في سابقة من نوعها في تاريخ الملوك والسلاطين العلويين، يخلد المغاربة عيد العرش هذه السنة من دون أي أنشطة ولا مراسم أو احتفالات مرتقبة، وهو الواقع الذي فرضه فيروس "كورونا" المستجد، نظرا إلى التدابير الاحترازية المتخذة في إطار حالة الطوارئ الصحية بالبلاد، دون أن يستطيع إسقاط مقولة "العرش بالشعب والشعب بالعرش" الشهيرة، التي تثبت بما لا غبار عليه المكانة المقدسة والعلاقة القوية للمغاربة بعيد العرش وما يمثله من رمزية تاريخية ووطنية في أذهانهم. وكان الملك محمد السادس، قد أمر منتصف الشهر الجاري بتأجيل جميع الأنشطة والاحتفالات والمراسم، التي كان مرتقبا أن تقام تخليدا لهذه المناسبة الوطنية ذات الرمزية القوية في أذهان المواطنين الذين يستحضرونها في ال31 من شهر يوليوز من كل سنة، بعميق الافتخار والاعتزاز والتلاحم، وتوقد في نفوسهم تحفيزا للذاكرة وشحن الهمم وتعزيز الروح الوطنية عند الأجيال المتعاقبة. وسيفتقد المغاربة هذه السنة جميع الأنشطة والاحتفالات التي كان مرتقبا أن تقام بمناسبة عيد العرش، بما فيها حفل الاستقبال الذي يترأسه عاهل البلاد، وحفل أداء القسم للضباط المتخرجين الجدد من مختلف المدارس والمعاهد العسكرية وشبه العسكرية والمدنية وحفل تقديم الولاء، إلى جانب "طواف المشاعل" الذي ينظمه الحرس الملكي، فضلا عن كافة الاستعراضات والاحتفالات التي يحضرها عدد كبير من المواطنين. ولهذه المناسبة، سيوجه الملك محمد السادس، اليوم الأربعاء، خطابا إلى الشعب، وسيبث على أمواج الإذاعة وشاشة التلفزيون، كما سيترأس حفل استقبال رمزي في الثلاثين من الشهر الحالي بمناسبة الذكرى الحادية والعشرين لعيد العرش. ويعتبر القرار الملكي القاضي بتأجيل احتفالات عيد العرش وإلغاء الاستعراضات العسكرية، فضلا عن حفل الولاء، بحسب ما كشف عنه باحثون ومؤرخون تواصلت معهم "أخبار اليوم"، سابقة من نوعها في تاريخ الملوك العلويين، وهو ما أكده، أيضا، المؤرخ المصطفى بوعزيز، الذي ثمن هذا القرار الذي يأتي في سياق أزمة وبائية عالمية، واصفا إياه بالموقف "السليم والمنطقي"، الذي تفرضه التدابير الوقائية والاحترازية التي تدخل في إطار حالة الطوارئ الصحية التي سنها المغرب. وشدد بوعزيز في تصريحه ل"أخبار اليوم"، على أن قرارا من هذا النوع يقضي بإلغاء الاحتفالات الوطنية بمناسبة عيد العرش أو تجديد البيعة والولاء لعاهل البلاد، هو سابقة في تاريخ الملوك العلويين في العصر الحديث، ذلك أن الملوك الأولون في المغرب لم يكونوا يحتفلون بعيد العرش أو بالولاء والبيعة قبل الملك محمد الخامس، بحكم أن البيعة كانت تُقام مرة واحدة هي أثناء تولي العرش بعد وفاة السلطان، أي في فترة الخلافة بطرق تقليدية معروفة في ظل غياب وسائل الاتصال الحالية، من خلال تنقل السلطان عند القبائل أو قدوم هذه القبائل إلى السلطان من أجل تقديم البيعة وجلب الهدية". وأورد المؤرخ في سياق حديثه أن عيد العرش في شكله الحالي هو في الحقيقة "اختراع للوطنيين المغاربة"، بحيث أن قصة عيد العرش بدأت في عام 1933، حيث جرى الاحتفال به لأول مرة أثناء الاحتلال الفرنسي للمغرب وكان صاحب الفكرة رجل من أصل جزائري مقيم بالمغرب وهو محمد