بعد سقوط الخلافة الأموية بالأندلس تفتتت البلاد واستبدت كل طائفة بجزء منها، ودخلت الأندلس في عصر الفوضى العارمة الذي عرف في التاريخ بعصر ملوك الطوائف، ومن هؤلاء الملوك يبرز اسم باديس بن حبوس كمسعر حرب أشعل فتيل الفتن وجيش الجيوش لحرب إخوانه واستنزافهم، وهو ملك من قبيلة صنهاجة لم يتجاوز طموحه حدود تحقيق ملذاته الخاصة والحفاظ على إمارته الصغيرة في غرناطة، شأنه في ذلك شأن سائر ملوك الطوائف. ومن سيئاته التي يذكرها التاريخ أنه عمل على تنصيب ولاة ظلمة جائرين جعلوا همهم استنزاف مقدرات الرعية وإثقال كاهل الناس بالضرائب والمغارم، وعلى رأس هؤلاء الولاة يوسف بن النغالة، اليهودي الذي أسند إليه باديس شؤون الإدارة والحكم في دولته. ويوسف هذا هو ابن وزير سابق لباديس عرف بدهائه وحنكته وسعة اطلاعه، وهو الذي قال عنه ابن حيان: «كان هذا اللعين في ذاته على ما روي عنه من هداية من أكمل الرجال علما وفهما وذكاء ورصانة ودهاء ومكرا، ومعرفة بزمانه، ومداراة لعدوه، واستسلالا لحقودهم بحلمه ... دائم التفكير، جماعة للكتب». وقد أخذ عنه يوسف كل صفاته ما عدا صفة الحلم وزاد عليها صفات أخرى جلبت عليه مقت الناس وغضبهم، فقد رغب في التقرب إلى باديس بمضاعفة الضرائب وملء خزائن الدولة. وإن جعله هذا أثيرا عند الملك فقد أثار عليه سخط العلماء والعامة، ولم يُخفِ كثيرون حنقهم عليه ورفضهم لتسلطه. وإن كان والده حليما ذكيا في تجنب إثارة العامة فإن يوسف لجأ إلى أساليب أخرى للحفاظ على مكانته في الدولة، إذ وضع جماعة من اليهود المقربين منه في مراكز الحكم وأنشأ شبكة من الجواسيس كان يحصي من خلالها أنفاس الملك وولي عهده وكل أصحاب النفوذ في الدولة، وهذا جعله على دراية بكل القرارات الحاسمة التي يصدرها الملك ومقربوه. وقد مكنه تغلغله في دائرة صناعة القرار من إحباط محاولة للانقلاب على الملك، فعزز ذلك مكانته ورفع قدره، فكان أن فوض له باديس كل سلطاته فأثار استياء عارما في الأوساط الغرناطية. وكان على رأس الذين انتقدوا يوسف علنا ونبهوا الملك لخطورة تماديه في ظلم الرعية واستبداده الشاعر أبو إسحاق الألبيري، غير أن الملك لم يقبل نصائحه وأبعده إلى ألبيرة وحال بينه وبين الناس في غرناطة التي كان تمثل موطن الحل والعقد في دولة باديس. وقد انضم بلقين ولي العهد نفسه إلى فئة المناهضين لجبروت يوسف وظلم صنائعه من اليهود الذين استطالوا على أهل غرناطة وساموهم سوء العذاب فدبر له ابن النغرالة مكيدة انتهت بقتله بالسم ونسبت الجريمة إلى بعض جواريه وخدمه. وحين أحس يوسف أن الجو خلا له اتصل بابن صمادح وراح يؤلبه على غزو غرناطة بعد أن أحس بتنامي موجة العداء ضده وضد أصحابه. كان تدبير ابن النغرالة محكما، فتصريف شؤون الدولة بيده وبيد زمرته، وهو إن عدم القدرة على استئصال شأفة خصومه في ظل حكم باديس فلن يقف أمامه شيء في ظل حكم ابن صمادح، ويكفيه أن يشير على ابن صمادح بأن خصومه من رؤوس الفتنة الذين يهيجون العامة، ظن ابن النغرالة أنه لن يكون بحاجة إلى مبررات للفتك بكل أعدائه إذا تغير نظام الحكم، ولم يدر بخلده بعدما وضع اللمسات الأخيرة على خطته أن تدبيره برمته ستنسفه قصيدة واحدة، فالمنفى لم يؤثر في عزيمة أبي إسحاق ولم يفت في عضده، وظل يتحين الفرص ليثير الناس على يوسف حتى بلغ مسامعه أنه يخطط لتسليم غرناطة إلى ابن صمادح فكتب يحرض العامة عليه: ألا قل لصنهاجة أجمعين/ بدور الزمان وأسد العرين/ لقد زل سيدكم زلة/ تقر بها أعين الشامتين/تخير كاتبه كافرا/ ولو شاء كان من المؤمنين/ فعز اليهود به وانتخوا/ وتاهوا وكانوا من الأرذلين. كان وقع القصيدة في النفوس عظيما، يقول الناقد الإسباني أميليو غارسيا غوميز: «والحق أن القصيدة تستحق ما حظيت به من شهرة، ولا نعرف إلا في القليل النادر أن أبيات الشعر لعبت دورا سياسيا مباشرا في التاريخ السياسي لأمة من الأمم فكهربت العزائم ودفعت بها في سرعة خاطفة إلى إشعال الحرائق وشحذ السيوف للقتل، كالدور الذي لعبته هذه القصيدة. ولعل الشعر الأندلسي لم يعرف أبدا البساطة عارية كما عرفها في هذه القصيدة ... لقد اجتاحت أنغامها حية متوهجة أعماق المدينة كزفير النيران». خرج الناس، الذين أثرت قصيدة أبي إسحاق في نفوسهم، عام 459 ه في العاشر من صفر يقصدون بيت ابن النغرالة، يتقدمهم شيوخ صنهاجة وسادتها، ففر منهم إلى قصر باديس، فاقتحموا عليه القصر وقتلوه وصلبوه على باب غرناطة، وكروا على أصحابه وصنائعه ففتكوا بهم ووضعوا بذلك حدا لاستبداده وظلمه. يوسف الحلوي