لا بد لإنشاء علاقة إنسانية مبنية على حقوق وواجبات من تعاقد يضع فيه كل من الطرفين شروطه على الآخر، فالفصل 230 من قانون الالتزامات والعقود ينص على أن الالتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة إلى منشئيها، ولا يجوز إلغاؤها إلا برضاهما معا أو في الحالات المنصوص عليها في القانون، وهي القاعدة المعروفة (العقد شريعة المتعاقدين)، وعقد الشغل لا يخرج عن هذه القاعدة رغم خصوصيته كعقد من عقود الإذعان، ولم يعطه المشرع المغربي أي تعريف من خلال بنود مدونة الشغل، بل اكتفى بتعريف أطرافه، أي الأجير والمؤاجر من خلال أحكام المادة 6 التي جاء فيها أنه "يعد أجيرا كل شخص التزم ببذل نشاطه المهني تحت تبعية مشغل واحد، أو عدة مشغلين، لقاء أجر، أيا كان نوعه وطريقة أدائه"؛ ويلاحظ من هذا التعريف أن الأجير يجب أن يكون شخصا طبيعيا ملتزما بأداء عمله تحت تبعية مشغل واحد أو عدة مشغلين -ومثال العمل لدى أكثر من مشغل واحد: المدربون بالنوادي الرياضية أو العاملون بالقطعة (العطاشة)- وأن يكون هذا العمل مؤدى مقابل أجر، أيا كان نوعه وطريقة أدائه. يتضح من خلال هذا التعريف أنه ليكون عقد الشغل صحيحا لا بد من ثلاثة شروط، بتوفرها نكون أمام عقد شغل وبدون توفر أحدها لا يمكن الحديث عن هذا النوع من العقود، وهي: وجود عمل يلتزم بالقيام به أحد الطرفين لمصلحة الآخر، وأجر يلتزم بدفعه هذا الأخير للطرف الأول، وعلاقة تبعية تتمثل في الإشراف والرقابة والتوجيه التي ينشئها العقد بين هذين الطرفين. والأداء الشخصي للعمل أهم ما يميز عقد الشغل عن باقي العقود، حيث يتم فيه التعاقد على أساس مؤهلات وكفاءات شخصية تتعلق بالأجير المتعاقد، والتي قد لا تتوفر في غيره، لذا كان لزاما على الأجير المتعاقد أن يؤدي عمله بصفة شخصية دون أن يكلف غيره بالقيام به، اللهم إذا سمح بذلك رب العمل ووافق عليه صراحة أو ضمنيا، ومثال ذلك أن وفاة الأجير لا تعني حتما تعويضه بأحد ورثته، أو الموصى لهم، في أداء نفس العمل، عكس المشغل الذي يمكن لورثته خلافته في حالة الوفاة، وهو ما نصت عليه المادة 19 من مدونة الشغل. وعنصر الأداء الشخصي يولد آثارا قانونية، منها مسؤولية الأجير عن فعله أو إهماله أو تقصيره أو عدم احتياطه، بل إن الامتناع عن أداء العمل أو أدائه على نحو لا يتناسب مع كفاءة الأجير يعرضه للعقوبة التي تتناسب مع جسامة الخطإ. وهذا العقد يعتبر في الأصل من العقود الرضائية، حيث يكون التعبير عن الإرادة، ويكون هناك إيجاب يقابله قبول. ولا يمكن تصور عقد الشغل دون أن يكون سلطان الإرادة فيه هو أساس التعاقد، والتعاقد المبني على الإكراه يكون باطلا بطلانا مطلقا، حيث يجب أن يتم التعاقد بكامل الحرية وبمطلق الاختيار، ومن ثم فإن العمل الجبري أو السخرة لا يمكن أن يكون محلا للتعاقد في إطار عقد الشغل حسب منطوق المادة 10 من نفس المدونة، ويجب أن يتم أداء هذا العمل داخل أو لحساب مقاولة خاضعة للقانون الخاص، وبالتالي تكون مشمولة بمقتضيات مدونة الشغل عكس المرافق العمومية التي تطبق فيها قواعد القانون الأساسي للوظيفة العمومية، غير أن المؤسسات العمومية ذات النشاط الصناعي أو التجاري أو الفلاحي الخاضع عمالها لقوانين (أنظمة) خاصة تخضع لحماية مدونة الشغل كحد حمائي أدنى لفائدتهم، كلما كانت أنظمتهم الخاصة أقل حمائية من أحكامها.. وللتعاقد مع الأجير، يمنع على المشغل القيام بأي تمييز من حيث السلالة أو اللون أو الجنس أو الإعاقة أو الحالة الزوجية أو العقيدة أو الرأي