يُعَدُّ المعرضُ عُمومًا فُرصةً للتبادل المادي والرمزي، وَمَوضِعًا للاطِّلاع على الأُفُقِ الذي بلغه الإبداعُ البشريّ، إضافةً إلى دَوْرِه الاقتصادي والتنموي عُمومًا. مما يُضفي على الحياة الاجتماعية حيويةً، ويَصْبغُها بِلَمَساتٍ جماليةٍ وتربيةٍ ذوقيةٍ. ومعرضُ الكتابِ خُصوصًا، هو مَنْبَعٌ للمعرفة، التي لا يَرْتَقِي الفكرُ البشري في غيابها، وهو مُناسبةٌ تَتَلاقَحُ فيه أفكارُ مُنْتِجِيها مهما تَعَدَّدَتِ انتماءاتهم. فكما يُقَرَّرُ، أنَّ الإنسانَ يَتَعَلَّمُ من قِراءة كتابٍ، ما يُعادلُ شُهورًا وأَسابيعَ من عُمُرِه الزمني. فهو حاضنٌ للفكر والفن، وعَلَمٌ حَضاريٌّ وثقافيٌّ في مَسيرةِ الوَعي البشري. معرضُ الكتابِ نَشاطٌ ثقافيٌّ بُرْهانٌ سياسيٌّ واقتصاديّ: فَلِكُلِّ هذا وغيره، بَادَرَتْ مدينةُ فرانكفورت الألمانية إلى إنشاء معرضٍ للكتاب سنة 1462م، كَسُوقٍ يَلْتَقِي فيه الناشرون لتبادل مُؤَلَّفاتهم، وفُرصةٍ لِعَقْدِ الصفقات التجارية ذات الصبغة الثقافية. وهي العَمَليةُ التي تسمحُ بِتَحويل الرأسمال الثقافي إلى مالٍ سائلٍ، يُساهم في تَنْشيط الحركة الاقتصادية بِمَنطِقها الرِّبحي: تَسويق العناوين، توقيع العقود، تَحْديد الاتجاهات القِرائية للتنبؤ مُسْبَقًا بما سيقبله القُرَّاءُ، ... وبِهذا نستطيعُ القولَ اقتباسًا من مقولةِ المرحوم الحسن الثاني، أنَّ المعرفةَ شجرةٌ، جُذورها في العقل البشري، وأغصانُها تَتطاوَلُ في عَنانِ كلِّ المجالات، ومنها المجال الاقتصادي. بذلك تَصْبِغُ المعرفةُ بمختلف تَجَلِّياتها وطُقوسِ ممارستها – والمَعرضُ إحداها – القاعدةَ الصلبةَ التي ينهض عليها الاستقلال الثقافي، الذي لا يَنْفَكُّ ولا يَقِلُّ أهميةً عن الاستقلال السياسي، وما يَتْبَعُهُ من رِهانٍ تنمويّ. وهو ما يُفَسِّرُ إعادةَ الحياة لمعرض فرانكفورت بعد أربع سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية، وجَعْلَ إحياء فَعَّالياته رِهانًا ليس دون بناء الدولة الخارجة للتو من الحرب بِتُرْكَتِها الثقيلة. الشيءُ الذي يدلُّ على أهمية الشأن الثقافي في حياة الألمان، وهو ما يُفَسِّرُ إقبالَ المواطن الألماني على الكتاب، ويَضْمَنُ عافيةَ تداوله بين الناس إلى يومهم هذا. فقد صَرَّحَتْ كارين شميدت فريدريش رئيسة اتحاد الناشرين الألمان، «بأن الاهتمام بالكتب ما زال كبيرًا، وخصوصًا بين الشباب من 16 إلى 29 سنة». الشيءُ الذي يُبْعِثُ على الاطمئنان حاضِرًا، والعينُ على المستقبل مُتَوَجِّسَةٌ قَلِقَةً، ما دام كلُّ واحدٍ من كلِّ أربعة أطفال لا يَمتلك المهارات القرائية الكافية، كما وَرَدَ في ذات التصريح، وإن كانوا يقرؤون. المشاركة العربية بين المبادرات الذاتية وقلة الاهتمام الرسمي: تَتَمَيَّزُ الدورةُ 77 المُقامة في هذه السنة، بِمُشاركة أكثر من ألف كاتب وكاتبة، يَنْتَمون إلى 92 دولة، من ضمنهم كُتَّابٌ ومُثَقفون وناشرون عرب، بِصِفَةٍ شخصية، أو تحت غطاء رسمي مؤسسي. أبرزُها مؤسسةُ ابن راشد للمعرفة، ومركز أبوظبي للغة العربية، وسلطنةُ عُمان والسعودية والمغرب. حَضَرَتْ أسماء من سلطنة عُمان: الروائية جُوكة الحارثي. ومن العراق نجم والي وأسامة الشحماني. والسوري حليم يوسف. ومَثَّلَ عربَ المهجر كلٌّ من: حسام الدين درويش ورفيق شامي (ألمانيا)، فؤاد العروي (هولندا)، ليلى سليماني (فرنسا). كما تشارك وزارة الثقافة برِواقٍ لا يَتَعَدَّى 22 مترًا مُرَبَّعًا، وهي المساحة الأقل في تاريخ مشاركات المغرب في هذا المحفل الثقافي. يَعْكِسُ هذا الحضورُ العربي عُمومًا، والمغربيُّ خُصوصًا الباهت، القيمةَ التي تُولى للقطاع الثقافي في أوطان العرب. حيث