شهدت ستينات القرن المنصرم زخما إبداعيا بشر بنهضة ثقافية حقيقية؛ عندما كانت مجلة «أقلام» مدرسة، ومقر اتحاد كتاب المغرب، مدرسة، ومجلة آفاق مدرسة. كانت مجلة «أقلام» التي كان يديرها القصاص محمد إبراهيم بوعلو لوحدها تمثل مدرسة فكرية ومنبرا لأدباء من مختلف المشارب، وكان المقر القديم لاتحاد كتاب المغرب في شارع علال بن عبد الله حيث يوجد المقر الحالي لوكالة المغرب العربي للأنباء يمثل مدرسة أخرى تعقد فيها الندوات بشكل يكاد يكون يوميا، وكان له اسم معبر هو «دار الفكر»، وكانت مجلة الاتحاد «آفاق» منبرا فكريا وأدبيا، ومدرسة لمن يريد أن ينهل من رياض المعرفة. وكانت الفرق المسرحية تجوب البلاد بعروضها التي تكاد تكون يومية. كانت تلك إرهاصات تَبرعُم المشاتل الأولى لبناء مجتمع المعرفة. فما الذي حدث حتى أُجهض كل شيء؟ ليس السبب فقط في حالة الاستثناء عرف المغرب في سنة 1965، إعلان حالة الاستثناء التي دامت إلى سنة 1970. ولكن على المستوى الثقافي فإن حالة الاستثناء الفعلي لم تبدأ إلا بعد أن أعلن عن نهايتها سياسيا. فقد بدا منذ بداية السبعينات أن هناك رغبة في خلق هوة سحيقة بين النخب المثقفة والمسيسة، وبين العامة؛ عندما تم تلغيم برامج التعليم بإفراغها من أي محتوى فكري أو معرفي، وحصرها في مقررات تقنية محضة؛ حتى في الشعب الأدبية. وتم حذف مادة الفلسفة من التعليم الثانوي بدعوى أنها تعلم الإلحاد؛ بينما الحقيقة أنها تعلم التفكير، هذه البرامج التعليمية الملغومة، جعلت جامعاتنا تُخرج الأميين، أو الذين أطلق عليهم الدكتور المهدي بنعبود رحمه الله لقب «الجُهَّال المُدَبلَمون». وكذلك تم بصفة غير مباشرة تشجيع العزوف عن القراءة، باستعمال وسائل الإعلام الرسمية في خدمة ما أسماه عالم الاجتماع محمد جسوس ب «تضبيع المغاربة»، عوض أن تُستعمل في التوعية وإعداد الإنسان الذي هو الرأسمال الوحيد للمغرب الذي لا يتوفر على بترول ولا ذهب ولا ألماس، ثروته الوحيدة هي المكون البشري الذي عوض تنميته للمتقبل تم «تضبيعه». وتعمد إلى تحجيم دور المسرح؛ لأن له مفعولا سحريا في توعية الناس، وأصبح كل فنان مثقف مشبوها حتى تثبت إدانته؛ وإذا لم تثبت فهو على الأقل مشبوه تغلق في وجهه جميع الأبواب، ويحرم من فرص الإبداع والظهور؛ بينما تفتح الأبواب مشرعة أمام أهل الفراغ الذين يقدمون فنا باهتا بدون محتوى فكري ولا تصور جمالي حقيقي. لم يكن الحكام يطمئنون إلا إلى فرق مسرحية قليلة: فرقة الإذاعة، وفرقة المعمورة، وفرقة الوفاء في مراكش، وفرقة الصديقي بالدار البيضاء. أما باقي الفرق الأخرى فدونها ودون الوصول إلى الجمهور خرط القتاد. لأنهم يعلمون أن المسرح من أهم نتائجه مهما كان؛ هو توعية الناس. عندما تم في نفس السنة تقريبا: حل فرقة «المعمورة»، رغم أنها كانت تتبناها الدولة في شخص وزارة الشبيبة والرياضة، وتم توقف هذه الوزارة عن تنظيم دورات تدريبية صيفية للموهوبين من فرق الهواة، وتم حل فرقة «القناع الصغير» التي كان قد أسسها خريجو قسم المسرح في المعهد الوطني للموسيقى