طقس حار في العديد من مناطق المملكة اليوم الأربعاء    وقفة تضامن في الرباط تحذر من إبادة إسرائيلية جديدة متربصة بمدينة رفح    سائقو سيارات نقل البضائع بامزورن يؤسسون مكتبهم النقابي    وقفة احتجاجية بالرباط للمطالبة بإعادة فتح معبري رفح وكرم أبو سالم لإغاثة غزة    الملك محمد السادس يتلقى رسالة خطية من الملك سلمان بن عبد العزيز    تفاصيل اختيار الكاف لحكم مباراة بركان والزمالك    غلاء دواء سرطان الثدي يجر "السخط" على الحكومة    المغرب التطواني ينهزم أمام مضيفه نهضة بركان    بوروسيا دورتموند يكرر فوزه على "سان جيرمان" وييلغ نهائي عصبة الأبطال للمرة الثالثة    وفد من حركة "حماس" في "القاهرة"    الملف المطلبي يدفع التنسيق النقابي لقطاع الصحة إلى تفعيل إضراب وطني    طقس الأربعاء.. موجة حر تصل 44 درجة تضرب عدة مناطق مغربية    "الكاف" يعين صافرة سنغالية لقيادة مباراة نهضة بركان والزمالك المصري    وزير الثقافة المالي يشيد بجهود جلالة الملك الداعمة لإشعاع الثقافة الإفريقية    توقيف شخصين بأكادير للاشتباه في تورطهما في حيازة وترويج المخدرات الصلبة    الرباط.. تتويج الفائزين بجوائز القدس الشريف للتميز الصحفي في الإعلام التنموي في دورتها الثانية    توقعات لهبات رياح قوية نوعا ما فوق منطقة طنجة    انطلاق تكوين أساتذة مادة الأمازيغية في السلك الابتدائي بجهة الشمال    باريس سان جيرمان يخطط للتعاقد مع نجم المنتخب المغربي    الداخلية تفتح باب الترشح لخلافة بودريقة في رئاسة مرس السلطان    بنموسى يكشف عن مصير الأساتذة الموقوفين    رئيس روسيا يأمر بمناورات نووية    قتلى وجرحى في هجوم بالصين    الجزائر تعاقب إسبانيا وتوظف ورقتها الضاغطة    مجلس المستشارين يناقش حصيلة الحكومة    بوريطة يستقبل وزير خارجية مملكة البحرين    الاتحاد الآسيوي يوقف حمد الله 3 مباريات    إدارة إشبيلية تحتفي بالمدرب الركراكي    القرطاس تضرب فتيزنيت باش البوليس يسيطرو على مسلح نشر الرعب فالمديمة    وكالة تنمية اقاليم الشمال تعقد مجلسها الإداري ال12    نصف ساكنة السجون المغربية شباب.. وعدد المعتقلين يتجاوز 102 ألفا    حملة بيطرية تختتم "مهرجان الحمار"    المغرب يقتحم الحدود الممنوعة في صناعة السلاح الفتاك    مطار أكادير المسيرة…ارتفاع بنسبة 23 في المائة في حركة النقل الجوي    "غارديان" تكشف مستجدات زياش وتشيلسي    وزارة الداخلية السعودية تعلن تطبيق عقوبة مخالفة أنظمة وتعليمات الحج    تداولات الافتتاح في بورصة الدار البيضاء    وزير الصحة يعلن تسجيل أزيد من 32 ألف حالة مرض سل في المغرب    متلازمة رومهيلد .. مشاكل في القلب تحدث بسبب تراكم الغازات    مناسبة لتأكيد تمسك الأمة بمبدأ الوفاء للعرش العلوي المجيد.. الذكرى الواحدة والعشرون لميلاد ولي العهد الأمير مولاي الحسن    "حماس": 54 شهيدا خلال 