الحلقات التي ننشرها أسفله يكتبها الصادق العثماني، مدير الشؤون الإسلامية باتحاد المؤسسات الإسلامية بالبرازيل، حول تاريخ وبدايات الإسلام في أمريكا اللاتينية، وهي تنقلنا إلى الجذور الأولى للإسلام في بلدان القارة الأمريكية، وبدايات هجرة المسلمين إليها، والتعدد الثقافي والديني بها. وقد وقع الاختيار على هذه الحلقات، نظرا لقلة ما يعرفه القراء عن الإسلام في أمريكا اللاتينية، لذلك فهي رحلة في الماضي والحاضر من خلال عدسة ملاحظ معايش. تقع جزيرة «كوراساو» جنوب البحر الكاريبي بأمريكا الجنوبية الوسطى، مقابل جمهورية فنزويلا، وسميت بهذا الاسم «كوراساو» أي القلب باللغة الإسبانية، لوقوعها في قلب الطريق التجاري لأمريكا الجنوبية، وقد استعمل البحارة الإسبان هذا الاسم، ومن بعدهم أخذ الهولنديون نفس التسمية، ويتكون شعب كوراساو من جنسيات مختلفة ومتعددة وأغلبهم أفارقة أتت بهم هولاندا وإسبانيا إلى هنا بغية استعمالهم في أشغال يدوية وفلاحية.. كما وصلت إليها في أواخر القرن التاسع عشر هجرات هندية وعربية خصوصا من بلاد الشام، نتيجة الظروف السياسية المتردية التي كانت تعاني منها الخلافة العثمانية حينذاك، وهناك حقيقة تغيب عن كثير من الباحثين والدارسين والمهتمين بعالم الأقليات في أمريكا اللاتينية، وهي أن جزيرة كوراساو كانت المحاولة الأولى من قبل اليهود ألأوروبيين للاستيطان بين أحضانها والعيش فيها؛ حيث بدأت المحاولة الأولى سنة 1650 حين وصلت 12 عائلة يهودية تحمل خطابا من مجلس هولندا الحاكم تطلب منه أن يمد لها يد المساعدة، بأي صورة من الصور، وعلى أي شكل، سواء بالعبيد أو الأرض أو الأحصنة أو القطعان أو الأجهزة، ويبدو أن اليهود كانوا جماعة استيطانية زراعية؛ إذ إن المستوطنين الهولنديين كانوا يهملون الزراعة؛ لأن تجارة البضائع المهربة كانت أكثر ربحًا، ومع هذا يبدو أن التجربة لم تنج تماما بسبب بعض القيود التي فرضت على حركتهم (ربما بسبب جو محاكم التفتيش الذي كانت تتعقب اليهود والمسلمين على السواء في إسبانيا والعالم الجديد). وقد دخل الدين الإسلامي إلى جزيرة كوراساو عن طريق «العبيد» المجلوبين من إفريقيا من طرف الدول المستعمرة كإسبانيا والبرتغال وهولاندا.. وعندما أحكم الاستعمار الهولاندي قبضته على هؤلاء الأحرار الشرفاء، وأذاقهم من ألوان الذل والإهانة والأعمال الشاقة ما لم تستطع عليه الأجساد البشرية سبيلا وتحملا؛ لهذا كانت أعداد كبيرة منهم تهرب من المستوطنين إلى الغابات وتتحد مع السكان الأصليين من الهنود الذين اقتلعوا من أراضيهم بالحديد والنار، ثم تقوم بغارات على المزارع، وكان أصحاب المزارع يستجلبون المزيد من العبيد ليحلوا محل الهاربين إلى الغابات، وهكذا أصبحت تجارة العبيد من الطرق البسيطة للوصول إلى الغنى الفاحش؛ في عصر همجية أوروبا التي تحاول اليوم بكل قوة أن تنسينا بربريتها وما فعلته بشعوب قارة أمريكا ..!! وتشير بعض الحقائق التاريخية والأثرية بالجزيرة إلى أن أغلب هؤلاء «العبيد» كانوا من المسلمين، يقول الداعية وسام محمد عبد الباقي: «ولا عجب وأنت تتجول بشوارع مدن كوراساو، أن تشاهد شارع محمد، وشارع القرآن، وشارع المدينة، وشارع مكة، أو تسمع بمنطقة محمد..؟!؛ لكن اليوم هذه المجموعات من المؤمنين المسلمين تلاشوا وذابوا في خضم المعترك الاستعماري وابتلعهم الاسترقاق، ومات الآلاف منهم بسبب الأعمال الشاقة والمعاملة القاسية، أو الحروب الطاحنة التي خاضتها الدول المستعمرة فيما بينها، وكان «العبد» الإفريقي المسلم حطبها..؟؟!!». وبعد الحرب العالمية الثانية وصلت إلى الجزيرة هجرة إسلامية من الشام وخصوصا من طرابلس ولبنان، وضيعة «جب جنين» و«القرعون»..