بين أحزاب أنهكها ماراطون المشاركة الحكومية، وأخرى لم تغادر متاهة السبعينيات، يظل "الحزب الاشتراكي الموحد" البيت اليساري الوحيد الذي يمكن أن يعثر بين جدرانه "الرفاق المشردون" على ما يلزم من دفء كي يستأنفوا أحلامهم بغد أفضل، لذلك اشرأبت الأعناق إلى بوزنيقة نهاية الأسبوع، تتابع المؤتمر الرابع للحزب، الذي يأتي في وقت تشهد فيه البلاد تراجعا في الحريات وتزايدا في الاحتجاجات، وسط مشهد سياسي رديء، يسيطر عليه الشعبويون والانتهازيون والتقنوقراط. الجميع بات يعول على حزب آيت إيدر ومنيب والساسي لإعادة الاعتبار إلى السياسة، وإلى اليسار الذي "تمرمط" في الوحل خلال العقدين الأخيرين. قبل عشرين سنة، بالتمام والكمال، تعاقد الحسن الثاني مع عبدالرحمان اليوسفي حول صفقة سياسية غامضة سُميت ب"التناوب التوافقي"، لم تعرف بنودها الحقيقية، لكننا نعرف أنها أدت إلى تصدع أكبر حزب يساري مغربي، حيث تفرق "الاتحاد الاشتراكي" إلى مجموعة من التكتلات، انتهت بأن تحولت إلى أحزاب صغيرة أو اندمجت مع فصائل يسارية أخرى لتشكل هيئات سياسية جديدة، من أشهرها "الحزب الاشتراكي الموحد"، الذي نشأ 2005 من اندماج تيار "الوفاء الديمقراطية" مع تجمع "اليسار الموحد"، الذي يضم "منظمة العمل الديمقراطي الشعبي" وفصائل أخرى محسوبة على أقصى اليسار. ورغم عدم انسجام مكوناته من حيث النشأة والتاريخ، فقد استطاع "الاشتراكي الموحد" أن يصمد في وجه التحديات الداخلية والعواصف السياسية، وأن يبني أداته التنظيمية حجرا حجرا، إلى أن وصل إلى مؤتمره الأخير، حاملا آمال من يتطلعون إلى بعث اليسار المغربي. يكفي أن تتأمل الوجوه التي حضرت الجلسة الافتتاحية لمؤتمر بوزنيقة، من الكحص إلى السعدي، ومن اليازغي إلى الصقلي، ومن الأشعري إلى بنعبدالله، كي تعرف أن اليساريين باتوا فعلا مشردين بلا مأوى، بعدما تهدمت منازلهم واحدا تلو الآخر، ولم يبق إلا البيت الذي شيده الشيخ الحكيم محمد بنسعيد آيت إيدر. ولا يصمد إلا ما شُيد "على الصح"، أما البناء المغشوش، فيسقط على رؤوس ساكنيه. الاتحاديون موجودون في كل مكان، لكن حزب "القوات الشعبية" لم يعد له وجود. تحول إلى "شركة" في حي الرياض يستفيد منها حفنة من "المساهمين" في الإفلاس الذي وصل إليه المشهد السياسي. بعدما كان بيتا مفتوحا في وجه كل المغاربة، بات حزب عبد الرحيم بوعبيد رهينة بين أيدي مجموعة من القراصنة، نجحوا في سرقة "الاتحاد الاشتراكي" من "القوات الشعبية". أما "التقدم والاشتراكية"، فقد غرق عن آخره في الوحل، فبدل الدفاع عن الجماهير والقيم التقدمية، بات حزب علي يعتة في خدمة إيديولوجية محافظة لتأمين مصالح حفنة من القياديين. وحدها أحزاب قليلة ظلت تقاوم، وفي مقدمتها "الطليعة" و"النهج الديمقراطي" و"الاشتراكي الموحد"، الذي يشكل استثناء وسط العائلة اليسارية، بين من "باعوا وساوموا" ومن "تجذروا وتقوقعوا". كل اليساريين الذين قايضوا مبادءهم بكراسي وحقائب و"صاكاضوات" تركوا أولادهم مشردين بلا بيت. وبعض من صمدوا وسط العواصف، اعتصموا بالشعارات، وتعودوا على حياة المتاريس حتى بات من الصعب عليهم الخروج من القوقعة. لا أولئك ولا هؤلاء يستطيعون إخراج البلاد من عنق الزجاجة. المغرب يحتاج إلى بديل سياسي جدي، يغري الشباب ويستوعب تطلعاتهم، بعيدا عن الخيارات المتشنجة، والخطابات الراديكالية، وبمنأى عن الأحزاب التي تنظر إلى الوراء، وتتصارع باسم عداوات قديمة، مثلما يتصارع أبناء عائلة واحدة على التركة، ويورثون أولادهم الحروب والضغائن. ولا شك أن النجاح ممكن في البيت اليساري، شريطة التخلي عن المعارك المجانية والشعارات القديمة والأحكام المسبقة، والإخلاص للفكرة التي مات من أجلها البعض وأفنى آخرون حياتهم في الدفاع عنها. لقد رأينا الدينامية المدهشة التي أحدثها أحد اليساريين الشباب في الرباط، عندما ترشح باسم "الاشتراكي الموحد" في أكدال، وتمكن من الدخول إلى المجلس البلدي وتشكيل فريق معارض، وأعاد للانتداب المحلي نبله وعمقه السياسي، كما تمكن من الحصول على مقعد في البرلمان، بعد حملة انتخابية نموذجية، استقطبت أشخاصا لم يسبق لهم أن شاركوا في مثل هذه الاستحقاقات. وما كان لعمر بلافريج، القادم من الشبيبة الاتحادية، أن يبعث مجد اليسار في العاصمة، لو لم يكن يتجه بخطوات واثقة إلى الأمام، ولا ينظر إلى الماضي إلا لكي يأخذ منه ما يساعده على الذهاب إلى المستقبل. اليسار فكرة، والأفكار لا تموت. في الوقت الذي تخطط فيه الحكومة للتراجع عن مجانية التعليم، وتتوسع قاعدة الفقراء، ويموت مغاربة "العصر الجليدي" من البرد، وتموت نساء سيدي بولعلام من أجل كيس طحين، ويحتج فيه المهمشون في الريف وجرادة وأوطاط الحاج، وتقبع نخبة من خيرة شباب البلاد في الزنازين، فيما يعيث اللصوص فسادا في الإدارات والعمالات والوزارات، وتتمتع شرذمة صغيرة من المحظوظين بخيرات المملكة… تبدو الفكرة اليسارية ضرورية أكثر من أي وقت مضى. ولعل خلاصة عشرين عاما من تفكك واندماج اليسار هو أن "الوردة" ذبلت و"الكتاب" طويناه، لكن "الرسالة" وجدت من يحملها.