بمجيئ ترامب في ولايته أولى وبعودته الثانية لرئاسة أقوى دولة، عاد العالم لمرحلة الاستعمار التقليدي المباشر، ومسح كل بنود الأعراف الديبلوماسية، وأدخل حرارة المنظمات الدولية وعلى رأسها الأممالمتحدة لثلاجة التاريخ بكل قراراتها حول القضايا الشائكة في العالم، وكان الفيتو الأمريكي كسيف "داموقليدس "مسلط على كل قرار يصدر من المنتظم الدولي ليرديه قتيلا. وهكذا وبعقلية السمسار العقاري صار ينظر للعالم على أساس أنه "مجال حيوي " تماما كما كان ينظر هتلر للعالم الذي وثقه في كتابه "كفاحي" والذي يرى فيه هذا الديكتاتور، الذي رماه التاريخ في مزبلته، أن من بين أهدافه هو إمكانية "منح الأمان مكان تحت الشمس" فهذا المشهد لا يختلف عن المشهد الذي صرنا نعيشه بتفرد الولايات المتحدةالأمريكية بالقرار العالمي بعد انشغال روسيا بحربها مع أوكرانيا لإثبات وجودها على الحدود الغربية المحاذية لأوروبا، وشعورها بالتهديد الأمريكي، والضغط على الصين المهتمة أساسا بالتفوق الاقتصادي بحكم اعتباره أنه أساس الصعود لقمة العالم والتحكم في السياسة الدولية ، غير أن الولايات المتحدةالأمريكية والفكر السياسي المتقاسم بين الحزبين الحاكمين الجمهوري والديموقراطي ، والمخترقين من قبل القوى الاقتصادية التي تتحكم فيها جماعات الضغط اليهودية اليمينية ،استطاعت أن تؤسس قاعدة سياسية تقوم على الهيمنة العسكرية المباشرة ، للتوسع والاستثمار وخلق مجالات حيوية ، وما تصريحات " ترامب" الأخيرة حول "كري لاند" و"باناما " قناة السويس والمرور المجاني "وكندا" وأخيرا وليس أخيرا "غزة " إلا واحدة من خرجاته التي لن تقف هنا ، بل سنشهد في المرحلة هاته ما يمكن تسميتها بعودة الاستعمار المباشر ، بعد أن عشنا مرحلة الحرب الباردة خلال تواجد القطبية الثنائية ومرحلة انهيار الاتحاد السوفياتي وصعود التنين الصيني الاقتصادي ومقارعته الزعامة الاقتصادية مرحليا مع الولايات المتحدةالأمريكية ،ثم جاءت مرحلة العولمة التي كانت عبارة عن استحواذ الولايات المتحدةالأمريكية على الأسواق بعملة الدولار التي اكتسحت العالم مما دفع دول اسيا الى إقامة منظمة "البريكس "في محاولة لتقليل الأثر المالي لعملة الدولار الأمريكي واستبداله بوحدة نقدية تحفظ للدول المنضمة لهذا التجمع الاقتصادي على استقلالها الاقتصادي وفرض وجودها في السوق العالمي بعيدا عن الهيمنة الأمريكية . ومعلوم أن العلاقات الدولية منذ الأزل كانت الحروب بين المجتمعات طابعها، فصارت تلك الحروب وسيلة من وسائل الحصول على الأهداف حينما تتعثر الدبلوماسية والمفاوضات للتوصل لتلك الأهداف ولتلك المصالح الوطنية التي تسعى الدول المتنازعة، الحصول اليها، لذا أصبحت البشرية في تواصلها بين الحرب والسلم تتأرجح العلاقات فيما بينها، والحروب كما يصنفها العسكريون والاستراتيجيون هي حرب باردة وساخنة، وشاملة ومدنية، وحروب عصابات، وحروب تقليدية وغير تقليدية. ونحن الأن نعيش صعود الحروب المباشرة على شاكلة الحروب التقليدية إلا أن هذه المرة هي حروبا متطورة حيث أن الذكاء الاصطناعي جعلها حروبا وراء الشاشة ومن خلال الأقمار الاصطناعية التي ترصد الإنسان ولو كان في جوف الأرض كما وقع لما تم اغتيال قادة حزب الله وحماس وقادة عسكريين إيرانيين، من قبل الكيان