لم يكن من قبيل الصدفة أن يحظى حدث اعتقال ومحاكمة شيخ الطريقة الدرقاوية بطنجة، الشريف أحمد بن الصديق الغماري، بما حمله من حقائق وملابسات، باهتمام واسع ومكثف في أوساط الصحافة العربية الصادرة بمنطقة الحماية الفرنسية. بيد أن تغطية وقائع هذا الحدث ورصد تداعياته وأصدائه وما أعقبه من تصريحات في غاية التباين والحساسية، لم يكن منسجما مع رؤية واحدة في التعاطي مع سياقات الحدث وملابساته، بحيث تباينت مضامين الرصد وخلفيات الوصف والتحليل للحدث بتباين توجهات الصحافيين وطبيعة الخط التحريري بين صحافة ظلت منافحة عن وجهة النظر الرسمية، أجمعت على إدانة الشيخ أحمد بن الصديق الغماري، من منطلق إثارة الفتنة وتحريض الأتباع والتآمر على النظام، وصحافة مستهجنة ومدينة لحدث اعتقال الشيخ الدرقاوي، معتبرة محاكمته مؤامرة استعمارية محبوكة ومكشوفة. هو أحمد بن محمد بن الصديق بن أحمد بن قاسم الغماري الحسني، العلامة الحافظ المشارك، المحدث المطلع، المؤلف الشهير، من آخر من أتقن علم الحديث نصا وإسنادا، المسند الناقد الراوية الكاتب المقتدر الفقيه ذو أفكار صائبة في جل المسائل، يعد من أكبر المحدثين بالديار المغربية. ولد بقبيلة بني سعيد، بنواحي تطوان سنة 1320ه/ 1902م، وهو أحد أعلام أسرة ابن الصديق العالمة الشريفة. نشأ أحمد بن الصديق بمدينة طنجة، وبها أخذ العلوم الشرعية واللغوية، على عدد من الشيوخ، منهم: والده الشيخ محمد بن الصديق، والشيخ العربي بودرة، والشيخ عبد السلام الغماري، ورحل مرات إلى مصر بقصد الدراسة، فالتحق خلالها بالجامع الأزهر، وأخذ عن علمائه، وتوسع في الأخذ عن شيوخ آخرين؛ مشارقة ومغاربة، سواء بالدراسة أو بالإجازة، حتى بلغ عدد العلماء الذين أجازوه مائة وستة شيوخ، منهم: الشيخ محمد بن جعفر الكتاني، والشيخ أحمد الزكاري، والشيخ بدر الدين المغربي، والشيخ أحمد بن محمد الطهطاوي والشيخ محمد زاهد الكوثري وغيرهم. ألف أحمد بن محمد بن الصديق مائة وخمسة وخمسين كتاباً في مختلف العلوم الشرعية كالفقه، والأصول، والتصوف، وأكثرها في علم الحديث. خلف والده في مشيخة الطريقة الصديقية، وحافظ على التوجه الصوفي نفسه الجامع بين العلم والتصوف، وفي أواخر حياته هاجر إلى القاهرة، وبها توفي سنة 1960. خصصت الصحافة العربية الصادرة بالمنطقة السلطانية حيزا كبيرا من صفحاتها لحدث اعتقال ومحاكمة الشيخ الدرقاوي أحمد بن الصديق الغماري، إذ تناولت مجموعة من المقالات بالوصف والتحليل الضافيين، وأحاطت إحاطة شاملة بحدث اعتقاله، وراصدة أجواء محاكمته وأطوارها، وما ترتب عليها من ردود أفعال متباينة. نشرت «السعادة» ملابسات اعتقال شيخ الطريقة الدرقاوية حسب بلاغ رسمي أصدرته الإدارة الدولية بطنجة، مشيرة إلى أن: «البحث الذي قامت به الشرطة الدولية أدى إلى إلقاء القبض على عدة أشخاص اعترفوا عن طواعية بأنهم نقلوا بعض البندقيات والقرطاس إلى المنطقة الخليفية»، كما اعترف المتهمون ب»أن الشريف سيدي الحاج أحمد بن الصديق الغماري الدرقاوي هو الذي أعطاهم الأسلحة»، وعلى الرغم من أن «التفتيش الذي تم إجراؤه بالزاوية الدرقاوية لم يسفر عن أي نتيجة، إذ لم يعثر على أي سلاح هناك» فإن الشرطة «أوقفت الشريف الدرقاوي وقادته إلى الكوميسارية حيث وقع استنطاقه طويلا»، ومن ثم، سيق «إلى السجن بطنجة حيث يعامل معاملة خصوصية». وتابعت جريدة السعادة تغطية أجواء قضية اعتقال الشيخ الدرقاوي ورصد أصدائه، مشيرة في هذا الصدد «شملت الاعتقالات الواقعة لحد الآن بالمنطقة الدولية في قضية تهريب الأسلحة اثني عشر شخصا من جملتهم أحد عشر مغربيا يوجد من بينهم الشريف الدرقاوي وشخص إسباني»، بعد أن «ثبت بكيفية محققة بواسطة أرقام البنادق