جرت العادة أن يكتب الأدباء والمثقفون عن الأشخاص المرموقين، سياسيين ورياضيين، علماء ومثقفين، غير أنه في هذه التجربة نجد أن عبداللطيف وهبي، ابن بيئة سوس بعبق رائحة الأركان، اختار الكتابة على رموز بسيطة وسط الشعب وبخاصة وسط جهة سوس، لها ذلك الحضور الجميل في حياة الناس مقابل غياب كلي في الواجهة العامة التي تغري السياسيين، لما لهذه النماذج الإنسانية البسيطة من قدرة كبيرة على اختزال قيم إنسانية تتجاوز محورية حب الذات. شمس حارقة تتوسط كبد السماء حين أوقفت السيارة أمام المقهى الموجود خارج القرية على سهل فسيح، تحده جبال الأطلس الكبير الشاهقة وآثار نهر قديم قد جف ماؤه. بجانب الطريق بني المقهى البسيط تؤثثه بعض الكراسي المتناثرة والموائد المتهالكة التي تناثرت عليها بقية آثار الطعام، وقد بدا أن عنصر الزمن أنهكها. سحبت كرسيا خارج المقهى لعلي أجد مفرا من الحرارة التي تجثم على تفاصيل المكان. خرج شاب من بين الموائد المهترئة، وعلى وجهه ابتسامة ترحيب واهتمام قائلا: “مرحبا بمرشحنا”. بادلته التحية مقرونة بابتسامة، ودون مقدمات أخبرني أن الحاج الحسين والحاج عبد لله كانا هنا، وقد سألا عني وسيعودان بعد قليل. ثم سألني إن كنت أرغب في شرب كأس من الشاي، أومأت برأسي موافقا، فمن يجرؤ على أن يمتنع عن شرب شاي تالوين بالزعفران الحر؟ جلست على الكرسي تحت ظل حائط المقهى نائيا بنفسي قليلا عن حرارة خانقة ليس للإنسان فحسب، بل ربما حتى بالنسبة إلى الذباب والحشرات التي لجأت إلى الداخل لتحتمي من لهيبها متنقلة بين الموائد. وغير بعيد عني يحتمي كلب بظل شجرة، تقيه لفح الشمس، وعلى مرمى من العين يظهر حمار يحمل أثقالا يبدو أنه عائد من رحلة تسوق مستبقا صاحبه الذي يتبعه بخطى حثيثة، فهو يعرف طريقه وتكفيه «نغزة» من صاحبه لينطلق دون توقف حتى تخوم الديار. بقيت للحظات أتأمل ما يحيط بي قبل أن ينتزعني من هذا المشهد صوت محرك سيارة مقبلة من مسلك ترابي من جهة يمين المقهى، وسط عاصفة من الغبار، تتجه نحو المقهى لتقف ببابه، ترجل منها الشخصان اللذان كنت أنتظرهما، هما الحاج الحسين والحاج عبد لله، شخصيتان غريبتان، رجلان نحيفان تجاوزا السبعين من العمر لا يفترقان إلا عند غروب الشمس، ينتقدان أحدهما الآخر طوال اليوم، يتساجلان ويتناقشان بصوت مرتفع، مخطئ من يفسر هذا المظهر بالعداوة، بل إن المعنيين يجدان في ذلك متعة وتسلية تزيد متانة صداقتهما وأخوة جمعت بينهما لأزيد من سبعين سنة، فانتقاد أحدهما الآخر لا يتوقف أبدا، بل يصل إلى حد التفكه والهزء في نوع من السخرية الممزوجة بصدق الصداقة وعمق العلاقة، سلما عليّ كعادتهما ثم جلسا، نادى الحاج الحسين النادل: هات برادا من الشاي، لكن لا تجهزه أنا من سيفعل. ابتسم الحاج عبد لله وأشار إليّ بإشارة سريعة مخاطبا صاحبه وهو يغمز بعينيه: نريد أن نشرب الشاي، ولكن بمذاقنا نحن وليس بمذاقك المعطل، فقد بلغت من العمر عِتيا ولم تعد تفرق بين الأذواق؟ ضحك الجميع، يبدو أنهما شرعا في الاحتكاك من جديد، فهذه عادتهما. بعد تناول الشاي وكِسرة من الخبز التقليدي الممزوج بزيت الأركان، نبهنا الحاج الحسين إلى حلول وقت صلاة العصر وأن علينا أن نقوم للوضوء والصلاة، توجهنا جميعا نحو مكان مرتفع قليلا، حيث توجد بعض الأوعية البلاستيكية مخصصة للوضوء، حمل كل منا وعاءه المملوء بالماء، وبعد الوضوء ابتعدنا قليلا عن البئر ونزعنا أحذيتنا فأقام الحاج عبد لله الصلاة، بينما أم بنا الحاج الحسين، أحسست بوخز الحجارة الصغيرة في ركبتي وجبهتي وصعوبة في الجلوس عليها خاصة عند التشهد، بينما لم يكن يبدو أن الآخرين يكترثون لذلك. فقد تعودوا على ذلك، بينما يصعب علينا نحن فقط، جيل كراسي المدارس والجامعات ومكاتب مؤسسات الرباط. بعدما أنهينا الصلاة والدعاء، عاد الجميع إلى المقهى إلا الحاج الحسين، فقد تأخر في الدعاء، وبقيت واقفا أنتظره تلفحني حرارة الشمس الحارقة، عندها قال الحاج عبد لله بنبرة غضب تخفي شيئا من السخرية: إنه دائما يتأخر في الصلاة لأنه رئيس جماعة يطلب من لله المغفرة عن المال العام وأموال الجماعة التي يكون قد التهمها ! أنهى الحاج الحسين جلسة الدعاء ووجدني أضحك. فسألني: ما بك يا أستاذ؟ حدثته عما قاله الحاج عبد لله، وأضفت أنه قال لي، كذلك، لقد أخبرته أنك لما كنت بمكة المكرمة تؤدي فريضة الحج ورأيت الكعبة الشريفة أول مرة، اغرورقت عيناك بالدموع. وهل أخبرك عن السبب؟ يقول الحاج الحسين. أجبته: صراحة قال لي السبب ولن أخبرك به. وبعدما ألح عليّ أجبته: قال إنك بكيت بسبب ذنوبك الكثيرة، إذ كنت تلتهم أموال المجلس القروي ! زاد الحاج عبد لله الذي كان واقفا بجانبي مبتسما: نعم قلت ذلك، أما أنا فذنوبي أقل لأني لا مسؤولية جماعية عليّ. فرد عليه الحاج الحسين مبتسما: حسبي لله فيك. ضحك الجميع وتوجهنا نحو السيارة. اقترح عليّ الحاج الحسين أن نذهب اليوم لزيارة الحاج إبراهيم فقيه المدرسة العتيقة، تحفظت في الذهاب لأننا في زمن الانتخابات، وسيعتقدون أنني أوظف هذه الأمور في الانتخابات. رد علي الحاج عبد لله: من العيب ألا نزور الرجل وقد كان من أعز أصدقاء والدك رحمه لله، ثم إنه يسأل عنك دائما.