في تحول استراتيجي غير مسبوق في مسار التجارة العالمية، تسعى الصين إلى تعزيز نفوذها الصناعي في المغرب من خلال استثمارات ضخمة تقدر بعشرات المليارات من الدولارات، وذلك وفقا لما أوردته صحيفة "نيويورك تايمز" في تقرير مفصل للصحفية باتريشيا كوهين، المتخصصة في شؤون التجارة العالمية. وتُظهر هذه الاستثمارات الصينية المكثفة كيف أصبح المغرب، الذي يشكل اليوم أكبر مركز لصناعة السيارات في إفريقيا، بمثابة نقطة عبور حيوية للشركات الصينية نحو الأسواق الأوروبية، خصوصا في ظل تصاعد التوترات التجارية بين بكينوواشنطن، وبينها وبين بروكسل. منذ نونبر الماضي، عقب مشاركته في قمة مجموعة العشرين بالبرازيل، قام الرئيس الصيني شي جين بينغ بزيارة قصيرة إلى مدينة الدارالبيضاء، حيث استقبله ولي العهد المغربي الأمير مولاي الحسن، في استقبال تقليدي تميز بتقديم الحليب والتمر كرمز للضيافة المغربية. الزيارة، رغم قصرها، حملت رسائل قوية حول طبيعة الشراكة الاقتصادية المتنامية بين البلدين، والتي باتت تأخذ منحى أكثر عمقا واستراتيجية، خصوصا في قطاعات السيارات والطاقة والبطاريات الكهربائية.
ووفق تقديرات أوردتها "نيويورك تايمز"، فقد تجاوزت الاستثمارات الصينية في قطاع السيارات والطاقة بالمغرب حاجز 10 مليارات دولار، مع انخراط عشرات الشركات الصينية في مشاريع صناعية متقدمة، من بينها شركة "غوشن هاي-تك" المتخصصة في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية. وتندرج هذه الخطوة في إطار سعي الشركات الصينية إلى تفادي الرسوم الجمركية المشددة المفروضة من طرف الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي، مستفيدة من اتفاقيات التجارة الحرة التي تجمع المغرب بالاتحاد الأوروبي. هذا الوضع الجديد للمغرب ك "دولة واصلة" (connector country) بين الأسواق الكبرى، يضعه في موقع بالغ الحساسية، وفق تعبير الصحيفة الأمريكية، إذ يتوجب عليه الحفاظ على علاقات متوازنة مع كل من الصين والغرب، دون إثارة غضب أي من الطرفين. غير أن هذه المعادلة أصبحت أكثر صعوبة في ظل السياسة التجارية العدوانية التي يتبعها الرئيس الأمريكي السابق والحالي دونالد ترامب، والتي أطاحت بعديد من أركان النظام التجاري العالمي الذي كان قائما. وقد شكل المغرب، بفضل موقعه الجغرافي وقربه من أوروبا، بيئة جذابة للشركات الصينية، التي تسعى إلى توسيع نفوذها في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، والقيادة الذاتية، والبرمجيات الترفيهية، وفق ما أكدته الصحيفة. فبحسب ما نقله التقرير عن الخبير الاقتصادي ألكسندر كاتب، مؤسس منصة "تقرير التعددية القطبية" للاستشارات الاستراتيجية، فإن بكين تسعى إلى الاستفادة من "الميزات الاستثنائية التي يوفرها المغرب"، والتي تشمل بنية تحتية متقدمة للنقل، وموانئ ضخمة مثل ميناء طنجة المتوسط، واحتياطات هائلة من الفوسفات، فضلا عن جهود البلاد للتحول إلى الطاقات النظيفة. وتشير "نيويورك تايمز" إلى أن المغرب أصبح في عام 2023 أكبر مصدر للسيارات إلى الاتحاد الأوروبي، متجاوزا كلا من الصين واليابان