إن فورة من النشاط تعلن عن ذاتها حاليا بالريف المنضوي تحت سلطة إسبانيا، وللتدقيق فإن صحفيا إنجليزيا هو السيد : جورج ورد برايس ، من صحيفة ” دايلي ميل ” إنتهى منفردا من اتمام جولة بالريف المتمرد. وقد كان مغمورا بالسعادة لكونه أستقبل من طرف الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي بقيادته العامة، ذلك الأمير الذائع الصيت والمجسد لروح المقاومة ضد إسبانيا، بدون شك، ومنذ ان إنطلق الصراع ، أول من اخترق هذا البلد المغلق يتذكر قراءنا ربما الصور التي نشرناها في عددنا ليوم 19 غشت 1922 والتي كانت تمثل إحداها المقابلة التي جرت بين صحفي إسباني هو السيد : م.لويس دو اوليزا مدير ( la libertad ) ، والقائد الريفي الكبير بمعقله بأجدير، حيث كان يوجد حينها أسيرا الجنرال نافارو ومجموعة من الضباط أثناء مهاجمة مليلية في السنة الفارطة. وقد انجزنا، بضع أسابيع بعد ذلك بكثير، أيام 2 و 9 سبتمبر ، وصفا مسهبا مرفقا بصور عديدة لرحلة صحافي، فرنسي هذه المرة، هو السيد : جان تاييس : ” في اعماق الريف المجهولة ” ، ويمكننا ان نذكر أيضا ، بالإقامة التي تمت عند الريسوني من طرف مستكشفة إنجليزية جسورة هي السيدة : روزيتا فوربس التي نشرت باعدادنا لأيام 15 و 29 ديسمبر 1923 . بيد أن هذه السوابق لا تنقص أبدا من قيمة الوصف الذي قام به السيد جورج ورد برايس الذي كان يتواجد بمقربة من عبد الكريم الشهر الفارط، والذي نقل بالتالي من هنالك انطباعات تتميز كلها بالجدة وحداثة العهد، في الوقت الذي كان فيه الطيارون يطيرون من باريس إلى بغداد خلال يومين، وهي الرحلة التي اعتبرها كل السياح تنقلا مبتذلا، رحلة ، إزاءها، كان اجدادنا سيترددون طويلا . لا زالت هناك أيضا بالقرب منا كل القرب بلدان لم تتم زيارتها إلا لماما وبالكاد. لسنا في حاجة مطلقا للذهاب للبحث عنها في اقاصي آسيا أو في الأجزاء المجهولة من البرازيل، فهناك ، على سبيل المثال، المناطق الداخلية بألبانيا، وهناك أيضا ما هو أكثر قربا، ولو أن ولوجه صعب، أي الريف: منطقة الجبال والسهول القاحلة هاته التي تمتد على الساحل الشمالي لغرب أفريقيا ، إنني اعرفهما معا ، ولكن الريف هو الذي يروقني أكثر لأنه الأقل تلوثا بالحضارة الحديثة . فكما نجده اليوم ، كان كذلك منذ عشرة قرون، مع فارق بسيط وهو أنه بدل ان يقاتل الريفيون بالسيوف وأسنة الرماح يستخدمون اليوم البندقية الرشاشة ببراعة. إنهم يدينون لها ” البندقية” بكونها حفظت لهم فعلا وحتى الساعة إستقلالهم. قانونيا، ليس من حقهم ذلك، مادامت المعاهدات الدولية التي عقدت سنة 1904 و 1912 خصت إسبانيا بمنطقة الريف الشمالية، ومنذ ذلك الحين شن الإسبان حربا دون هوادة لإخضاع جبليي الريف العنيدين، هؤلاء الذين بتمردهم الدائم على سيادة سلطان المغرب، لم يصدقوا ضرورة تغيير سلوكهم عندما فوض هذا الأخير ” السلطان ” السيادة للحكومة الإسبانية. لقد بسط الإسبان سلطتهم على الأطراف الشرقيةوالغربية لمنطقتهم، أما في الوسط، فإن عبد الكريم هو الذي يهيمن بشكل مطلق على نصف مليون ريفي ، مستندا إلى جبهتي قتال . إذا لم ناخذ بعين الإعتبار الظروف المحلية، فإننا يمكن أن نندهش لكون زعيم من الأهالي استطاع أن يصمد مقاوما بهذا الشكل منذ مدة طويلة جيشا ذا قوة حديثة، لكن عبد الكريم يمتلك امتيازا أقصى بالنظر للمنطقة التي يدافع عنها، فمنطقة الريف الشمالي عبارة عن تشابك بين الجبال غير القابلة للإختراق تقريبا، جبال مكسوة بأدغال سميكة، في حين أن الجنوب مشكل من سهول قاحلة ، بدون ماء ، حيث تزويد المراكز بالمؤونة بمساعدة من الجيران الجبليين مهدد بالإنقاع. إنه البلد النموذجي لممارسة حرب العصابات، والصعوبة الكبرى بالنسبة لعبد الكريم تتمثل في الحصول على الذخيرة. إلا أنه ليس في حاجة كبيرة إلى كميات هائلة منها بالنظر إلى نوع الحرب التي يباشرها، إظافة إلى ذلك، فالريفيون استخلصوا منها احتياطات هائلة على حساب الإسبان غذاة الهزيمة التي ألحقوها بهم عام 1921 . وأيضا، رغم محاصرة عبد الكريم بين الأسطول الإسباني الذي يؤمن إقفال السواحل ، وجبهتي القتال وتخوم المنطقة الفرنسية التي تغلق في وجهه ولوج طريق المسلك الجنوبي، فإن عبد الكريم في احسن حال إلى الآن وعندما رأيته في الشهر الماضي بقيادته العامة أكد لي بأنه يستطيع أن يصمد لمدة طويلة من الزمن. إن الذهاب لزيارة عبد اللكريم ليس” مع ذلك” محاولة هينة، فكل أولئك الذين استشرتهم بخصوص الذهاب إليه لم ينصحوني بذلك. بمدريد ابتدأت بمساءلة الجنرال بريمو ذي ريفييرا، رئيس مجلس الإدارة، عما إذا لم يكن يرى مانعا في محاولة صحافي أجنبي القيام بهذه المغامرة. ” لا مانع ، اجابني، لكنك ستواجه مصاعب عديدة، لن تستطيع معها تجاوز خطوطنا . لم يكن ذلك بالضبط مخططي، ففي طنجة التي حللت بها بعد ذلك، لم يكن خليطها السكاني أكثر تشجيعا من الجنرال ، فقد أكدوا لي أن طريق ولوج الريف عبر البحر، مراقب بصرامة من قبل الطرادات ومضادات المدمرات الإسبانية التي أغرقت مؤخرا جدا قاربا سيارا مستقلا من طرف مهربين من مهربي الذخيرة. بالرباط، أعلنت سلطات الحماية عن رفض بات لكل طلب بالدخول لمنطقة الريف من جهة النفوذ الفرنسي، والخواص الذين أسررت لهم بمشروعي، جعلوني أقشعر خوفا عندما وصفوا لي ، من منظورهم الخاص، الطريقة التي يستقبل بها الريفيون الأوروبيين الذين ساقهم حظهم العاثر للتيه في أراضيهم، فهم يقيدون أيديهم بسلك من النحاس، أو يتم الإحتفاظ بهم في السجن وتحميلهم معاملة قاسية فوق طاقاتهم إلى أن يؤدوا فدية كبيرة، وأهون ما يمكن ان يصيبك هو تلقي رصاصة في الظهر من قاطع طريق طامع في الإستيلاء على فرسك. بيد أن هنالك، لحسن الحظ، عناية إلهية بالصحافيين، فلا شيء من ذلك وقع لي، بل العكس، فبعد أولى حركات المفاجأة والحذر، وهي أشياء طبيعية لدي شعب علاقاته العادية مع الغرباء محدودة في ساحة القتال فقط، استقبلت في الريف بلطف تام وعناية أكبر . ذلك لأنني نجحت بعد عشرة أيام من الإستعدادات السرية في الوصول إلى الريفيين خفية، مرتديا لباسا ريفيا ومقادا من طرف مرشدين من أهل البلد . إن العبور ليلا، من ملوية رأسا، شكل أحد العوائق