لا يَنْتَصِرُ لأهميتها، ولا يَحافِظُ على اتقاد جذوتها إلا قِلَّة من المسؤولين، وبِمُبَادرة ثُلَّة من النخبة المثقفة، اعتمادًا على إمكانياتهم الذاتية. فقد سبق أن صَرَّح الشاعر محمد الأشعري، أن المغرب لا يرى في معرض فرانكفورت سوى معرضٍ مهنيٍّ بحت، وليس أكثر من سوق دولية للنشر. وهذا ما يُفَسِّرُ المساحة الضيقة التي يَشْغَلُها الرواق المغربي في هذا المعرض. في حين يُمَثِّل للكثيرين، «فُرصةً رائعة للذهاب إلى أوروبا لتوضيح وجهة نظرنا عبر ثقافتنا المتميزة والخاصة والمتنوعة، وهذا ما دفعنا إلى مطالبة الدول العربية بأن تقدم التنوع الموجود لديها من ثقافات ومن بينها الثقافة الأمازيغية» (عمرو موسى). فالتواجد في ساحة الغرب، رِهانٌ عربيٌّ لتحسين صورة العرب، كما يرى جابر عصفور. لكن السؤال الذي يَطْرَح، هل الثقافة العربية حَسَنَة، وبحالة جيدة في الداخل، حتى يَتسنَّى تسويقها في الخارج وتَحظَى بالقبول؟ فالأولى كما يرى الأشعري، أن يَنْصَبَّ الاهتمام على تحسين واقعنا قبل تحسين الصورة. ويَشْهَدُ أكثر من ناشر أن العرب لا يَملكون المقوّمات للمشاركة في أكبر معرض للكتاب (رياض الريس ناشر لبناني). فما يُصْرَفُ على الشأن الثقافي لا يَرْقَى إلى ما تُصرفه المجتمعات المتقدمة، ولا يُعادل ما يُصرف في مجالات أخرى، اعتُبِرَت ذات أهمية وأولوية، ككرة القدم والمهرجات الغنائية و... وكل التعابير الثقافية العربية التي تَبْرُز في الغرب، هي من صُنع مهاجرين ولاجئين عرب، بعيدًا عن المؤسسات الرسمية. هي صورة لا تختلف كثيرًا عن تلك التي أظهرتها المشاركة العربية في سنة 2004، وهم ضيوف شرف. الفُرصة التي أُتِيحَتْ لإظهار العمق الحضاري العربي، ونبل ثقافته وقيمه السمحة. حيث العداء للعرب يومها في أعلى مستوياته. لكن الفُرصة التي قال عنها إبراهيم المعلم رئيس اتحاد الناشرين العرب يومها أنها مُجْدِرَةٌ بِبداية، لما سُئل من طرف الصحفي والكاتب محمد المنسي قنديل، وهو يرى الرواق العربي خالٍ من المارة، وعلى مقربة منه أروقة تَفِيض بالزوار، وبين الحين والآخر يُعْلَن عن احتفال بتوقيع عَرض. والقائمون على الرفوف العربية يَتَثاءَبون، والناشرون العرب يطلبون حق الترجمة، ولا يُطْلَب منه شيء كما صَرَّح أحد الناشرين العرب. الشيء الذي يكشف «أن ما نحمله من كتب، وما نتشدق به من إنجازات، هما بعيدان تمامًا عن الفكر المبتكر والثقافة الرصينة والبحث العلمي بمعانيها الدقيقة» (محمد المنسي قنديل). لكن الألمان والغرب على اطِّلاع جيد بما كنا عليه في سالف الدهر، الذي ترجموا منه الكثير. مما يَجعل البداية التي تحدث عنها إبراهيم المعلم لم تُبْرِحْ خطَّ الانطلاق، والفُرَصُ تُهْدَرُ تباعًا، والكَبَواتُ سِمةٌ من سِماتنا. عود على بدء: يُعْتَبَرُ معرض فرانكفورت منصة عالمية للتداول في قضايا الفكر وحقوق الإنسان، ولا يمكن لمعرض بهذا الحجم أن يُغْفِلَ دور الذكاء الاصطناعي، وأثره على عملية التفكير البشري وأدائه المهني. في ظل التوسع الكبير للنشر الإلكتروني، الذي ساهم في تغيير أنماط القراءة والكتابة وفن القول، وتأثيره الكبير على تداول الكتاب الورقي. وحَدَّ من تواجده في الشرق والغرب، لأسباب تتمثل في سهولة النشر، وبساطة لغته، وتحرره من سلطة الناقد، الذي قد يملك جواز مروره إلى الجمهور أو إعدامه. إضافة إلى المردود المادي الجيد لأصحابه. لكن مثل هذا الكلام لا ينطبق على الكتاب في الغرب، الذي ما زال المواطن يخصص له ميزانية معتبرة ضمن مصروفه، وما زالت المؤسسات الثقافية تُحِيطه بالعناية الفُضلى، وتكرسه للتكوين والتثقيف، الوسيلة المثلى، والنتائج يلمسها القاصي والداني.