والهند، وفق بيانات مجلة أوتو وورلد جورنال. وقد كانت شركات كبرى مثل "رينو" الفرنسية و"ستيلانتيس" الأمريكية، التي تمتلك علامات مثل "جيب" و"كرايسلر"، رائدة في هذا التوسع الصناعي، مستفيدة من انخفاض تكاليف العمالة والطاقة مقارنة بأوروبا. وبالنسبة للشركات الصينية، فإن المغرب يمثل الآن ذات الدور الذي لعبته المكسيك سابقا في الالتفاف على الرسوم الجمركية الأمريكية. ويؤكد أحمد عبودو، الباحث في برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مؤسسة تشاتام هاوس البريطانية، أن المغرب بات "قاعدة محتملة للصادرات الصينية نحو أوروبا"، مشيرا إلى أن الوضع الجيوسياسي الحالي يزيد من صعوبة هذه المناورة. ففي الوقت الذي تطمح فيه الرباط إلى تعزيز علاقاتها مع بكين، إلا أنها تدرك المخاطر التي قد تترتب على ذلك، خاصة في ظل إدارة ترامب التي أظهرت استعدادا للضغط على حلفاء الصين من خلال فرض رسوم جمركية عقابية، بلغت في بعض الحالات 145 بالمائة، كما تقول "نيويورك تايمز". ويضيف عبودو أن المغرب "لن يفتح ذراعيه للصين على حساب علاقاته مع أوروبا والولاياتالمتحدة". ولا يغيب عن المشهد البُعد السياسي المرتبط بقضية الصحراء الغربية، إذ أن اعتراف ترامب بسيادة المغرب على الإقليم عام 2020، مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل، يمثل مكسبا استراتيجيا لا ترغب الرباط في التفريط فيه. كما أن المغرب، الذي يرتبط باتفاقية للتبادل الحر مع الولاياتالمتحدة منذ أكثر من 20 سنة، يشارك في تدريبات عسكرية مع الناتو، ويتعاون استخباراتيا مع واشنطن في قضايا مكافحة الإرهاب، ويسعى حاليا لاقتناء مقاتلات "F-35" الأمريكية، وفق ما ورد في التقرير. ومع ذلك، لم يسلم المغرب من سياسة "الضريبة الشاملة" التي فرضها ترامب على كل الواردات بنسبة 10 بالمائة، رغم أنه لم يتعرض للعقوبات الأشد كما هو الحال مع دول مثل فيتنام وتايلاند والمكسيك. ويشهد المغرب اليوم تصاعدا في الإنتاج الصناعي المرتبط بالصين، ما قد يجلب انتباه واشنطن مجددا. فوفقا للتقرير، بدأت شركة صينية لإنتاج مكونات البطاريات عملياتها في يناير الماضي في ميناء الجرف الأصفر، ضمن مشروع مشترك بقيمة ملياري دولار وُقّع سنة 2023. كما افتتحت شركة "سنتوري" الصينية لصناعة الإطارات مصنعا جديدا في مدينة "طنجة تيك" في أكتوبر، وهي منطقة صناعية تهدف إلى استقطاب أكثر من 200 شركة صينية. وفي تطور لافت، أعلنت شركة "غوشن" الصيف الماضي عن خطة لبناء أول "جيغا فاكتوري" للبطاريات في إفريقيا، باستثمار أولي يصل إلى 1.3 مليار دولار، وقد يصل لاحقا إلى 6.5 مليار دولار، وفق ما أعلنته الحكومة المغربية. وتختم "نيويورك تايمز" تقريرها بالقول إن المغرب يتبع "استراتيجية التوازن" بين الصينوالولاياتالمتحدة منذ فترة طويلة. ويبدو أن إدارة بايدن كانت متسامحة نسبيا مع الاستثمارات الصينية في المملكة، لكن مع عودة ترامب وسياساته التجارية المتشددة، فإن المجال المتاح لهذا التوازن قد يضيق، مما قد يدفع الرباط إلى اتخاذ خطوات أكثر حذرا في علاقاتها الاقتصادية المستقبلية مع بكين.