يروي روبير أصراف في هذه السلسلة فصولا من حياته الخاصة وأخرى من مساره الدراسي وكثيرا من الأحداث التي كان شاهدا عليها في مغرب ما بعد الاستقلال. ولا تكمن أهمية ما يرويه أصراف في كونه كان أحد اليهود المغاربة الذين عايشوا بعض فترات التاريخ المغربي عن قرب، بل في كونه كان فاعلا أساسيا في عديد من الأحداث قادته إلى وزارة الداخلية والخارجية والقصر والصفقات التجارية، في إطار عمله بمجموعة «أونا» لسنوات كثيرة. في روايته هذه، يبرهن أصراف على حس عال في الرواية التاريخية التي هو شغوف بها، والتي كان من ثمارها عدد من المؤلفات عن اليهود المغاربة دون أن يتخلى، يوما، عن مغربيته. - تحدثت في العدد السابق عن أن أحزاب الأمس ليست هي أحزاب اليوم. كيف؟ > اليوم لدينا شباب رائع يمنح المغرب علما آخر ومعرفة أخرى ويوفر حاجيات الاقتصاد الوطني، ويتحمل التزامات الاقتصاد الدولي. لقد ولت نظرية «الاقتصاد الوطني كله». ممارسة الاقتصاد، اليوم، هي ممارسة جزء من الاقتصاد الوطني والبقية هي الجزء الدولي. والجزء الوطني هو قبل كل شيء السياسة الاجتماعية... - لكن هنالك مشاكل كثيرة على هذا المستوى... > نعم هنالك الكثير من المشاكل في المغرب، خاصة على مستوى البادية التي أعرف مشاكلها باعتباري اشتغلت في وزارة الفلاحة... - العلاقات لم تكن دائما جيدة بين الملك الحسن الثاني واكديرة رغم خصوصيتها. ما أصل الخلاف بينهما فيما يتعلق ببعض القضايا القانونية؟ > نعم، رضا اكديرة كانت له أفكار عصرية وحداثية من داخل إيمانه بالتقاليد والتعاليم الدينية الإسلامية. كان، مثلا، يعارض بشكل قاطع تشغيل الأطفال، كما أنه كان يعارض القوانين التي تدين الرجل الذي يعيش مع امرأة خارج الرباط الشرعي. اكديرة لم ينس أبدا تكوينه القانوني، بل إنه كان رجل قانون لامعا وذا موهبة رائعة في الكتابة والتحرير. اكديرة كانت له شجاعة الاستقالة من حكومة الحسن الثاني في غشت 1964. كان حينها وزيرا للشؤون الخارجية، وكان رئيس الحكومة آنذاك سي احمد باحنيني الذي قتل في أحداث الصخيرات. كما أن اكديرة كان الوزير الوحيد الذي كان عضوا في البرلمان. اكديرة كان يؤمن بأن سن قانون جنائي في قضية العلاقة، خارج الزواج، بين رجل وامرأة أمر خطير. لماذا؟ لأنه كان يقول (حسب ما قاله لي شخصيا قبل 45 سنة) إن قانونا كهذا يمكن استغلاله في الميدان السياسي؛ أي أنه يمكن حبس شخص ما على خلفية تهمة من هذا النوع. بالنسبة له، قانون من هذا النوع لا يتناسب والوضع العام السائد آنذاك على الأقل. - وماذا فعل بعد ذلك؟ هل ساءت علاقته بالملك؟ > عاد إلى البرلمان حيث أصبح نشيطا. لكن علاقته الخاصة مع الحسن الثاني ظلت عادية. فقد كانا يلتقيان ويتهاتفان... علاقتهما كانت متميزة... - وماذا بعد انتقالك من وزارة الفلاحة؟ > بعد وزارة الفلاحة، مررت بوزارة الداخلية حيث شاركت في تنظيم الاستفتاء الدستوري والانتخابات البلدية والتشريعية، بعد ذلك انتقلت إلى وزارة الشؤون الخارجية حيث تكلفت بملف الحدود الإفريقية مع الجزائر، وبملف الشراكة مع المجموعة الأوربية. وبعد استقالة اكديرة سنة 1964 رافقته؛ وعينني في الديوان الملكي وظللت أساعده في مهامه البرلمانية في إطار عملي كمستشار لرئيس مجلس النواب في القضايا القانونية قبل أن أفقد عملي هذا على إثر قيام الملك بحل البرلمان. بعدها قال لي سي احمد بأن أنتقل إلى وزارة الداخلية حيث يوجد منصب شاغر. لكن خلال ذلك، اتصل بي الأمير مولاي علي وقال لي بأن أنتقل إلى الدارالبيضاء للإشراف على أعماله ومشاريعه هناك بعد أن أصبح شريكا لدافيد عمار في مشروع الاتجار بالحبوب. فكانت تلك هي بداية اتصالي بعالم الأعمال بالدارالبيضاء. كان ذلك سنة 1966. - هل سبق لك أن التقيت بالحسن الثاني عندما كان أميرا أو ملكا؟ > نعم، التقيته وهو أمير، ثم وهو ملك. فقد شرفني باستقباله لي في مناسبات عديدة ولقاءات كان يترأسها؛ كما أنني قمت بتحرير تقارير بطلب منه. كان يطلب مني أحيانا رأيي في قضية معينة... - ما طبيعة المواضيع التي كان يُطلب فيها رأيك؟ هل في القضايا السياسية أم القضايا التي تهم العلاقات مع اليهود أو إسرائيل...؟ > أولا، أنا كنت مساعدا لأحمد رضا اكديرة، الذي كان المستشار السياسي الحقيقي للحسن الثاني. هذا الأخير كان يطلب مني أن أتكلف ببعض القضايا التي كان جزء منها يرتبط بإسرائيل أو بمشاكل اليهود. لكنني كنت أقوم بهذه المهام بصفتي مساعدا لسي أحمد رضا اكديرة. وقد أديت دوري كما يجب، حسب ما يمليه علي واجب الإسهام في تحقيق مصلحة المغرب في ذلك الوقت. فلكل فترة مصالحها. لذلك ينبغي النظر إلى هذا النوع من الخدمات من منظور السياق الذي تمت فيه... - ألم تعلم شيئا عن طبيعة العلاقات بين المغرب وجهاز الموساد الإسرائيلي مثلا؟ > ما يمكن أن أؤكده لك هو أن جلالة الملك الحسن الثاني، ومعه رضا اكديرة كمساعد، كانا رهن خدمة ياسر عرفات والقضايا الفلسطينية، بل إنهما كانا من أشد المدافعين عن هذه القضايا والقضايا العربية. وفي لحظة من اللحظات، فكر الحسن الثاني في معرفة الخصم والتقرب منه لمعرفة مطالبه؛ لأنه لا يعقل أن يحارب العرب عدوا لا يعرفونه ولا يعرفون أخباره. لذلك كان يقوم بعدد من الأشياء في هذا الاتجاه. وإذا فعل تلك الأشياء فلأنه كان يريد أن يقدم خدمات ملموسة وحقيقية للفلسطينيين وللقضايا العربية. من الممكن أن يكون المغرب استفاد شيئا لمصلحته الخاصة من هذه الأمور. فالحسن الثاني واكديرة كانا على قدر كبير من الذكاء والمعرفة اللذين يجعلانهما يعرفان بكيفية جيدة مصالح المغرب. لا ننسى هنا أن المغرب كان دائما منشغلا بقضية الصحراء المغربية منذ 1976، والجزائريون كانت لهم دائما الرغبة في محاربة المغرب وإزعاجه... فكان من الطبيعي أن يستغل المغرب كل الوسائل التي تمكنه من معرفة ماذا يريد عدوه، وما هي حدود نواياه... كان هنالك أيضا عنصر آخر يبرر هذا الأمر، ويتمثل في وجود لوبي سياسي تجاه الغرب، من جهة، وأمريكا من جهة أخرى. فالجزائريون كانوا موالين للروس وكانوا، بالتالي، يستفيدون من الأسلحة المتطورة التي تأتيهم من ألمانياالشرقية ومن تشكوسلوفاكيا... كما أنهم كانوا يبعثون برجالهم للتكوين والتدريب على السلاح في هذه البلدان؛ وغالبا ما كانوا يفعلون ذلك ضد المغرب للأسف. فالمغرب كان دائما يريد إيجاد حل مع الجزائر، لكنها كانت دائما ترفض الحل.