24 ساعة في غزة    غلاء ثمن دواء سرطان الثدي يسائل الحكومة    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    احتفاء المهرجان الدولي مسرح وثقافات بسنته ال 20 : كوميديا موسيقية ومسرح أمازيغي وعودة مسرح الحي، لتتويج هذا الاحتفاء    تقرير رسمي: معدل الاكتظاظ بالسجون يبلغ 159% والسجناء قدموا 5153 شكاية خلال 2023    بمناسبة شهر التراث: ندوة في موضوع "دور الرواية في تثمين المواقع التراثية بالقصر الكبير"    تارودانت ربيع المسرح في نسخته الثانية يكرم نزهة الركراكي    فرقة "أتيز" الكورية تتصدر نجوم مهرجان موازين    إحداث أزيد من 16 ألف مقاولة جديدة في المغرب    الأمم المتحدة تحذر من أن مخزونها من الوقود يكفي ليوم واحد فقط في غزة    سلسلة "اولاد إيزا" الكوميدية تثير غضب رجال التعليم وبنسعيد يرد    سيمانة قبل ما يبدا مهرجان كان.. دعوة ديال الإضراب موجهة لكاع العاملين فهاد الحدث السينمائي الكبير وها علاش    "العرندس" يتوج نفسه وينال جائزة الأفضل في رمضان    الدورة الثانية عشر لعملية تأطير الحجاج بإقليم الناظور    الأمثال العامية بتطوان... (591)    دراسة: السجائر الإلكترونية قد تسبب ضررا في نمو الدماغ    السفه العقدي بين البواعث النفسية والمؤثرات الشيطانية    الأمثال العامية بتطوان... (589)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف يمكن دمج حقوق الإنسان في قلب النموذج التنموي البديل؟.. وصايا الCNDH
نشر في اليوم 24 يوم 15 - 08 - 2020

في سياق النقاش حول النموذج التنموي الجديد، خصوصا بعد جائحة كورونا، أعلن المجلس الوطني لحقوق الإنسان عن مذكرة خاصة به، تتضمن تصوره للنموذج التنموي كما ينبغي أن يكون، أي بالارتكاز على منظومة حقوق الإنسان. وقد انطلق المجلس في ذلك من سياقين: سياق خاص يتعلق باستراتيجية عمله المرتكزة على "فعلية الحقوق والحريات" المصادق عليها في شتنبر 2019، وسياق عام مرتبط بالنقاش حول النموذج التنموي الجديد الذي تقوده اللجنة الملكية التي يترأسها شكيب بنموسى.
وقد اعتمد المجلس في إعداد تصوره مقاربة "صاعدة من الأسفل"، حيث جرى تنظيم 12 لقاء جهويا، تناولت التحديات التي تقف أمام فعلية الحقوق، كما استعان المجلس بخبراء وباحثين جامعيين لتدقيق بعض القضايا التي لم تتناولها اللقاءات الجهوية، علاوة على انفتاح المجلس على أهم الممارسات الفضلى التي تبلورت في سياقات دولية مختلفة ممن نجح في بناء استراتيجيات تنموية قائمة على حقوق الإنسان.
وفي ضوء ذلك، بلور المجلس تصوره انطلاقا من مقاربة "فعلية الحقوق"، وهي مقاربة تفيد أن المغرب راكم قدرا معتبرا من المكتسبات القانونية، سواء المضمنة في الدستور، أو في الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي صادق عليها أو انضم إليها، وأن التحدي اليوم، هو تفعيل تلك القوانين في الواقع المعيش للمواطنين.