الصالح ميسة، مدير مجلة "المغرب" التي كانت تصدر من الرباط آنذاك، وكان يدخل في إطار استراتيجية سياسية لكسب السلطان وتحسين أوضاع المغاربة ثم بعدها المطالبة بالاستقلال". ولم تكن المناسبة الأولى لعيد العرش مجرد احتفال بتنصيب ملك، بل أرادها الوطنيون المغاربة وقتها، مناسبة وطنية بكل ما تحمله الكلمة من عميق المعنى لإظهار مدى التفاف الشعب حول الملك، كما يقول مستشار الملك الراحل الحسن الثاني، عبدالهادي بوطالب، في وصفه لأول احتفال بعيد العرش عام 1933 في مدينة فاس "كان المهرجان الوطني الشعبي الأول الذي تعقده الحركة الوطنية المغربية بالمدينة". من جانبه، يقول المؤرخ بوعزيز بهذا الخصوص: "في 18 نونبر 1933 سن الوطنيون، الاحتفال بعيد العرش ضدا في الحماية الفرنسية وإثباتا لالتحامهم بسلطانهم، بل إنه حتى السلطان نفسه إلى آخر لحظة حتى علم بالموضوع، بحيث قدمت العائلات الوطنية في فاس وقتها، وأخذوه للاحتفال بهذه المناسبة، وهو نفسه المعني بالأمر كان في حالة تساؤل حول ماذا يجري". ومنذ عام 1934 بدأ الاحتفال بهذه المناسبة يأخذ طابعاً رسمياً ومؤسساتياً، وفي هذا السياق يقول عبدالهادي بوطالب: "... فعيد العرش الذي فرض الشعب المغربي على الحماية الفرنسية إعلانه عيداً قومياً أصبح عيد تحدي الوطنيين للاستعمار الفرنسي، الذي أخفق في محاولة عزل السلطان عن شعبه ورعيته، مثلما فشلت تدابير قمع هذا الاستعمار في محاولة إقبار الحركة الوطنية في مهدها". بوعزيز عاد إلى استحضار مسألة إلغاء احتفالات عيد العرش أو حتى تقديم الولاء عند الملوك أو السلاطين العلويين سابقا، مشددا على أنها ومنذ 1933 "لم تحظر من قبل"، باستثناء إلغائه قصرا في فترة الحماية ما بين 1953 و1955 بعد إقالة السلطان سيدي محمد بن يوسف ونفيه في 20 غشت واستبداله ببنعرفة، هذه هي الفترة الوحيدة التي لم يحتفل فيها المغاربة بعيد العرش رسميا، باعتباره ملغيا في غياب السلطان الشرعي للمغاربة، ورفضهم للسلطان الذي فرضته السلطات الاستعمارية". وتابع بوعزيز قائلا: "وقتها تحول الاحتفال بعيد العرش إلى تحدي للاستعمار، وكان المغاربة الوطنيين يحتفلون يوم 18 نونبر بعيد العرش، وهو تاريخ تولي الملك محمد الخامس الحكم، وتجلى احتفالهم المستمر خلال تلك الفترة في رفع الأعلام الوطنية وإن كان في غياب الملك المنفي، وبالتالي، كانوا يعرضون أنفسهم للاعتقال والتنكيل من طرف السلطات الاستعمارية الفرنسية التي كانت معترفة بسلطان آخر، بما معناه أنه كان احتفالا نضاليا بالدرجة الأولى". ويقول المؤرخ أنه وبعد سنوات العودة الأولى للسلطان من المنفي، احتفل المغاربة في 16 نونبر 1955، فيما 17 نونبر خرجوا في مظاهرات عنيفة للمطالبة بالإعلان عن استقلال المغرب، وفي 18 نونبر كان يحتفل بعيد العرش المعهود للسلطان الذي قدم بعد عودته من المنفى خطابا كبيرا في نفس اليوم، وبالتالي، أصبحت هذه الثلاثة أيام كالتالي: 16 عيد العودة، و17 عيد انبعاث الأمة و18 نونبر عيد العرش تسمى "الثلاثة أيام الخالدة"، وكانوا فعلا ابتداء من 1955 إلى 1961 لحظات الاحتفال الشعبي العميق الذي تشارك فيه كل شرائح المجتمع من مختلف أنحاء المغرب إلى جانب المؤسسة الملكية