ثم توالت الهجرة إلى الجزيرة من بلاد متعددة وخصوصا من الهند وباكستان، ويصل عدد المسلمين حاليا ما يزيد عن 3000 مسلم، من بينهم الأفارقة ممن اعتنقوا الإسلام حديثا، وأكثر المسلمين حالتهم الاقتصادية جيدة وقد أسسوا جمعية إسلامية سنة 1964م، ثم بنوا مسجدا ضخما في بداية السبعينيات وحضرت حفل افتتاحه الرسمي ملكة هولاندا ورموز الجالية المسلمة وبعض الوزراء والمسؤولين في الحكومة.. وأدخلوا عليه بعض التحسينات والتوسعات في السنوات القليلة الماضية؛ لكن مشكلة هذا المسجد أنه فارغ من المصلين في أغلب الأيام، اللهم في شهر رمضان؛ حيث تكثر فيه الحركة شيئا ما، وفي سياق هذا الجمود الدعوي في الجزيرة وعن عدم حضور المسلمين للصلوات، يقول الداعية عبد القادر الأشتر: «زرت الجزيرة برمضان في مهمة دعوية؛ حيث كنت أصلي هناك وكان عدد المصلين في صلاة العشاء والتراويح لا يتجاوز العشرة أشخاص، وحضرت صلاة الجمعة فكان العدد لا يتجاوز الثلاثين..»، ويعلل الأشتر هذا الغياب بقوله: «الناس هنا لا يعرفون من الحياة سوى المادة، مع أنهم موسع عليهم في رزقهم، لكنهم لا يضعون شيئا في صندوق الجمعية، ولولا أن الإمام يتقاضى راتبه من جمعية الدعوة الإسلامية العالمية الليبية لظلوا بدون إمام..»!!. لكن اليوم تحسنت الأمور شيئا ما، عندما قررت الجمعية الخروج من سباتها العميق، وتحركت لخدمة الإسلام والمسلمين في هذه الجزيرة، ومما قامت به في السنوات الأخيرة من إنجازات، استحداث باحة مسقوفة لإفطار الصائمين في رمضان وغيره من المناسبات، وإنشاء كافتيريا لتجمع المسلمين واستقطابهم وخاصة الشباب منهم وإكمال الحائط المحيط بالمصلى وإعلائه لعدة عوامل، أهمها العامل الأمني وتغيير سقف المراحيض وتجهيز مكتبة المسجد بآلة ناسخة ومكيف هواء، وإنشاء حمام خاص للنساء في مكان أنسب، وفصل مصلى النساء عن مصلى الرجال، وإصلاح الملعب وتأهيله كي يزاول فيه أكثر من ثلاث ألعاب رياضية وبناء أحواض للأزهار بباحة المسجد، وفرش المسجد وتجهيز مكيفاته وثرياته وإكمال ترميم المئدنة؛ كما أن المسجد أصبحت تقام فيه مجموعة من الأنشطة الدعوية والتعليمية والاجتماعية والرياضية منها: خطبة الجمعة، وتوزيع الأشرطة والمنشورات النافعة واستقبال طلاب المدارس والسياح، وغيرهم من أهل الجزيرة للتعريف بالإسلام والإجابة عن أسئلتهم والتوعية الإسلامية؛ حيث يتم استقبال المسلمين والإجابة عن أسئلتهم وما يحتاجونه من فتاوى...ومن الأنشطة التعليمية: إقامة دورة أبو بكر الصديق - رضي الله عنه- لتعليم اللغة العربية والعلوم الإسلامية، وتقام كل يوم سبت للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5 - 15 سنة، ويبلغ عددهم حوالي 30 طفلاً وطفلة، وهذا العدد في تزايد مستمر والحمد لله، وإقامة دروس ودورات شرعية للنساء تلقيها زوجة إمام المسجد، وإلقاء موعظة يومية بعد صلاة العشاء يلقيها إمام المسجد، وتنظيم دورة شرعية للرجال يومين في الأسبوع... وتشمل الأنشطة الاجتماعية: زيارة المنازل والمحلات التجارية، وعيادة المرضى، وإجراء عقود الزواج والطلاق، والإصلاح بين الأزواج والأقارب، وتغسيل الأموات وتشييع الجنائز، كما أن هناك نشاطاً رياضياً يقام يوماً واحداً في الأسبوع؛ حيث تقوم الجمعية باستئجار قاعة رياضية، وهناك نشاط رياضي يقام بملعب المسجد... ومن المشاريع المستقبلية التي تعتزم الجمعية القيام بها بناء مدرسة لأبناء المسلمين. وجدير بالذكر أن الجمعية تمتلك مقبرة خاصة بالمسلمين تبلغ مساحتها 3040 مترا مخصصة لدفن موتى المسلمين وللغرباء مجهولي الهوية. الصادق العثماني