يمضي الكراب يومه متجولا بين الساحات والأماكن العمومية قاطعا مسافات طويلة دون كلل أو ملل، باحثا عن ظمأى يروي عطشهم، بلباسه الأحمر وطاقيته المكسيكية المزركشة، وجرسه النحاسي، قارعا إياه باحثا عن مارة يزودهم بالماء مقابل قطعة نقدية أو كلمة شكر يترحم فيها على الوالدين، ولا تجد منه غير ابتسامة عريضة ورضا بما قسمه له الله، فهذا ما يجنيه ساقي الماء أو الكراب من هذه المهنة. مهنة مهددة بالاندثار أمام تقلص عدد هؤلاء «الكرابة» بالمغرب. تجولنا بساحة الحمام بالدارالبيضاء التي تعتبر مركز تجمع أغلب السقاة، لرواج الحركة فيها وكثرة السياح، التقينا «صالح» وهو كراب منذ 15 سنة أب ل5 أبناء والمعيل الوحيد للعائلة، أخبرنا أنه يقنع بالداهم التي يكسبها من عمله، ويضيف بوجهه المسمر والمجعد بسبب حرارة الشمس أن كل يوم ورزقه، ففي بعض الأحيان يتمكن من توفير 80 درهما إلى 150 درهما في اليوم، وفي كثير من الأحيان يوفر فقط 20 إلى 50 درهما. ويضيف "صالح" متحسرا على واقع الساقي المغربي بين الأمس واليوم، قائلا: «بعد أن كان لا غنى عنه في أي بيت مغربي، حيث كان يكلف في المدن بجلب الماء إلى البيوت والحفلات ولأعراس، بينما يتولى في الأسواق الشعبية والقرى مد الناس وأصحاب محلات الجزارة بالماء من قربته الجلدية المتميزة المصنوعة من جلد الماعز، والتي يحملها على ظهره، أينما حل وارتحل، أما الآن فقد أصبح مجرد ديكور في الفضاءات العمومية، خاصة وسط المدينة، في انتظار شفقة أو إحسان من المارة أو من السياح، الذين يبهرهم زي الكراب التقليدي، ورنين جرسه المميز، فيطلبون التقاط صور تذكارية له أو معه، مقابل بعض النقود». ويضيف «العربي» ساقي من الدارالبيضاء، أن هذه المهنة تتجه إلى الانقراض، بسبب استغلال مجموعة من المتسولين المحترفين لهذه المهنة التراثية في عملية التسول بالاختباء وراء شخصية الكراب، إذ يصعدون إلى الحافلات، ويتجولون في الطرقات ويدخلون الأسواق وهو ما يجعلهم هدفا لوحدة المساعدة الاجتماعية. وأكمل في حياء ظاهر على محياه أن جميع «الكرابة» يضطرون إلى التسول داخل الرقعة الترابية، التي يعتادون العمل فيها في الأيام العادية، حيث يلتقون بزبنائهم الذين لا يتأخرون في مد المساعدة إليهم، كما يقول المثل المغربي «اللي بغى يتصاحب مع الكراب، يتصاحب معاه في الليالي»، أي في عز فصل الشتاء، عندما يكون الإنسان أقل عرضة للإحساس بالعطش، وحيث حياة الكراب تنقلب رأسا على عقب ويتحول إلى عامل بالمزارع أو الحدائق، أو عامل للنظافة، لكن الأغلبية يلجؤون إلى التسول إما لأنه الحل الأفضل لاكتساب رزق أوفر، أو لعدم القدرة على العمل لكبر السن، وباقتراب شهر الصيام المبارك «رمضان»، يتوقف مصدر قوتنا بإقبال الناس على شرب الماء، لنلجأ إلى التسول كالحل الوحيد لتفادي الموت من الجوع». أما «أحمد» و و في سن ال80 كراب منذ 56 سنة ومن أوائل من تعاطوا هذه المهنة فيتحسر على واقعها وعلى ما أصبحت عليه في ظل هذا المجتمع الذي تأثر بالثقافات الأجنبية، وأهمل ما يزخر به وطنه من تراث فولكلوري، إضافة إلى إهمال الشباب العاطل لهذه المهنة التي كانت في زمن مضى مهنة شأنها شأن المهن الأخرى، لها قيمتها ورجالها، لكن ورغم هرمه وتعبه الجسدي بسبب سنه، يشعر «أحمد» بالواجب يناديه كلما اشتد الحر، حتى ولو كان على علم بأنه لن يجني سوى دريهمات معدودة لا تكفي لسد متطلبات حياته اليومية. إلياس العلوي صحافي متدرب