بدأت معالم «بروفايل» آندرياس لوبنتز تتشكل تدريجيا بعد أن عثر المحققون على قرائن تثبت أنه تعمد إسقاط طائرة الركاب الألمانية يوم الثلاثاء 24 مارس 2015؛ فآندرياس، البالغ من العمر 27 عاما، كان يعاني من إرهاق نفسي شديد، وما كان ليطير في ذلك اليوم المشؤوم لو أنه امتثل لنصيحة الطبيب. صديقة سابقة لمساعد الطيار الألماني المنتحر أبلغت وسائل إعلام ألمانية أن آندرياس أسر لها يوما بأنه سيقوم بعمل «مدو»؛ فهل كان قصده إبلاغ العالم بمرض «الاستنزاف النفسي» الذي يتجاهله الكثيرون، وخاصة أرباب العمل؟ أم إنه كان يخطط فقط لعمل إجرامي صرف؟ أميل إلى الفرضية الأولى، خاصة وأن حالات الانتحار نتيجة لضغط العمل ليست جديدة. في اليابان حيث السبق في كل شيء، ابتدع الأطباء هناك مصطلحا جديدا يستخدمونه في مثل هذه الحالات: «كاروشي» وترجمته التقريبية «الوفاة نتيجة لضغط العمل»، و»إذا عُرف السبب بطل العجب»، كما يقال. ومعنى هذا أن المسؤولين، سياسيين وأرباب عمل، يعترفون بعلة الوفاة هذه، وبالتالي يعملون على تفاديها أو، على الأقل، التقليل من مخاطرها، شأنها شأن العلل والأمراض الأخرى. قبل أسبوع، شاهدت برنامجا تلفزيونيا من إنتاج قناة «بي بي سي» عن ظروف العمل داخل مصانع شركة «فوكس كون» الصينية، والمتخصصة في صنع وتركيب أجهزة شركة آبل الأمريكية العملاقة. وأظهر التحقيق، الذي استعان بكاميرات مخفية، كيف يستغل العمال الصينيون استغلالا فظيعا، ليس من حيث تدني الأجور فحسب، وإنما أيضا من حيث ارتفاع ساعات العمل في اليوم والتي تصل في بعض الأحيان إلى 16 ساعة.. عمال مستهلكون، مرهقون ينامون في أماكن عملهم، قاصرون يستغلون استغلالا بشعا لا يقل عن استغلال العبيد في الأزمنة الغابرة. كما التقى معد البرنامج بعد ذلك بذوي ضحايا الشركة المذكورة من الذين وضعوا حدا لحياتهم خلاصا من معاناتهم اليومية. نفس هذه الحالة عرفتها، كذلك، شركة «فرانس تيلكوم» خلال السنتين الأخيرتين حينما انتحر 5 عمال في غضون أسبوعين. وفي هولندا، سجل المكتب المركزي للإحصاء أكثر من 14 ألف حالة انتحار عام 2008، منها منتحرون لأسباب تتعلق بضغط العمل والخوف من فقدان الوظيفة، خاصة بعد موجة إعادة هيكلة المؤسسات والشركات، استعدادا لمواجهة الأزمة المالية والاقتصادية العالمية. في المغرب، لا توجد إحصائيات يمكن الاطمئنان إليها حول حوادث الانتحار الناتج عن ظروف العمل، إلا أن هذا لا ينفي أن تكون هناك حالات شبيهة بالتي مر بها آندرياس لوبينتز أو عمال شركة «فوكس كون» في مدينة «شينزن» الصينية أو عمال «فرانس تيليكوم». في إحدى أيام مارس من سنة 2010، كنت أستعد لرحلة العودة من مطار محمد الخامس نحو مطار أمستردام. تأخرت الطائرة لساعات، وحينما «أفرج» عنا وتوجهنا، أخيرا، إلى الطائرة وأخذنا أماكننا، تناهى إلى مسامعنا صوت قائد الطائرة وهو يخبرنا باسمه ويزودنا بمعطيات عن الرحلة. بدا لي صوته غريبا ولم يطمئن قلبي، خاصة وأن صورة ربان مغربي آخر، سبق وأن اكتشفته كاميرات المراقبة في مطار سخيبهول في أمستردام وهو يترنح سكرانا بداية عام 2000، عادت لتشغل بالي. وحينما أقلعت الطائرة واستوت في الجو، توجهت إلى رئيس المضيفين وقدمت إليه نفسي معبرا عن رغبتي في زيارة قمرة القيادة والتعرف على الربان ومساعده. قال لي: هل تريد أن تسلم على «الحاج»؟ أوضح لي رئيس المضيفين أن الأطفال فقط هم من يسمح لهم بمشاهدة قمرة القيادة، ومع ذلك سمح لي بالسلام على «الحاج» ومساعده، ثم خرجت لأواصل الحديث معه في الممر. كان «سكرانا» تماما. استفسرته عن السبب وما إذا كان سكره يؤثر على أدائه المهني، وإلى اليوم ما أزال أتذكر جوابه: «أشرب حتى أنسى»، ثم راح يشرح لي ظروف العمل والضغط الذي يتعرض له مع زملائه، موضحا أن قائد الطائرة «الحاج» لم يجد متنفسا من الوقت للراحة من رحلة أخرى.. كان عليه أن يعوض زميلا له تأخرت طائرته في لندن. سألته: هل تبلغون شكاواكم إلى المسؤولين؟ نعم، أجابني قبل أن يضيف: ولكن «على من تقرأ زبورك يا داوود»! أندرياس قاتل وضحية، فهل يصل «دوي» فعلته إلى من يهمه الأمر؟