تقدّم حكومات كثيرة في العالم اليوم مئات المليارات من الدولارات تحت شعار بناء "ذكاء اصطناعي سيادي"، بينما تعتمد هذه المشاريع من الأساس على عتاد وشركات أمريكية، في مفارقة تجعل من "السيادة" سلعة جديدة في الأسواق الدولية. هذا ما يخلص إليه تحليل مطوّل نشره الباحث إيفغيني موروزوف في مجلة "لوموند ديبلوماتيك"، معتبرًا أن السيادة الرقمية باتت تُتداوَل مثل الذهب والعملات المشفّرة والسيارات الفاخرة، لكن بشروط تفرضها واشنطن و"وادي السيليكون". في فرنسا، أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون في فبراير الماضي مرحلة جديدة من "الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي"، تقوم على خطة استثمارات خاصة بقيمة 109 مليارات يورو، يشارك فيها صندوق سيادي إماراتي وصناديق تقاعد كندية ورأسمال استثماري أمريكي وشركات فرنسية كبرى مثل "إلياد" و"أورانج" و"تاليس". غير أن هذه الشركات، كما يشير موروزوف، تعتمد جميعها على وحدات المعالجة الرسومية "بلاكويل" التي تنتجها شركة "نفيديا" الأمريكية، المتصدّرة عالميًا في سوق الشرائح المستخدمة في الذكاء الاصطناعي وفي ترتيب القيمة السوقية. المشهد نفسه تكرّر في المملكة المتحدة، التي أعلنت في سبتمبر 2025 "اتفاق ازدهار التكنولوجيا" بقيمة 150 مليار جنيه إسترليني، قبل أن تسارع ألمانيا إلى الالتحاق بالسباق. ومن الشرق الأوسط إلى جنوب شرق آسيا، تتوالى إعلانات الخطط الضخمة لكسر "الاعتماد على التكنولوجيا الأمريكية"، عبر شراء شرائح أمريكية بالشروط التي يحددها صانعها. بهذا المعنى، تصبح "السيادة" – كما يعلّق موروزوف – امتيازًا يسمح للدول بأن تكتب شيكاتها للولايات المتحدة بعملتها الوطنية. في خلفية هذا الاندفاع، يبرز دور رئيس "نفيديا" جنسن هوانغ، الذي يقدم نفسه في المؤتمرات الدولية بزيه المعتاد وسترة الجلد، مخاطِبًا الحكومات برسالة واحدة متكررة: "امتلكوا وسائل إنتاج ذكائكم". وزراء المالية ومسؤولو الاستثمار يهزون رؤوسهم موافقة، بينما يتجاهلون – عن قناعة أو عن تغافل – التفاصيل الدقيقة في العقود وشبكات التمويل. الرسالة الضمنية بسيطة: اشتروا شرائحنا وتخلصوا من "هيمنة" شركات أمريكية أخرى مثل "أوبن إيه آي" ومنصتها "تشات جي بي تي". لكن، بحسب تحليل "لوموند ديبلوماتيك"، فإن "نفيديا" نفسها تخطط لاستثمار نحو 100 مليار دولار في المنظومة التي يُفترض أن خطاب "السيادة" موجّه ضدها. فلكل عشرة مليارات تُضخ في "أوبن إيه آي"، تستعيد "نفيديا" ما يقرب من 35 مليارًا عبر بيع شرائحها، في دورة مالية شبه مغلقة. بل إن هذه الشرائح لا تُباع في كثير من الأحيان بيعًا نهائيًا، بل تُؤجَّر بنماذج معقدة تزيد من ارتباط الزبائن بالشركة. في موازاة ذلك، تضخ "أوبن إيه آي" استثمارات في منافِسة "نفيديا" الرئيسية، شركة "إيه إم دي"، وتبحث عن اتفاقيات بنية تحتية تتيح لها، على المدى المتوسط، امتلاك قدرة كهربائية تعادل عشرين مفاعلًا