الصهيوني وبدعم تقني من الجيش الأمريكي والبريطاني. إن الحروب في ظل القطبية الواحدة دخلت مرحلة جديدة قديمة، جديدة بحكم الأسلحة المتطورة المستعملة، وقديمة بالسبل المتبعة لاندلاع تلك الحروب ما بعد الحرب الباردة، حيث تبدو أنها أصبحت حروبا تقليدية ضمن موجة استعمارية كلاسيكية تجد مرجعيتها في الزمن الغابر الذي سجله التاريخ بمداد الدم البشري ودمار لكل البنيات وخرق لكل القوانين الدولية والإنسانية. وبذلك يمكن القول إن عالمنا اليوم دخل مرحلة عبارة عن عودة التاريخ القريب الذي كان يحمل موجة الاستعمار الكلاسيكي بكل ما يكتنف ذلك من تقهقر البشرية وتدني القيم الإنسانية وسواد العنصرية والكراهية ، وهذا الاستعمار بالذات عاد بكل ما مضى مع تنقيحات تجعله أكثر تطورا من حيث دقة الفتك لأنه يستعمل الذكاء الاصطناعي وكل المعلومات للتدمير ولا شيء غير التدمير ، ويجد هذا الاستعمار الكلاسيكي ركيزته في الإيديولوجية الرأسمالية المتوحشة وغير العقلانية والمجردة من الأخلاق والمبادئ الإنسانية والتي تتبع غريزة حيوانية هدفها الأساس هو الاستغلال الذي تقوم به قوة سياسية لتراب وثروات ليست ملكا لها ولا تشكل جزءا من ترابها الوطني بل تقضمه من تراب دولة أخرى تعتبرها متخلفة اقتصاديا أو تكنولوجيا وحتى ثقافيا ،حسب منظورها ، وبالتالي فالاستعمار بصفة عامة وفق "فريديريك كوبر" هو بالأساس سببه " سياسة الاختلاف " أي أن عنصر الاختلاف في جميع الأصعدة ، بما فيها من نمط العيش، والاعتقاد الديني والفكري، التقاليد ، العرق، كل هذا يلعب دورا في تلك العملية التي تحرك الفكر الاستعماري ليندفع للبحث عن مستعمرات أينما كانت ، ألم تكن بريطانيا الإمبراطورية التي استعمرت تقريبا كل القارة الأسيوية وكندا وأستراليا وأجزاء من القارة الإفريقية وجزء كبير من الشرق الأوسط ،وكما وصفتها جريدة " كاليدونيان ميركوري" سنة 1821 بالإمبراطورية التي "لا تغيب عنها الشمس ،" واليوم هذا الدور ورثته الولايات المتحدةالأمريكية لأنها نتاج ذلك الفكر الاستعماري الذي لا يقيم وزنا للآخرين ولا يهتم بتقتيلهم وتعذيبهم وتشريدهم للوصول للهدف الاستراتيجي للقوة السياسية- الاقتصادية ، التي تسعى للهيمنة والسيطرة على خيرات البلد الضعيف عسكريا ،والملاحظ أن الدول المستعمرة(بكسر الميم) تقع في شمال الكرة الأرضية والدول المستعمرة (بفتح الميم)في جنوبها . لذا نجد اول المستعمرين تحت مسميات مختلفة (حماية، انتداب، وصاية إدارية، سيطرة مبشرة) هم من البيض ذوي الأصول الأوروبية وتعود أسلافهم إلى الشعوب الأصلية لأوروبا والشرق الأوسط، وشمال أفريقيا. وهذه الحملة الاستعمارية كانت في القرون الماضية سارية المفعول وبصفة واضحة ومعلنة بين الكيانات المجتمعية مما أدى الى حروب في مناطق متعددة وأبرزها الحربين العالميتين، وهكذا عرف العالم أفظع مظاهر القتل والإبادة الجماعية للبشر، استعملت فيها كل أنواع الأسلحة المتطورة آنذاك والمدمرة حسب التطور الزمني والتكنولوجي. الى درجة استعمال السلاح النووي المدمر للإنسان وكل كائن حي ، وها نحن أمام حروب إقليمية هنا وهناك قد تتوسع لباقي بقاع العالم لأن تاريخ الحروب عرف ظاهرة الحرب منذ القديم مما يمكن تفسير ذلك بأن الإنسان دوما كما قال الفيلسوف "طوماس هوبز" يمر