أحتفظ للشاعر محسن أخريف بصورتين: الأولى، حقيقية، أثناء توزيع جوائز «دوزيم» للإبداع الأدبي عام 2006 في دورتها الأولى. والثانية، افتراضية، وهو يسقط مصعوقا في خيمة ب»عيد الكتاب» في تطوان. في الأولى كان يحتج على سوء تعامل التلفزيون العمومي مع المبدعين، وكنت أحاول تهدئته، وفي الثانية كان يخر صريعا بسبب احتقار السلطات العمومية للمبدعين، وكان الزملاء يحاولون إنقاذه، دون جدوى! لا أحد يأخذ الكاتب على محمل الجد في البلاد التي… المسؤولون آخر همهم الإبداع الأدبي، لأنه نخبوي ولأن الكُتّاب كائنات غريبة، لا يأتي من ورائها إلا صداع الرأس. لذلك تنظم الأنشطة الثقافية في شروط كارثية، تعكس «الوضع الاعتباري» للكاتب. وعندما يحاول البعض تحسين ظروف تداول الإبداع، وتنظيم أنشطته، يجد دائما من يعرقل ذلك. عام 2006، كنت مسؤولا عن البرامج الثقافية في القناة الثانية. في الوقت الذي انتشرت فيه برامج تلفزيون الواقع والمواهب الغنائية، قررنا -عكس التيار- أن نطلق جائزة أدبية لفائدة المبدعين الشباب، بالعربية والفرنسية والأمازيغية، في أجناس الرواية والقصة والشعر. كنت أعتقد أن التلفزيون يمكن أن يسهم في تصحيح صورة «الكاتب» لدى الأجيال الصاعدة، وأن يجعلهم يحلمون بأن يصبحوا شعراء وروائيين، وليس فقط مغنيين وسينمائيين ورياضيين. وجدت دعما لا مشروطا من مدير لبرامج، حينها، الصديق محمد مماد، وعرقلة لا مشروطة أيضا من مدير القناة، وقتها، مصطفى بنعلي. أذكر أننا بمجرد ما أعلنا عن المسابقة حتى تقاطرت علينا عشرات المخطوطات، وقضينا أسابيع محترمة ونحن نقرأ ونفرز الأعمال كي ننتقي الأفضل ونضعه بين يدي لجنة تحكيم مرموقة كانت تتكون، أن لم تخني الذاكرة، من الشاعر محمد الواكيرة والمبدع الكبير أحمد بوزفور والقاصة ربيعة ريحان والشاعر جلال الحكماوي والكاتبة منى هاشم. كان محسن أخريف أحد المشاركين في المسابقة وحصل على جائزة الشعر عن ديوانه الأول «حصانان خاسران». قصائد شفافة، بنفَسٍ شعري واعد، جعلتني أتعرف عليه لأول مرة. سأُعفيكم من التفاصيل الحقيرة، التي جعلتني في النهاية أستقيل من القناة الثانية وأهاجر دون ندم، كما صنع كثيرون غيري، وأمر إلى الأهم. بعد شهور محترمة من العمل، وجدَت لجنة التحكيم نفسها في قاعة فسيحة بالدار البيضاء، تصور حفل توزيع الجوائز دون أن يتقاضى أفرادها درهما واحدا نظير جهدهم، ودون أن يوقعوا على عقد أو التزام. رغم أنني، منذ أن أطلقنا المشروع، لم أتوقف عن تذكير المدير العام بضرورة توقيع عقود أعضاء لجنة التحكيم والتأشير على تعويضاتهم، لكنه لم يكن يعير رسائلي أي اهتمام! كانت «دوزيم» قد بدأت احتضارها الطويل، بعدما انتهت بين يدي أفشل مدير في تاريخها، سيئ الذكر مصطفى بنعلي، الذي أسقطه نبيل بنعبد الله، أيّام كان وزيرا للاتصال، على رأس القناة عام 2003، كي ينتقم من نور الدين الصايل ومن المشاهدين ومن الأموال العمومية، ومن لجنة تحكيم مسابقة القناة الثانية للإبداع الأدبي… كنت خجلانا من الأدباء المحترمين، الذين وافق معظمهم على المشاركة في لجنة التحكيم احتراما لي، وتشجيعا