الكبرى التي صادفتها. وفي التراب الريفي، كانت مضايقات السفر من طبيعة جد ودية، فقد أوقفتني بسرعة على مزية اللباس الريفي المتمثلة في تمكين من يلبسه من هرش جلده امام الملأ بدون أن يراه احدا ، فالقمل الريفي محب لوطنه، لانه ينقض على الغريب المهاجم بضراوة وشراسة مرعبين. لزمتنا ثلاثة أيام من السير للوصول إلى القيادة العامة المتقدمة لعبد الكريم الذي كان يوجد على بعد كيلومترين أو ثلاثة وراء الجناح الأيسر لجبهته الغربية. كنا نسير ثماني ساعات وأحيانا عشر ساعات في اليوم عبر أراض جافة كنا لا نرى فيها إلا قطعانا ناذرة من الخرفان في ملك رعاة فقراء، كانت المجموعات الصغيرة لخيامهم السوداء الواطئة تتجمع عند أقدام الهضاب. إن هذه الدواوير المبعثرة جد معرضة لهجومات الطيارين الإسبان الذين يمطرونهم بالرشاشات أويرمونهم بالقنابل .وأكثر ما أثارني في هذه المنطقة من الريف كان هو جمال النساء اللواتي قابلتهم ، لقد كن سافرات غالبا وهن يقدن عربات حنطور لمباشرة العمل المتمثل في جلب المياه. لقد كن ذوات شعور سوداء فاحمة لماعة، مظفورة في ظفيرتين طويلتين مسترسلتين على الأكتاف ، مشيتهن رشيقة، وسحناتهن ذات نظارة طبيعية ، ولهن بالخصوص ألحاظ مذهلة رائعة، تحدق فيك عندما تواجهك في الطريق بمزيج من حب الإستطلاع والغنج . بعد منطقة السهول هاته، بلغنا الجبال التي تغطي كافة شمال الريف، علوها تقريبا 1500 مترا، والمعابر الوحيدة التي تخترقها هي المجاري الجافة للسيول المائية. ورغم مصاعب المرور كنا نلاقي دائما وباستمرار قوافل من الجحش محملة خصوصا بالدخيرة الموجهة للجبهة. كل الرجال بدون استثناء، حتى أولائك الذين يرعون أغنامهم بهدوء يتقلدون بنادقهم، إن لديهم وجوها تنم عن الذكاء، لكنهم عموما يلبسون خرقا قذرة وينتعلون خفاف من القش ( صفراء تبنية ) . لقد كانوا يقصدون الجبهة زرافات صغيرة متتالية ، يقودها قائد أو أحد أبنائه ، حيث يطلقون نيرانهم خلال ثلاث أو اربعة أيام لكي يعودوا بعدها إلى مواطنهم، تاركين مواقعهم لمجموعات أخرى مماثلة من قبيلة أخرى . إن تنظيم الحرب عند الريفيين ليس معقدا ، فالمقاتلون يتكلفون هم انفسهم بمؤونتهم، وإذا اصيبوا عالجهم شيخ مسن من عشيرتهم باستخدام الأعشاب وأدوية أخرى . وهم فضلا عن ذلك من طبيعة أشد مقاومة، وذلك لأنهم لا يشربون الخمر أبدا، نادرا ما يأكلون اللحوم ويعيشون معظم أوقاتهم في الهواء الطلق منهمكين في أشغال الحقول الشاقة. وصلت أخيرا إلى حيث يوجد عبد الكريم مركز قيادته ، وقد أسأت – رغم إرادتي- اختيار اليوم المناسب، وذلك لأن الطيارين الإسبان كانوا مصرين منذ الفجر على تدمير المنزل الذي أقام به عبد الكريم مركز قيادته. ومن جهة اخرى كان من السهولة بمكان اكتشاف موقعه، أولا، لأن المنازل ناذرة بالريف، ثم لأن المنزل يتواجد عند منعطف نهر مما يجعله باديا بوضوح، وعلمت أن قائدا قتلته إحدى انفجارات هذه القنابل. الحوار الذي طلبت إجراؤه مع عبد الكريم عين له موعد لاحق بعد يومين من ذلك. وقد تم هذا الحوار في الهواء الطلق في المجرى الواسع