السياسي أو الانتماء النقابي أو الأصل الوطني أو الأصل الاجتماعي، يكون من شأنه خرق أو تحريف مبدإ تكافؤ الفرص أو عدم المعاملة بالمثل في مجال التشغيل أو تعاطي مهنة، ولاسيما في ما يتعلق بالاستخدام، وإدارة الشغل وتوزيعه، والتكوين المهني، والأجر، والترقية، والاستفادة من الامتيازات الاجتماعية، والتدابير التأديبية، والفصل من الشغل. ويترتب عن ذلك بصفة خاصة: حق المرأة في إبرام عقد الشغل؛ منع كل إجراء تمييزي يقوم على الانتماء أو النشاط النقابي للأجراء؛ حق المرأة، متزوجة كانت أو غير متزوجة، في الانضمام إلى نقابة مهنية والمشاركة في إدارتها وتسييرها. وتترتب عن ذلك، بطبيعة الحال، ضرورة احترام المشغلين لمجموعة من القواعد المرتبطة بمنظومة حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دوليا، وكذا الحريات الأساسية والعامة التي يضمنها الدستور. واعتبارا لدستورية هذه المبادئ، فإن المشغل عليه اعتبار عنصر وحيد عند التشغيل ألا وهو عنصر الكفاءة المهنية، تماشيا مع ما جاء في المادة 507 من المدونة التي نصت على أنه يشغل كل مشغل من يحتاج إليهم من الأجراء...، مراعيا في ذلك فقط ما يتوفر عليه طالبو الشغل من مؤهلات وما لديهم من خبرات وتزكيات مهنية. وهناك صور عدة يفرضها الواقع العملي في التمييز، تتعلق أساسا بالجنس أو الحالة العائلية أو الانتماء النقابي أو شكل اللباس؛ لذا كان لزاما علينا التوقف عند بعضها كحالة المساواة بين الجنسين في التشغيل والتعاقد، فاستنادا إلى المادة 9 يمنع كل إجراء يتم فيه التمييز في التشغيل بسبب الحالة الزوجية، وينتج عن ذلك عدم جواز حرمان المرأة المتزوجة، مثلا، من العمل نتيجة ذلك أو إخضاعها لعقوبة من العقوبات التأديبية لمجرد العلم بارتباطها الشرعي، أي كونها داخل المؤسسة الزوجية، أو بحملها. وقد جاء في المادة 36 أنه لا تعد الأمور التالية من المبررات المقبولة لاتخاذ العقوبات التأديبية أو للفصل من الشغل، وهي -مثلا- العرق أو اللون أو الجنس أو الحالة الزوجية أو المسؤوليات العائلية... أو كحالة التمييز في التشغيل بسبب النشاط النقابي، ذلك أن الانتماء إلى نقابة ما أو تكوين مكتب نقابي ما أو ممارسة مهام الممثل النقابي لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن تكون مبررا للفصل من العمل، ويتماشى ذلك مع أحكام الاتفاقية الدولية رقم 98. والعنصر الثاني في عقد الشغل هو التعهد أو الوفاء بالأجر والذي يلتزم به المشغل مقابل العمل المؤدى من طرف الأجير. وهذه التسمية الأخيرة لها علاقة بالأجر، والقاعدة المعروفة هي الأجر مقابل العمل... فلا يتصور وجود عقد شغل دون أجر وإلا لم يكن العقد كذلك، لأن الأجر عنصر أساسي وجوهري لاعتبار العقد عقد شغل. وسكوت المتعاقدين عن تسمية مقابل أداء العمل (الأجر) أو عدم تحديده في العقد لا يؤدي إلى المطالبة ببطلانه أو عدم اعتباره عقد شغل، فقد تكون ثمة مقتضيات توضح وجود علاقة شغلية، وبالتالي فالأجر إذاك إما أن يتم تحديده بناء على الحد الأدنى للأجور، وإما وفق ما يقضي به العرف، فقد نصت المادة 345 من المدونة على أن الأجر يحدد بحرية، باتفاق الطرفين مباشرة أو بمقتضى اتفاقية شغل جماعية،.. مع مراعاة الأحكام القانونية المتعلقة بالحد الأدنى القانوني للأجر؛ وإذا لم يحدد الأجر بين الطرفين وفق المقتضيات الواردة في الفقرة أعلاه، تولت المحكمة تحديده وفق العرف، وإذا كان هناك أجر محدد سلفا افترض في الطرفين أنهما ارتضياه. فؤاد رفيه *باحث في قانون الشغل