فالمجلس، وهو مؤسسة دستورية، يؤكد، إذن، وجود هوة بين النصوص القانونية والواقع الفعلي للمواطنين، لكن المجلس يُنبّه كذلك إلى أنه لا ينبغي اختزال فعلية الحقوق في البعد القانوني فقط، أي أولوية تفعيل القوانين، بل وجب إيلاء "أهمية قصوى للعوامل غير القانونية"، سواء العوامل الاقتصادية والاجتماعية أو العوامل الثقافية والقيمية والاستدامة. وعلى ذلك الأساس، يمكن اعتبار "الفعلية" مدخلا للحق في التنمية، من خلال جعله في قلب الخيارات الاستراتيجية للمغرب في المرحلة المقبلة، وقد حدد المجلس أربعة مجالات تتداخل فيها حقوق الإنسان بالتنمية: الأساس القيمي لفعلية الحقوق والحريات، الحاجة إلى إعادة ترتيب الأولويات لتعزيز الولوج إلى الحقوق الأساسية، اعتماد مقاربة تنموية مبنية على حقوق الإنسان، ثم تفعيل دور الدولة في تعزيز فعلية الحقوق والحريات إثر جائحة كوفيد 19.
يقترح المجلس، في ضوء تلك المقاربة، تصورا حقوقيا للقضاء على التفاوتات المجالية والاجتماعية، ويؤكد أن بإمكان ذلك في ظل دولة اجتماعية قائدة للفعل العمومي، وفق صيغة الدولة الحامية والراعية للحقوق، التي توفق بين أدوار التنظيم والتقنين والتحكيم، وبين الأدوار التدخلية للدولة الاجتماعية، لأن التحدي الأكبر في نظر المجلس هو "إعادة بناء سياسة الدعم العمومي الموجه للفئات الهشة لحمايتها من التهديدات التقليدية التي أصبحت مختلف دول العالم عرضة لها أكبر من أي وقت مضى، كما جسد ذلك جائحة كوفيد 19.
جسر الهوة بين القانون والواقع
تنطلق مذكرة المجلس من ملاحظة جوهرية، وهي وجود هوة بين القانون والواقع، تحول دون تفعيل القوانين في واقع الناس، بالشكل الذي يجعل من تلك القوانين ضمانات قوية لحماية فعلية للحقوق والحريات في الواقع المعيش للناس. ومن تجليات ذلك، مثلا، أن النمو الاقتصادي الذي تحققه الدولة يفتقر إلى العدالة في التوزيع، ما أدى إلى اختلال في التوازن بين وتيرة نمو الثروة، رغم محدوديتها، وبين عدالة توزيعها بين الفئات والمناطق، الوضع الذي يعزز باستمرار من التفاوتات المجالية والاجتماعية، وقد سجّل المجلس أن تلك التفاوتات أضحت "المصدر الأساسي للتوترات الاجتماعية التي عرفها المغرب خلال العقدين الأخيرين"، في إشارة إلى الاحتجاجات التي عرفها المغرب خلال العقد الأخير على الأقل، ومنها حراك الريف وجرادة في 2017.
وتستدعي هذه التفاوتات، بحسب مذكرة المجلس، "إعادة النظر في التوجهات السوسيو اقتصادية الحالية، بما يجعل التنمية وسيلة لتكريس فعلية حقوق الإنسان في المغرب، ويسمح بتقليص حدة التفاوتات التي تغذي التوترات الاجتماعية".
التحدي الآخر، بحسب المذكرة، يتعلق بضعف البعد الحقوقي للسياسات التنموية، وهي الخلاصة التي تزكيها عدة مؤشرات؛ منها ارتهان السياسة العامة للدولة للإكراهات المالية التي تفرضها ضرورة الحفاظ على التوازنات الماكرواقتصادية للدولة، إضافة إلى ضعف النفس الاستراتيجي البعيد المدى في أغلب السياسات العمومية الاجتماعية. أضف إلى ذلك تعدد الفاعلين والبرامج والسياسات، وضعف الالتقائية والتكامل بين هذه المكونات، وضعف ثقافة تقييم السياسات العمومية مما يصعب قياس نتائجها، التي ظلت في معظمها مرتهنة لمنطق الحاجيات بدل الحقوق، مما يجعل تأثيرها في تقليص الفوارق بكل أنواعها محدودا.