للفكرة. عندما شرعنا في التصوير، رفض أعضاء اللجنة أن يشاركوا في حفل توزيع الجوائز، ما لم يتقاضوا أجورهم. قلت لهم: معكم حق وأخبرت مدير البرامج… أوقفنا التصوير، وهتفنا للمدير الذي اضطر إلى المجيء على عجل وفي يده دفتر الشيكات، وقع تعويضات لجنة التحكيم مكرها، كما يفعل اَي نصاب وضعته أمام الأمر الواقع. كان المشهد سرياليا ومخجلا في الآن ذاته: أن تضطر قامات إبداعية محترمة للتهديد بمغادرة «بلاتو» التصوير كي تحصل على تعويضاتها المستحقة، بسبب استهتار مدير شبه أمي، قذفته الرداءة والحسابات السياسية الرخيصة على رأس التلفزيون العمومي. قبل أن نستأنف الحفل الذي كاد يتحول إلى مأتم، رأيت شابا يخرج منفعلا من القاعة مهددا هو أيضا بالانسحاب من التصوير ما لم يحصل على تعويضه المستحق. كان الشاب الغاضب فائزا بجائزة الشعر، وكان اسمه محسن أخريف. فتشنا عن المدير الذي تسبب في الأزمة ولم نجده. كان قد غادر كأي محتال رديء. اضطررت إلى التدخل كي أهدئ محسن، قلت له: أتفهم حنقك، من حقك أن تغضب وتشك وتهدد، ولو كنت مكانك لتصرفت مثلك، لكنني أعدك بأن حقوقك مضمونة… أتذكر أن محسن هدأ وقال لي بكثير من الأدب: أنت الوحيد الذي أثق فيه هنا أسي جمال… وعاد إلى مكانه، ثم استأنفنا التصوير! من وقتها لم تتح لي فرصة اللقاء مع محسن، لأنني قدمت استقالتي من القناة الثانية وهاجرت إلى الخارج، دون ندم. لكنني كنت أتابع مساره الإبداعي في الكتابة والتنشيط الثقافي، وكنت سعيدا لأنه استطاع أن يشق طريقه بثبات، قبل أن أفاجأ بالخبر الصاعق. مع التجارب والعمر، أعتقد أن هناك مهنتين في المغرب يجدر بالشباب أن يبتعد عنهما: الصحافة والكتابة. الأولى تؤدي إلى الغرامات والسجن، والثانية إلى التهميش والموت بطريقة عبثية. الكتابة في المغرب مهنة بئيسة، عليك ألا تأخذها على محمل الجد، وإلا انتهيت في مصحة عقلية. حقوق التأليف مجرد مزحة. أصلا لا أحد يهتم بما تكتب، حتى لو كنت همنغواي أو بودلير. لا الناشر ولا القارئ ولا الإعلام. الناشر لا تعنيه إلا تجارته، أن يحقق مصالحه ويضع النقود في جيبه. الإعلام غارق في مستنقع آخر، والمكتبات آخر همها الكتاب الأدبي. مأساة حقيقية يعيشها الكاتب في المغرب. حتى أشهر المبدعين وأكثرهم مبِيعا تضيع حقوقهم. وزارة الثقافة تدعم الناشرين كي تشجع سوق الكتاب، لكن معظم هؤلاء لا يجدون في العملية إلا وسيلة للاحتيال على الأموال العمومية، باسم الكاتب والكتاب. يضعون الدعم في حساباتهم وينشرون نسخا قليلة، لا يوزعونها أصلا، ولا أحد يحاسبهم نظرا لغياب آليات المتابعة والمراقبة. الأنكى أن الأموال العمومية المرصودة للكتاب، هزيلة جدا إذا ما قورنت بالملايين التي تصرف على السينما والمهرجانات الموسيقية مثلا، ومع ذلك تجد من يطمع في لهفها وترك الكتاب على الرصيف. قَدرُ المبدع أن يقضي عمره في الاحتجاج على النصب والتهميش وسوء المعاملة، وأن يموت في النهاية بائسا ومنسيا، كأنه لم يكن، إذا لم يصعقه «ميكرفون» معطل تحت خيمة بلّلها المطر.. رحم الله محسن أخريف، الكتابة والصحافة في المغرب «حصانان خاسران»!