للوادي الناشف بالشكل الذي يضمن له عدم الإنقطاع من جراء غارة جوية . إن عبد الكريم الذي يطالب بصفته الأمير المستقل للريف هو رجل في الثانية والأربعين من عمره، متوسط القامة متين، ميال للبدانة. يتفجر الذكاء في نظرات عينيه الدقيقتين الوقادتين، في حركات قسماته التعبيرية وفي رقة ونباهة حديثه. لقد كان يتحدث باللغة الأمازيغية آمرا مترجما شابا بترجمة كلامه إلى اللغة الفرنسية، لكنه أحيانا يعيد ذكر ما فاه به باللغة الإسبانية. خلال تسع سنوات بالفعل، من 1912 إلى 1921 كان عبد الكريم يعمل موظفا بمليلية، فقد كان مستخدما في مكتب الشؤون الأهلية، وكان بهذه الصفة يحرر القسم الأمازيغي من الجريدة الإسبانية المحلية. وبعد الحرب العالمية الكبرى فقط غادر مليلية وترأس حركة الريف المقاومة للإستعمار وقد توجت حركته التمردية بعد ذلك بانتصار ذي بال، إذ هدد خلال ثلاث أو اربعة أيام بالإستيلاء على مليلية ذاتها، باعتبارها القاعدة الإسبانية المركزية بالريف. استولى على غنيمة عسكرية، أكد لي أنها تضمنت 200 مدفع، وأسر 1000 جندي وضابط من ضمنهم جنرال، الأحياء من بينهم هم الذين افتدتهم اسبانيا سنة 1922 بفدية حدد مبلغها في 4.000.000 بسيطة ذهبية. جالسا أمام طاولة صغيرة من خشب أبيض ، مرتديا جلبابا من قماش عادي وعمامة ذات لون أخضر باهت، كان عبد الكريم محاطا ، على بعد خمسين مترا ، بحراسه الخصوصيين، وهم جنود الجيش الريفي والوحيدون الذين يلبسون زيا موحدا ، جلبابا بنيا بالإظافة إلى عمامة زرقاء فاتحة اللون، إنهم شباب مختارون بالنظر إلى قامتهم وبراعتهم في التسديد ، جامدون بلا حراك كثماثيل برونزية، وقد ظلوا كذلك طيلة الحوار الذي جرى بيني وبين زعيمهم . اعلن الأمير عن رغبته في السلام مع اسبانيا، لكن بشرط أن تعترف الحكومة الإسبانية باستقلال اجزاء من الريف ف ” عندما يتعلق الأمر برسم الحدود بيننا نحن في الريف وإسبانيا ، كما قال لي، لن تكون هناك عوالق أو مشاكل من جهتنا. لكننا لن نخضع أبدا للإستعباد الإسباني، وما دامت الإمتيازات الميدانية في جانبنا، فإننا نستطيع الإستمرار في الحرب بشكل لا نهائي وبدون ان يكلفنا ذلك الكثير من المال أو الرجال، في حين أن إسبانيا مكرهة على تقديم تضحيات ضخمة يتوق الشعب الإسباني إلى التحرر منها ” . وأضاف : ” لقد اخبرت الحكومة الإسبانية بأنه في حال ما إذا اعترفت بالإستقلال السياسي لهذا القسم المركزي من الريف ، فسنكون مستعدين للموافقة للإسبان على وضعية تفضيلية في استغلال الثروات المعدنية الهائلة التي يحتويها. ورغم النوايا التوفيقية التي احاطني خاصة عبد الكريم علما بها، استطعت معاينة أنه يهيئ بنشاط تخطيطا لهجومات جديدة. ولما كان الإسبان يفعلون الشيئ ذاته، فإنه من الأرجح أن يشهد الصيف المقبل بالريف معارك أكثر ضراوة من سابقاتها، ولن يعرف السلام طريقه إلى التحقق في النهاية إلا بعد تلك المعارك الجديدة بهذه المنطقة القريبة من أوربا المتحضرة، إلا أن الحرب وإلى الآن مازالت مستمرة في دولة لم تتغير منذ القرون الوسطى. “مجلة أمل” بتصرف