ثمة مؤشر آخر يعزز من الهوة القائمة بين القانون والواقع، يتمثل في "انحسار" قيم الديمقراطية والمواطنة والسلوك المدني، وتشير المذكرة بشكل محتشم إلى ما سمته "استمرار بعض النزوعات المشككة في منظومة قيم الحقوق والحريات والديمقراطية كخيار لا رجعة فيه"، وذلك إلى جانب "الحضور المحتشم للمكتسبات الحقوقية في مؤسسات التنشئة الاجتماعية"، سواء في البرامج الاجتماعية، والإعلام، والفضاء العمومي بشكل عام. لكن دون تدقيق في الجهات التي تتحمل المسؤولية.
وقد رصدت المذكرة عنصرا آخر يتمثل في الترابط بين "التدهور المستمر للمحيط البيئي للإنسان، وبين تزايد رقعة الفقر واستفحال التفاوتات في الولوج إلى حقوق الإنسان الأساسية". ولكون التهديدات المرتبطة بالبيئة تعد عابرة للحدود، يرى المجلس أن مواجهتها تتطلب تطوير آليات التعاون والعمل المشترك مع المحيط الإقليمي والدولي.
إذن، هي مجموعة من العوائق التي تحول دون فعلية الحقوق والحريات، تستحضر وجود مشككين في جدوى منظومة الحقوق والحريات، يمكن أن يكونوا من داخل الدولة أو في المجتمع، لكنها تنفتح على إكراهات أخرى، مالية وبيئية واجتماعية، يرى بأن لها دورا في الهوة القائمة بين القانون والواقع، أي في الحد من فعلية الحقوق، باعتبارها شرطا لتحقيق المواطنة.
الطريق نحو فعلية الحقوق والحريات
تؤكد المذكرة أن أي مقاربة حقوقية للتنمية ينبغي أن تتأسس على وعي عميق بأن التوترات التي تطبع أحيانا علاقة المجتمع بالدولة تعود بالأساس إلى التحولات العميقة التي طرأت على الذهنيات وأنماط التفكير لدى فئات من المجتمع المغربي، خلال العقود القليلة الماضية، نتيجة عوامل عدة منها: الانفتاح المتزايد على العالم، الانتشار الواسع لوسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي، الانتقال الديمغرافي، ارتفاع معدل التمدن، وهي تحولات أدت إلى ارتفاع منسوب الوعي لدى الإنسان المغربي، وإلى حدوث تحولات متسارعة على مستوى منظومة القيم المؤسسة لعلاقة الفرد بالمجتمع بشكل عام، وطريقة تمثل الفرد للعلاقة مع السلطة والدولة.
ولعل النتيجة المباشرة التي تترتب على هذه التحولات "الانبثاق التدريجي للمواطن كذات حقوقية أمام الدولة"، فالمجلس يعتبر أن تزايد النزعة النقدية تجاه السلطة والدولة وانتشار ثقافة الاحتجاج بتعبيرات تقليدية وأخرى جديدة، هي نتيجة منطقية لولادة المواطن ولثقافة المواطنة بالمغرب.
وعليه، وجب دعم فعلية الحقوق كضرورة يقتضيها العقد الاجتماعي الجديد، الذي هو قيد التشكل بين الدولة والمواطن، وخصوصا تكريس البعد التعاقدي، بما يحيل عليه من إقرار أكثر فعلية للحقوق والحريات، سيساعد على إعادة إنتاج المقومات المادية والرمزية للنموذج المغربي، كون استمرار تدني مستوى فعلية الحقوق والحريات يشكل تهديدا حقيقيا، ليس فقط، لهذا النموذج، بل للاستقرار والتماسك الاجتماعي للمجتمع المغربي.
من أجل ذلك، يقترح المجلس تبني مقاربة استباقية في حماية تعزيز الحقوق والحريات، وذلك من خلال تجاوز المقاربة المبنية على الحاجيات في معالجة القضايا التنموية، واستبدالها بمقاربة استباقية قائمة على تخطيط علمي يسمح باستباق توقع المشكلات قبل وقوعها. والمدخل إلى ذلك، عدم السماح بتراكم الخصاص والعجز في ولوج المواطنين لحقوق الإنسان الأساسية كالتعليم والصحة، قبل أن يبادر الفاعلون والمؤسسات المعنية لمعالجتها.