نوويًا، بكلفة تقدَّر بتريليون دولار. هذه الترتيبات المتشابكة دفعت موروزوف إلى تشبيهها بمخططات "بونزي" المالية، حيث تُستخدم أموال المستثمرين الجدد في دفع عوائد القدامى. ومع بلوغ مديونية قطاع الذكاء الاصطناعي نحو 1200 مليار دولار، يصبح حجم المخاطر أكبر من حجم ديون القطاع المصرفي قبيل أزمة 2008، لكن مع "السيليكون" بديلًا عن القروض العقارية عالية المخاطر. تقديرات بنك "مورغان ستانلي" تشير إلى أن الإنفاق العالمي على مراكز البيانات قد يصل إلى 2900 مليار دولار بحلول 2028، بينما لا تملك شركات التكنولوجيا الكبرى سوى 1400 مليار نقدًا، ما يفرض عليها اقتراض الباقي من صناديق استثمار عملاقة مثل "بلاكستون" و"أبولو" و"Pimco". بذلك تصبح "السيادة الرقمية" مرهونة مرتين: أولًا لمنتجي الشرائح في كاليفورنيا، وثانيًا لبيوت المال في وول ستريت. من منظور واشنطن، يندرج كل ذلك في تطور طويل الأمد لاستراتيجية الهيمنة؛ فبعد "دبلوماسية الجمارك" في أمريكا اللاتينية مطلع القرن العشرين، و"دبلوماسية النفط" مع دول منظمة "أوبك"، تظهر اليوم "دبلوماسية المعالج". يذكّر موروزوف بتجارب سابقة، منها وضع الجمارك في دول أمريكا الوسطى تحت إشراف مباشر أمريكي قبل قرن، ثم ربط تسعير النفط بالدولار واستثمار فوائضه في سندات الخزانة الأمريكية في سبعينيات القرن الماضي، وصولًا إلى ما يسميه اليوم "جمهورية نفيديا". جزء من هذه المنظومة يمر عبر العملات المشفّرة. ف"العملات المستقرة" (Stablecoins) التي تُصدر مثلًا من دبي أو ساو باولو، يجب أن تكون مغطّاة بأصول مقومة بالدولار، في مقدمتها سندات الخزانة الأمريكية. الرئيس التنفيذي لشركة "تيذر" وصف رموزه الرقمية صراحة بأنها "الأداة الأكثر فعالية في تعزيز هيمنة الدولار"، فيما تملك شركته عشرات المليارات من الدين الأمريكي. ويضيف موروزوف أن قانونًا أمريكيًا جديدًا ("Genius Act") يضع إطارًا قانونيًا لهذه العملات، مقدّمًا لها غطاءً تشريعيًا باسم "مناهضة المنظومة" بينما تعزز في الواقع مركزية الدولار. في المقابل، تلتهم نماذج الذكاء الاصطناعي الجزء الأكبر من القدرة الحاسوبية العالمية. شرائح "نفيديا" لهذه النماذج تتمتع بأهمية تعادل أهمية النفط الخام في السابق. ومن هذا المنظور، يبدو الحديث عن "ذكاء اصطناعي سيادي" في دول أخرى متناقضًا، ما دامت البنى التحتية الأساسية – العتاد والبرمجيات والتمويل – تبقى في دائرة النفوذ الأمريكي. الجانب الجيوسياسي يتجلى أيضًا في القيود التي تفرضها الولاياتالمتحدة على تصدير التقنيات. شركة "ASML" الهولندية، الوحيدة عالميًا في إنتاج آلات الطباعة الضوئية المتقدمة اللازمة لصناعة الشرائح الأكثر تطورًا، مُنعت من بيع معدات معينة للسوق الصينية تحت طائلة حرمانها من البرمجيات الأمريكية. وفي سيناريو آخر، اضطرت شركات إماراتية عاملة في مجال الحوسبة السحابية إلى تفكيك معدات اتصالات صينية بمليارات الدولارات تحت ضغط