من مرحلة الطبيعة الى مرحلة المدنية ، ومن مرحلة الخوف الى مرحلة الرغبة ، لذا فالإنسان يعتبر ذئبا لأخيه الإنسان كما يعتقد هذا الفيلسوف الإنجليزي ، في كتابه " التنين" وهكذا لابد لفهم الإمبريالية والعنصرية كما يقول إدوارد سعيد فلا بد من فهم "نظام الفكر الغربي " هذا الفكر الذي يرتكز على "سياسة تقوم على التوسع في الأرض وشرعنته" وبالتالي فأن أسس تلك الفلسفة التي يقوم عليها هذا الفكر الغربي تعطي الضوء الأخضر للدول الإمبريالية الغربية الحق في تدمير المجتمعات "غير المتحضرة " ومن هنا تنطلق كل الأسس والمبررات التي تعفي العالم المتحضر" من المساءلة سواء في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أو المحكمة الجنائية الدولية محكمة العدل الدولية . من هنا يمكن التقرير أن الدول الغربية تجد في كل مواقفها تجاه شعوب الجنوب المتخلفة تدخل ضمن "إنقاذهم من التخلف الشرقي " ومن هنا أيضا جاء كل هذا التحامل العنصري الذي يركب قاطرة العنصرية والكراهية في تبرير حرب الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني على يد كيان مركب من مجتمع خليط الأصول ولا يجمعه إلا الانتماء للفكر التلمودي المرتكز على الكراهية والعنصرية تجاه كل عنصر غير يهودي، والهادف الى التوسع في الشرق الأوسط ومحو آثار وجود هذا الشعب الذي يشهد له التاريخ أنه استقر على هذه الأرض ، وبالتالي لا يمكن اقتلاعه منها بحكم أن اليهود كانوا في هذه الأرض أيام مصر الفرعونية ،وعلى أساس هذا المنطق وجب تغيير كل خرائط العالم وفق هذا النهج ولا أحد لن يجد موقعه على هذه الأرض (غرابة التفكير ونذالته). وعليه فبعودة "ترامب" دخل العالم في مرحلة جديدة سماتها زعزعة السلم العالمي واضطراب الأمن العام للدول، لأنه رجل يحمل ويختزل كل طموحات العنصرية والكراهية لغير العرق الأبيض، لكل المجموعات المنتشرة بأمريكا وأوروبا الغربية. وبذلك ستعرف السياسة الخارجية الأمريكية تغييرا عميقا وملحوظا في تناول الملفات الجيوسياسية العالمية وحل القضايا المستعصية في الشرق الأوسط وأوكرانيا والمواجهات الصينيةالأمريكية وأيضا مستقبل اروبا الدفاعي وعضوية الولايات المتحدةالأمريكية في الحلف الأطلسي. ففيما يخص قضية الشرق الأوسط الأساسية وهي قضية الشعب الفلسطيني، فالولايات المتحدة هي خليفة بريطانيا صاحبة فكرة توطين اليهود في فلسطين ووعد بلفور 1917. ومنذ ذلك الوقت توالت النكبات : 1948 وحرب 6 أيام التي هزمت فيها كل الجبهات العربية وأحراق المسجد الأقصى 1967 بعد كل هذا المسار التاريخي للصراع ، وضع العرب كل البيض في سلة أمريكا، فتوالت الرحلات المكوكية بين واشنطن والعواصم العربية بدون الحصول على شيء ، بل تم التراجع على كل المكتسبات . وهكذا استمرت الدبلوماسية الأمريكية هي البوابة الوحيدة التي ينتظر منها خروج حل يفك عقدة الصراع العربي الفلسطيني، إلا انه مع الاستنزاف الديبلوماسي الأمريكي وتخاذل الأنظمة العربية ، إذ أن هذه الأخيرة التي لم تر مصلحة لاستمراريتها في المواجهة ، تراجعت وابتعدت عن مواقفها التي كانت نسبيا ثابتة مثل الالتزام بإقامة دولة فلسطينية ، بعدما كانت راديكالية ،وكان مؤتمر الخرطوم حاسما وحازما في موقف الدول العربية بإعلان اللاءات الثلاث: "لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بإسرائيل " الى أن اصبح اليوم العرب يهرولون للتطبيع مع هذا الكيان بخطى حثيثة ، لأنه كما قال إدوارد سعيد المثقف المتبصر والذي كان مستشارا لعرفات ثم استقال لما وقف على أن العرب ومنظمة التحرير الفلسطينية تتجه نحو ما وصفه "بدمج منظور المستعمر(بكسرالميم) في ذات المستعمر(بفتح الميم) بحيث يصبح غير قادر على فعل أي شيء دون وصايته ودعمه" ويضيف ان امريكا اخترعت جملة " عملية السلام" ولم يكن هناك سلام بالشرق الأوسط بل استعمار دائم يتوسع باستمرار اتباع سياسة القضم قطعة تلو أخرى وعليه تم احتلال العراق وتقسيم اليمن والسودان ، وتدمير سورياولبنان وإشغال الشعوب الأخرى بمشاكل وقضايا هم في غنى عنها (المغرب والجزائر وقضية الصحراء مصر وقضية سد النهضة مع إثيوبيا ، السعودية واليمن) لقد غيرت الولايات المتحدة وجه الصراع في الشرق الأوسط بحيث جعلته كله يتمحور حول بقاء إسرائيل في أمان وازدهار ، ولو أدى ذلك الى الإبادة الجماعية لشعوب المنطقة ، وها هي قدا بدأت بمحو ما تبقى من الشعب الفلسطيني بعد 76 عام من القتل الوحشي وتدمير كل ما هو إنساني في الإنسان بدون مراعاة لا للقوانين الدولية ولا لقرارات الأممالمتحدة التي أصبحت منظمة ملحقة للولايات المتحدة وتابعة لها وحتى لو اتخذت قرارا لا يراعي وجود إسرائيل فالنقض هو مصيره.وها هو لبنان تحت السيطرة الفعلية للإسرائيل دون احترام يذكر للاتفاق المبرم برعاية أمريكا وفرنسا ، كما أن سوريا وهي في بداية لململة وجودها بعد أكثر من 12 سنة من الدمار من قبل الأسد الذي جعل من سوريا مقبرة لشعب بكامله ، ها هو الكيان الصهيوني ينقض على هذه الثورة الفتية في مهدها لتبقى سوريا بلا دفاع عن سيادتها وعن كرامتها ويظل الشعب السوري يعيش في عصر بدائي تابع للهيمنة الإسرائيلية ، وهذا كله لم يشف غليل الكيان الحاقد والعنصري وعينه الإجرامية على ايران وتدمير محاولاتها لبناء اقتصادها وقدراتها الدفاعية ، لتكون إسرائيل لوحدها بالمنطقة الآمرة والناهية . إزاء هذا الواقع السياسي الذي تشكل فيه أمريكا الدركي العالمي الوحيد بعدما خلى لها الجو العام بانشغال روسيا بالحرب الأوكرانية، والصين، بتأني دبلوماسيتها وعدم الاجترار للاندفاع الأمريكي، حتى لا تعرض شعبها للحرب مدمرة يكفيها أن تواجه حرب التنمية والازدهار الاقتصادي لتتمكن من بعد الدخول في حلقة أخرى يمكن من خلالها مواجهة أمريكا إذا ما التحمت بها كثيرا. إن العالم اليوم أصبح على صفيح ساخن اجتمعت فيه كل عوامل اندلاع حرب عالمية ثالثة، والتالي يكفي أن تشتعل شرارة أخرى هنا أو هناك ليدخل العالم بأسره في دمار لن يبقي ولا يذر، حرب لا تكون كباقي الحروب لأن الذكاء الاصطناعي سيكون حاضرا بقوة وبالتالي فالدول المتخلفة ستمحى من الكرة الأرضية وإن كانت دوما غير مرئية ولم تؤخذ بعين الاعتبار في حسابات القوى العالمية، إلا كضحية تنهب منها الثروات الطبيعية واستغلال شبابها كيد عاملة بأرخص الأجور. واستعمال أراضيها كقواعد عسكرية، تسلب منها سيادتها وهي متفتحة الأعين. ألسنا اليوم أمام هجمة القوة الكبرى على الدول الضعيفة، ألا يسمى هذا استعمارا مباشرا في منطق الاستراتيجيين العسكريين الجدد؟ أم هو عودة للاستعمار الجديد القديم .