علاوة على المقاربة الاستباقية، يلح المجلس على أهمية الوعي بالتداخل بين حقوق الإنسان والتنمية، الأمر الذي يتطلب إحداث قطيعة مع التصور التقليدي للحقوق والتنمية معا، ويحدث ذلك بتخليص مفهوم التنمية من كل نزعة اقتصادوية عبر توجيه الاهتمام للعوامل غير الاقتصادية للتنمية، وعلى رأسها العامل الحقوقي من جهة، ومن جهة ثانية، تخليص مفهوم حقوق الإنسان من هيمنة النزعة المعيارية وجعله في قلب معادلة التنمية في بعديها المتعلقين بإعادة إنتاج الثورة وإعادة توزيعها.
ولعل تحقيق هذا الهدف يكون باعتماد مقاربة حقوقية وطنية للتنمية منفتحة على التجارب الناجحة في العالم، ومستلهمة للمبادئ الواردة في إعلان الأمم المتحدة حول الحق في التنمية، ويعتبر المجلس أن المبادئ الستة الأساسية الواردة في الإعلان الأممي بمثابة مداخل لدعم فعلية الحقوق في البديل التنموي المنشود في المغرب، ولعل أهم تلك المبادئ "جعل الإنسان محور التنمية الرئيس، باعتباره فاعلا فيها ومستفيدا منها".
وتمثل التقائية الفاعلين والبرامج والسياسات أحد التحديات في تصور المجلس في دعم مقاربة فعلية الحقوق والحريات، وهو التحدي الذي يمكن رفعه عبر التفكير في سبل وآليات مبتكرة لرفع تحدي الالتقائية بين مختلف الفاعلين والبرامج والسياسات على المستويين العمودي والأفقي.
المدخل القيمي لدعم فعلية الحقوق
إن تجاوز الاختلالات السابقة الذكر يستدعي، حسب المجلس، "اعتماد سياسات عمومية ذات طابع إجرائي ملموس، وذات أثر قابل للقياس". فإذا كان المجلس يعتبر أن ضعف فعلية الحقوق والحريات يبقى مرتبطا بتحولات نظام القيم في المجتمع المغربي، فإن دعم وتعزيز فعلية الحقوق يبقى مشروطا بتصحيح وإعادة بناء العلاقة بين الاختيارات التنموية من جهة، والقيم الأساسية للمجتمع من جهة أخرى.
وعليه، فإن دعم فعلية الحقوق في النموذج التنموي يقتضي استحضار منظومة من القيم المتعددة بتعدد أبعاد العلاقة بين التنمية وحقوق الإنسان. وفي هذا الصدد، أكد المجلس على أربع قيم أساسية هي: الحرية، المساواة، العدالة والتضامن.
اعتبر المجلس قيمة الحرية قيمة مركزية تشترط كل القيم الإنسانية الأخرى، بحيث إذا غابت الحرية تتحول باقي القيم، مثل العدالة والمساواة والتضامن، إلى "مجرد شعارات فارغة ولا معنى لها"، إذا لم تتعلق "بمجتمع حر يتمتع أفراده بالحرية". ليست الحرية مجرد قيمة فلسفية، بل هي شرط للتنمية، ولا غرابة أن تتجه النظريات الاقتصادية إلى الربط بين الحرية والتنمية في هذا السياق.
وإذا كان الدستور المغربي قد رسخ عددا من الحريات، فإن التحولات المجتمعية السارية تفرض، في تصور المجلس، "بذل المزيد من الجهد، سواء على مستوى الاختيارات الاستراتيجية للدولة، أو على مستوى السياسات العمومية، في اتجاه ردم الهوة بين النصوص والواقع، بما يضمن مزيدا من تكريس الحريات العامة والفردية في الواقع المعيش".
