فإننا ندرك أنه يستخرجها من الأعماق المدلهمة لذاته، ومن الثنايا التي يلفها أو يكشف عنها، أعني ثنايا المعنى واللامعنى.
يمتلك حميدي تؤدة من يترك نفسه لتأثير التحولات الداخلية للمادة. إنه خيميائي يدعونا إلى ملامسة خشونة القماش وملاسته في الآن نفسه، كي نتخيل معه حفريات اللوحة ومسير تكونها. فاللوحة البشرة لها مسامها الخاصة، ومكامن نفسها الحيوي. فيها تبرز الفرشات الناضحة بذبذبات التآليف، وهي تخضع للحجب والكشف، بحيث يشتغل عليها الفنان كي يمارس التحويل على وحدة اللون ومعه على بصرنا نحن. ولأن هذا الاشتغال الصوفي عصي على الوصف، فإنه يقدم لنا مساحة متحولة، غير خالصة، مركبة ومتعددة. لهذا فإن التغييرات اللونية تحملنا من شكل إلى آخر، ومن فضاء إلى فضاء مغاير. وهو ما يخلق تنويعات (أو توقيعات بالمعنى الموسيقي) وتناغما يصوغه الفنان بالكثير من الصرامة والخيال.وبذلك فإن كل لوحة تغدو مقطوعة موسيقية، أو تنويعا أو امتدادا. وهكذا فإن سلسلة هذه اللوحات تغدو عبارة عن تأليف موسيقي متوال، كذلك الذي صاغه غوسطاف ماهلر وتأكد فيما بعد لدى أرنولد شوينبرغ. بيد أن سلطة التنويعات هنا تنصاع للتآلف مع الهارمونيا النبرية كما عهدناها في الموسيقى الكلاسيكية. إننا نحس كما لو أن الفنان يزاوج بين موسيقى المتواليات في مجال الألوان والنبرية في مجال الأشكال. وهي مفارقة تفصح عن شخصية الفنان التشكيلية المركبة، فالطابع الهندسي الطاغي على أعماله يتراوح بين الأشكال ذات التداوير والأشكال ذات الزوايا. وتلك مفارقة قد بدأت تنمحي في أعماله الأخيرة لتأخذ شكل القبة، هذا الشكل النسكي الصوفي الذي يبدو أن مدينة أزمور قد بدأت تبثه في لوحاته.
يستعيد العمل التشكيلي لحميدي المكاسب الأسلوبية والأشكال والتقنيات اللونية، ويهجرها أحيانا أخرى للانطلاق في مغامرة جديدة، ثم يغوص في تفاصيل تجربة استنفدها سابقا ليعيد استيلادها بشكل مغاير. إنها حركة تعيد تشكيل المسير العام للفنان بلا انقطاع، لتمكنه من الولادة المتجددة الدائمة. إنها ولادة متجددة تكون دائما في مستوى طموحاته وتطلعاته، وانفتاحا وانزلاقا غالبا ما يتمان نحو أماكن جديدة للمرئي واللامرئي، والوجود والغيرية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.