في تلاحم وتشبث تاريخي، نظرا إلى الحمولة المعنوية والعاطفية والتاريخية لهذه الأيام". أما بالنسبة إلى عيد الاستقلال، فكان هو 2 مارس 1956، أي بعد عودة الملك من المنفى بمدة، من شهر نونبر إلى مارس، بحيث جرى التوقيع يومها على وثيقة الاستقلال ليصبح هذا اليوم عيد الاستقلال الفعلي، لكن بما أن الثلاثة أيام الخالدة كانت أساسية لدى المغاربة لم يكن يحتفل بعيد الاستقلال وقتها بنفس القوة الوطنية والتلاحم. وهكذا ظهر عيد العرش وتواصل سنويا كعيد رسمي تتزامن ذكراه مع تولي الملك الجديد عرش أسلافه، بحيث أنه و"بعد تعيين الحسن الثاني في 3 مارس 1961 ملكا، أدمج 2 مارس معه وأصبح بدوره يحتفل بثلاثة أيام 2 و3 و4 مارس بزيادة الاحتفال بالولاء"، ثم بعدها جرى حذف 2 مارس، نظرا إلى قوة الأيام الثلاثة الخالدة في نونبر، وبالتالي، تحول عيد عرش السلطان سيدي محمد بن يوسف إلى عيد الاستقلال، أما من الناحية التاريخية فعيد الاستقلال هو 2 مارس"، يقول المؤرخ في تصريحه ل"أخبار اليوم". وأوضح بوعزيز أن احتفالات الثلاثة أيام الخاصة بالملك الحسن الثاني "لم تكن وقتها بنفس التعاطي الشعبي التي كانت عليه الأيام الثلاثة الخالدة الخاصة بالملك محمد الخامس، وبالتالي، الحسن الثاني بعد توليه العرش فرض الاحتفال به إلزاميا وتدور في فلك الملك وكان كل من لم يحتفل يعاقب، وكان الملك الراحل عمليا يعتبر أو يفرض على المؤسسات رفع الأعلام وإقامة الحفلات، وجمع الموظفين أو المستخدمين، في الكليات والجامعات أيضا كان يفرض تجمع العمداء والأساتذة وغيرهم، بمعنى أنه أصبح مفروضا ومختلفا عن السمة الرمزية التي كانت عليه سابقا في الأيام الثلاثة الخالدة الخاصة بالملك محمد الخامس". وعلى عكس العهدين السالفين كانت السمة الغالبة التي أعطاها الملك محمد السادس لهذا الاحتفال "مغايرة"، فبالرغم من محافظته على رسمية الاحتفال بحفل الولاء "لكنه خفف من المظاهر القسرية للاحتفال، بما فيها الأغاني التي كان يفرضها الحسن الثاني على المطربين بمناسبة عيد العرش، وغيرها ليصبح الاحتفال ذو طابع رسمي صحيح، لكن دون طابع إرغامي وإلزامي"، يقول بوعزيز. وشدد المتحدث في تصريحه أيضا على أن "الإلغاء لم يطل أبدا احتفالات عيد العرش من قبل، بل حدث فقط التخفيف منها، نظرا إلى الظروف السياسية التي شهدتها فترة الحماية بعد نفي السلطان، فيما اليوم الوباء يفرض هذا القرار الذي يدخل في إطار القرارات الاحترازية التي اتخذتها الدولة في مواجهة هذا الفيروس، وبالتالي، يدخل في عملية وقائية للسلامة العامة". وردا على سؤال ما يمكن أن يقوم مقام تجديد البيعة والولاء الذي عهد الملوك العلويين إقامته كل سنة، يقول المؤرخ: "الحقيقة لا أعلم ما هو هذا الابتكار الذي ستقوم به الدولة بهذا الخصوص، لكن أرجح أن يتم الأمر عبر برقيات أو غيره"، مضيفا: "من الطبيعي أن يتم إلغاء هذه الاحتفالات، خاصة وأن جميع الاحتفالات الأخرى بما فيها الصغيرة والبسيطة، والتي تعرف تجمعات أو تجمهرات بشرية مثل الأعراس والمآتم كان مصيرها الإلغاء، وبالتالي، من الطبيعي أن تسير احتفالات عيد العرش في الاتجاه نفسه، وهو موقف منطقي ويتجاوب مع الإجراءات الوقائية ضد الفيروس".