القيمة الثانية تتعلق بالمساواة باعتبارها إحدى القيم المؤسسة لفكرة حقوق الإنسان، نظرا لتميزها بالطابع العرضاني الذي يجعل منها شرطا قبليا للاستفادة من الحقوق والحريات المنصوص عليها في القوانين والتشريعات الوطنية والدولية. إن تعزيز فعلية الحق في المساواة يتطلب في نظر المجلس "يقظة وعملا مستمرين سواء على مستوى تجويد الترسانة القانونية أو على مستوى السياسات العمومية، أو على مستوى انخراط الفاعلين غير الدولتيين".
يشير المجلس إلى أن الإصلاحات المؤسساتية والدستورية في المغرب قد مكنت المغرب من إحراز تقدم على صعيد المساواة، ويتجلى ذلك بالأساس في إصلاح قطاع العدالة والمنظومة الأمنية، لكن رغم ذلك، فإن واقع المساواة وعدم التمييز لايزال يواجه عدة صعوبات، وهو ما ترصده تقارير عدة مثل تقرير "الفجوة الجندرية" الصادر سنة 2019، الذي وضع المغرب في المرتبة 137 من أصل 149 دولة شملها التقرير.
كما أن المغرب يسجل تقدما في بعض المؤشرات مثل المشاركة والفرص الاقتصادية ومؤشر التحصيل العلمي، لكن بالمقابل يواجه هذا الحق صعوبات مثل مؤشر التمكين السياسي ومؤشر الصحة والقدرة على البقاء.
بخصوص قيمة العدالة، وبناء على التشخيص السالف الذكر حول التفاوتات الاجتماعية والمجالية التي أصبحت مصدرا للعديد من التوترات، والتي تتمظهر في مجموعة من التعبيرات الاجتماعية الجديدة، هو ما يدعو إلى نظام اجتماعي أكثر عدلا. يتصور المجلس أن قيمة العدالة ينبغي أن تصبح خيطا ناظما للاختيارات الاستراتيجية للدولة، وأن تشكل قيمة موجهة للسياسات العمومية.
فالعدالة من وجهة نظر حقوقية تنظر إلى التنمية من منظور نوعي وليس كميا، إذ لا يهم عدد المستفيدين من التنمية، بل تحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي للناس. إن غياب العدالة النوعية هو أحد الأسباب الرئيسة للفجوة التي تفصل بين الإمكانيات الكبيرة التي يمكن رصدها للسياسات العمومية الاجتماعية وبين نتائجها على الأرض.
تتعلق القيمة الرابعة التي يلح عليها المجلس بقيمة التضامن، وهي قيمة أساسية تستند على مقومين أساسيين: فهي تعبر عن وحدة مصير الأفراد من جهة، ومن جهة أخرى، يولد لديهم تلقائيا، الرغبة في التعاون والتآزر والتكامل فيما بينهم لمواجهة التحديات وتذليل الصعوبات.
يعد كوفيد 19 أكبر مؤشر على وحدة مصير البشرية وأكبر دليل على الحاجة إلى تكريس قيمة التضامن بين المجتمعات البشرية لمواجهة التهديدات الوجودية التي ستواجهها في المستقبل. وتقتضي تلك التحديات "تجاوز النظرة الإحسانية لفكرة التضامن، وهو ما يقتضي القطع مع المنظور الخيري للتضامن، والتعامل معه كحق من حقوق الإنسان".
ترتيب جديد للأولويات
انطلاقا من مقاربة فعلية الحقوق، واستنادا على الأساس القيمي السالف الذكر، يقترح المجلس إعادة ترتيب للأولويات في اتجاه تعزيز الولوج لحقوق الإنسان الأساسية. وفي هذا السياق ينوه المجلس بالجهود التي قامت بها الدولة على امتداد العقدين الماضيين، سواء في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية أو برامج مؤسسة محمد الخامس أو البرامج القطاعية الحكومية، كونها مبادرات وبرامج ساهمت في تحسين أوضاع الناس، ويرى أن التفكير في محاربة الفقر ينبغي أن ينطلق من تقييم جديد وشامل لهذه البرامج بغرض ترصيد إيجابياتها والعمل على تجاوز ثغراتها.