المحجوزة في المنطقة الاسبانية أن الأمر يتعلق بأسلحة من بين مدخرات اكتشفت بطنجة سنة 1938 أثناء الحرب الأهلية الإسبانية وكان ذلك موضوع محاكمة مهمة في تلك السنة وقد وقع حجز معظم هذه الأسلحة في ذلك الوقت، ولكن لم يمكن العثور على خمسين بندقية رغم الأبحاث الطويلة في سبيل العثور عليها». وعكست الجريدة نفسها صدى الحدث في أوساط الهيئات الدبلوماسية، فأوردت في هذا الشأن تصريحا مقتضبا ل»فردتبورك» مدير منطقة طنجة وردفيه: «أن القضية بين أيدي قاضي التحقيق وأنه مما يؤسف له حقا أن يكون رئيس ديني دخل فيها. ويشاطره في هذا الرأي بصورة عامة السكان الطنجيون المغاربة منهم وغير المغاربة». كما خصصت «السعادة» حيزا كبيرا من العدد الصادر في فاتح أبريل 1950 لتغطية أطوار محاكمة الشريف الدرقاوي وثلاثة وعشرين من أتباعه أمام المحكمة المختلطة بطنجة بتهمة «إدخال أسلحة وذخائر حربية إلى المنطقة الطنجية وحملها هناك، كما اتهموا بالتهييج ونشر الدعاية ضد النظام في إحدى مناطق المغرب»، وقد «تجمهر جم غفير حول بناية المحكمة وفي داخلها، ولوحظ من الحضور مراسلو الصحف الأجنبية، وعدد كبير من الملاحظين الدبلوماسيين والحقيقة أن الميزة السياسية والدينية التي يطلع بها المتهم الرئيسي قد أثار حب استطلاع كبير في الأوساط الدبلوماسية «. واكبت السعادة رصدها لوقائع جلسات المحاكمة بالوصف والتحليل، فأشارت إلى رفض المحكمة، برئاسة القاضي الإيطالي «أبوستولي»، الملتمس الذي تقدم به دفاع الشيخ الدرقاوي بخصوص عدم اختصاص المحكمة، بناء على مقتضيات القانون التي تنص على ضرورة حضور قاض مغربي أثناء التقاضي، وتوقفت السعادة عند مجريات استنطاق الشيخ الدرقاوي والتصريحات التي أدلى بها أمام أنظار المحكمة لكونه «يحمل وحده كامل مسؤولية جميع المخالفات المنسوبة إليه وإلى المتهمين معه»، وأن الأمر يتعلق «بمناورة من الجنرال «فاريلا» المندوب السامي بالمنطقة الإسبانية، فالأسلحة المعثور عليها وقع إرسالها إليه بإيعاز منه». وأضاف الشريف إلى ذلك قوله «إن العمل الذي أعد له يهدف لاطلاع الرأي العالمي على الحالة السيئة التي توجد فيها المنطقة الإسبانية منذ وصول الجنرال فاريلا». واعترف الشريف في معرض محاكمته «أن عددا كبيرا من أتباعه اعتقلتهم السلطات الإسبانية منذ 1946 وعاملتهم معاملة سيئة، وأضاف الشريف قائلا: «بما أنني عارضت هذه الأعمال فقد أراد الجنرال «فاريلا» أن ينتقم مني، فوجه إلي هذا الصحافي المزعوم المسيو «كارلوس» مارتين الذي قدم لي نفسه كممثل للجمهوريين الاسبانيين الذين يريدون مساعدة درقاوة ضد أعدائهم الاسبانيين، وهكذا اقترح علي أسلحة سلمت إلي بعد مرور شهر من هذه الزيارة». وأحاطت جريدة السعادة بتفاصيل مرافعة وكيل الدولة الذي أكد على «خطورة التهم وألح في بيان الفرق في الإدانة بين المسؤولين وبسطاء الشركاء وطالب الحكم بالسجن مدة ستة أعوام على الشريف الدرقاوي»، ونشرت مرافعات محاميي الشريف الدرقاوي اللذين أكدا من خلالها أن القضية لها صبغة سياسية محضة، وأن الأمر كان يتعلق بقضية حكومية، وأن المحكمة المختلطة ليس لها حق الاختصاص. وتساءلت جريدة السعادة في آخر تغطيتها لأطوار المحاكمة حول ما إذا كان الشريف الدرقاوي سيستأنف الحكم الذي حكم به بالسجن لمدة ثلاث سنوات ونصف، وأداء غرامة قدرها خمسون ألف فرنك، وعما إذا كان أتباع الشريف سيقومون بإحداث مظاهرات، وعما إذا كانت السلطات الإسبانية ستطلب من السلطات الدولية بطنجة تسليمها الشريف الدرقاوي لمحاكمته من جديد بتطوان، وأين سيقضي الشريف مدة سجنه لاسيما أن الطريقة المتبعة تقضي بأن يرسل الأشخاص المحكوم عليهم بالسجن أكثر من ستة أشهر إلى سجن بالمنطقة الفرنسية «.