أمريكي مباشر، قبل أن تحصل على استثمارات أمريكية تعوّض ذلك جزئيًا. وعلى الرغم من بقاء مراكز البيانات في أبو ظبي مثلًا، فإن قوانين مثل "Cloud Act" تمنح سلطات أمريكية حق الوصول إلى بيانات مخزنة خارج الحدود، ما يضع علامات استفهام كبيرة على مفهوم "السحابة السيادية". إلى جانب ذلك، توسِّع قواعد مثل "Foreign Direct Product Rule" نطاق الولاية القضائية الأمريكية لتشمل مكونات حساسة تدخل فيها برمجيات أو معرفة أمريكية، حتى لو جرى تصنيعها خارج الولاياتالمتحدة. كما يناقش الكونغرس تشريعات تلزم بدمج أنظمة تتبع وجغرافيا داخل بعض الشرائح المتقدمة، بما يتيح مراقبة استخدامها وانتقالها. ويرى موروزوف أن هذه التدابير تجعل من الشرائح "طوقًا من السيليكون" يربط البنى التكنولوجية العالمية بمنظومة قانونية وأمنية أمريكية. في أوروبا وآسيا، تلعب النخب الاقتصادية دور "الوسيط" بين رؤوس الأموال الأمريكية والاقتصادات الوطنية. فالمجموعة اليابانية "سوفت بنك" تعهدت باستثمار عشرات المليارات في شركات ذكاء اصطناعي أمريكية، رغم أن سيولتها أقل من حجم التزاماتها، مع الاعتماد على الاقتراض لسد الفجوة. وفي ألمانيا، تعتمد مشاريع ما يسمى "السحابة الصناعية" على آلاف الشرائح القادمة من مصانع في تايوان ومقرّات في الولاياتالمتحدة، بينما يعود الجزء الأكبر من الأرباح إلى شركات مسجلة في ولايات أمريكية ذات قوانين ضريبية مرنة. في المقابل، تحاول الصين، بحسب المقال، انتهاج مسار مختلف يقوم على تقليص الاعتماد على الشرائح الأمريكية، ولو بثمن اقتصادي وتقني. شركات صينية كبرى في مجال التكنولوجيا والإنترنت خضعت لاختبارات رسمية لتقييم أداء الشرائح المحلية مقارنة بشرائح "نفيديا"، قبل أن تُرجّح السلطات كفة المنتجات الوطنية وتلغي طلبيات ضخمة من العتاد الأمريكي. كما أطلقت شركات صينية نموذجًا لغويًا واسعًا معروفًا باسم "DeepSeek"، اعتُبر أقل استهلاكًا للطاقة من بعض منافسيه الغربيين، في إشارة رمزية إلى إمكانية تطوير نماذج متقدمة خارج المنظومة الأمريكية. مع ذلك، يكشف التحقيق أن سلسلة إنتاج الشرائح الصينية نفسها لا تزال تعتمد جزئيًا على مصانع خارجية مثل "TSMC" في تايوان، وعلى مكوّنات من شركات كورية جنوبية. لكن الفارق، في نظر موروزوف، يكمن في الإرادة السياسية لتقليص التبعية، حتى لو تطلّب الأمر اللجوء إلى مسارات معقدة أو الالتفاف على القيود. في خاتمة تحليله، يطرح موروزوف سؤالًا يتجاوز الاقتصاد والتقنية إلى السياسة: دول كثيرة تملك القدرة المادية والتقنية على إعادة التفاوض حول موقعها في منظومة الذكاء الاصطناعي العالمية، لكنها لا تملك الاستعداد لتحمّل كلفة الصدام مع قواعد يضعها "المركز". وفي ظل استمرار هذا التردد، تبقى الشيكات الموجهة إلى "جمهورية نفيديا" تُصرف بانتظام، بينما يتسع الفارق بين خطاب "الذكاء الاصطناعي السيادي" والواقع الفعلي لخرائط القوة والهيمنة في الاقتصاد الرقمي العالمي.