ويتصور المجلس أن محدودية تأثير البرامج والمبادرات المذكورة يجد تفسيره في هيمنة المنظور الاقتصادي للفقر، وهو ما يؤدي إلى حجب العوامل غير الاقتصادية التي تلعب دورا أكبر في إنتاج ظاهرة الفقر، علاوة على اعتماد تلك البرامج على منطق المساعدة والإحسان، وليس على المنطق الحقوقي. صحيح أن تلك البرامج تعمل على التخفيف من حدة الفقر، لكنها تبقى ذات أثر محدود في الحد والتقليص منه. إن الفقر هو خرق لحقوق الإنسان وينبغي التعامل معه على هذا الأساس، وهو الحق في التنمية.
انطلاقا من ذلك، يؤكد المجلس أن النموذج التنموي الجديد ينبغي أن يرتكز على إعادة بناء للأولويات، بما يجعل الإنسان منطلقا للتنمية وغاية لها، ويعني ذلك تخصيص العشرية المقبلة 2020-2030 للنهوض بحقوق الإنسان الأساسية، خصوصا تكثيف الجهود في مجال النهوض بالحق في الصحة والحق في التعليم.
ويدعو المجلس إلى جعل التعليم والصحة أولويات قصوى ستنعكس إيجابا على باقي الحقوق الأخرى، وقد تساهم بشكل كبير في تقليص التفاوتات المجالية والاجتماعية، على اعتبار أن النهوض بهذين الحقين يمر بالضرورة عبر سياسات عرضانية ذات تأثير إيجابي غير مباشر على جميع الحقوق الأخرى.
التنمية المبنية على حقوق الإنسان
يميز المجلس بين مستويين في تناول حقوق الإنسان في صلتها بالتنمية؛ المستوى الأول كوني، فالأساس القيمي الذي يؤكد على الحرية والعدالة والمساواة والتضامن التي يقترحها لتؤطر الاختيارات والتوجهات الاستراتيجية الكبرى في مجال التنمية، هي قيمة بأفق كوني، غير أن إعمالها في شكل إجراءات وتدابير ملموسة يبقى مشروطا بالسياق المحلي لكل مجتمع.
لذلك يقترح المجلس مقاربة تنموية دامجة لحقوق الإنسان على مستويين: مستوى الاختيارات الاستراتيجية للدولة من جهة أولى، ثم مستوى السياسات العمومية، من جهة ثانية. ويلح بأن تكون القيم الحقوقية السالفة، أي الحرية ولعدالة والمساواة والتضامن، محددة بل أحد ثوابت الاختيارات الاستراتيجية للدولة المنصوص عليها في الفصل 49 من الدستور.
على مستوى السياسات العمومية، فإن المجلس يقترح صياغة السياسات اعتمادا على المقاربة المبنية على حقوق الإنسان المعروفة بمبادئ PANEL وهي: المشاركة، المساءلة، عدم التمييز، التمكين والشرعية.
ويضيف المجلس إلى هذا الاقتراح، بداعي التكامل والملاءمة بين الفكر الحقوقي الكوني ومتطلبات السياق المحلي، مقترحين آخرين هما يتعلق أحدهما بالجانب الثقافي والقيمي، ويهم الآخر الجانب المتعلق بالاستدامة.
تتطلب المشاركة الحقيقية إشراك الناس في القرارات التي تؤثر في تمتعهم بحقوقهم. وينبغي أن تكون المشاركة فعلية وليست نظرية شكلية، مما يستدعي رفع كل الحواجز والعوائق التي قد تحول دون تحققها.
كما يلح المجلس على مبدأ المساءلة والمحاسبة، ويؤكد على ضرورة تفعيله عبر إرساء نظام رقابة فعلي لمدى احترام معايير حقوق الإنسان، وإيجاد حلول مبتكرة وفعلية لمعالجة الخروقات. مع إرساء منظومة قانونية ومؤسساتية ومساطر إدارية خاصة لتقويم الممارسات المخلة بمعايير حقوق الإنسان.
أما المبدأ الثالث، فهو المساواة وعدم التمييز، ويتأسس على حملة من العناصر منها الحرص أثناء إعداد وتنفيذ السياسات العمومية على تفادي محاربة كل أشكال التمييز بين الناس، سواء أكان التمييز على أساس الجنس أو اللغة أو السن أو العرق أو الانتماء المجالي، وإعطاء الأولوية للمناطق الأكثر هشاشة، وإيجاد وسائل مبتكرة لتمييزها إيجابا كوسيلة لإنصافها.
وتلح مذكرة المجلس، كذلك، على المدخل البيئي، من خلال الدعوة إلى تغيير طريقة التفكير في القضايا البيئية في علاقتها مع الإنسان والتنمية، إذ لم يعد مقبولا التعامل مع مسألة الحق في بيئة سليمة كترف، بل كأولوية قصوى، ليس بوصفها حقا من الحقوق فقط، بل باعتبارها شرطا للاستفادة من الحقوق الأخرى، ورهانا أساسيا لتحقيق التنمية المستدامة. وبخصوص المدخل الثقافي والقيمي، تشير مذكرة المجلس إلى أن أهم الدروس المستخلصة من تجربة الإصلاح في المغرب، وفي تجارب أخرى مشابهة، هي محدودية دور القانون في النهوض بأوضاع الحقوق والحريات، وعليه ينبغي الاعتراف أن سن القوانين والتشريعات وإحداث المؤسسات هو أمر ضروري، لكنه يبقى غير كاف لتحقيق التغيير المنشود.
ويعتقد المجلس أن "نظام القيم السائد والمعادي في جوانب كثيرة منه لقيم حقوق الإنسان يتميز بقدرة كبيرة على مقاومة الحمولة الإصلاحية للمؤسسات والقوانين". ويوصي المجلس بإعادة الاعتبار للبعد الثقافي والقيمي في النقاش حول فعلية الحقوق، من خلال التفكير في أنجع السبل لتمكين مؤسسات التنشئة الاجتماعية والسياسية من الاضطلاع بدور أكثر فعالية في تكوين مواطن متشبع بثقافة الحقوق والحريات.
ويخلص المجلس إلى أن جائحة كورونا أعادت التأكيد، مرة أخرى، على أن الإنسان هو محور التنمية، وأن كل إنجاز على المستوى الاقتصادي يبقى هشا إذا لم يتأسس على محورية دور الإنسان فيه، مؤكدا أن الجائحة أبانت أن التفاوتات في الولوج إلى الحقوق الأساسية والفقر والهشاشة الاجتماعية تشكل عائقا حقيقيا أمام جهود الدولة بمختلف مؤسساتها لمواجهة الجائحة. ولتجاوز هذا الوضع، يقترح المجلس الاستمرار في ورش إصلاح الدولة، باعتبارها دولة استراتيجية، منفتحة على كافة الفاعلين غير الدولتيين في الفعل العمومي، وأن تظل الضامن الأساسي لولوج المواطنين للخدمات العمومية بصرف النظر عن طبيعة الفاعلين.
كما يقترح المجلس إرساء نظام جبائي عادل ومتضامن، من أجل تعزيز حقيقي لفعلية الحقوق، كون الضريبة باتت مسألة حقوقية كذلك، تقتضي المساواة والعدالة والتضامن والتناسبية في تحمل تكاليف تنمية البلاد أو الأعباء الناجمة عن الآفات والكوارث الطبيعية التي يؤكد عليها الدستور.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.