والرقص والفن المسرحي، وتم كذلك إغلاق هذا القسم من المعهد الذي أصبح فقط المعهد الوطني للموسيقى والرقص، وبعد ذلك بقليل تم هدم المسرح البلدي بالدار البيضاء؛ أحس أهل هذا الفن النبيل أن هناك حربا ممنهجة ضد فنهم. وبالفعل لم يكد يبقى هناك إنتاج مسرحي لأكثر من عقدين من الزمن بعد ذلك أو أكثر؛ إلا بعض المحاولات التي يُجهد أصحابها أنفسهم لإنجازها ثم لا يجدون إلى عرضها سبيلا. تمييع الفن في سنة 1986، عندما أصبح إدريس البصري- في سابقة هي الأولى من نوعها في العالم أجمع- وزيرا للداخلية والإعلام؛ وبعد أول لقاء عقده مع الفاعلين في مجالات الثقافة والإعلام في مقر المعهد العالي للصحافة؛ عقد لقاء آخر في مقر وزارة الإعلام بشارع محمد الخامس مع أطر الإذاعة والتلفزة من منتجين ومخرجين؛ وأخذ يتكلم عن الحواجز الوهمية التي تمنع الفنانين والمثقفين من التعبير عن آرائهم بحرية، وتكلم عن نوعية البرامج -الترفيهية طبعا- التي يريدها للإذاعة والتلفزة؛ وأن الباب أصبح مفتوحا للجميع؛ ثم فتح باب النقاش مع الحاضرين، فأخذ الكلمة أحد الحضور وذكر كذلك البرامج الثقافية، فما كان من الوزير إلا أن قاطعه قائلا:»شُوفْ آوْلْدِي؛ النَّاس رَاهْ عْيَاوْ مْنْ الهْضْرَة؛ أْعْطِيوْ للنَّاسْ الريَّاضة والموسِيقى». وبعد ذلك بمدة قليلة فهمنا أي نوع من الموسيقى كان يعني؛ عندما انطلق ما سمي بسباق الأقاليم؛ الذي تم الإنفاق عليه بسخاء ليُبرِز ويعَمِّمَ فن «زِيدْ دْرْدْكْ وْعَاوْدْ دْرْدْكْ». أي أن الغرض كان هو تمييع الفن والثقافة ليصبح في إمكان أي كان أن «يُعيَّن» فنانا على حد تعبير أحمد فؤاد نجم؛ وكأن الفنانين يمكن تعيينهم بقرار وزيري. تعيين المثقفين والفنانين عوض إفرازهم ولكن كل هذا لا يكفي سببا لإجهاض النهضة الثقافية التي بدأت تينع خلال ستينات القرن العشرين. فالسبب الرئيسي لم يكن هذا، ولو كان لوحده لما استطاع أن يُجهض تباشير الحلم الثقافي والفني؛ لأنه سبب موضوعي كان يمكن تجاوزه. إن السبب الرئيسي ذاتي يعود إلى تضافر هذا الجهد التمييعي للثقافة والفن مع جهد آخر كان أبطاله المثقفين أنفسهم؛ عندما سمحوا لأحزابهم بأن تستغل إنتاجهم الفكري والفني كوقود لنار كانت أحزاب المعارضة تريد أن تحرق بها النظام. فأصبح جواز المرور إلى ملكوت عبقر؛ إذا كان هناك وجود لملكوت اسمه عبقر؛ هو أن تكون مناضلا في الحزب. فغاب الإبداع وحضر النضال، غاب الشعر وحضرت الشعارات في شكل قصائد هي أقرب للشعير منها إلى الشعر. بل إن حتى اتحاد كتاب المغرب أصبح من السهل على أي مناضل حزبي أن يجد له مقعدا بين أعضائه بمجرد أن ينشر البحث الذي قدمه لنيل الإجازة مثلا، بينما توضع العراقيل أمام مبدعين حقيقيين ليس لهم دعم حزبي؛ كل هذا حتى يبقى الأعضاء، ليس كتابا حقيقيين أو مبدعين، ولكن قاعدة ناخبة تضمن للحزب الاستمرار في السيطرة على الاتحاد. وهكذا أصبح من يكتبون كلاما لا يفهمه غيرهم، ولا يعتبره إبداعا غير النقاد من مناضلي حزبهم، أصبحوا يُستقبلون في المطارات استقبال الملوك والأمراء. بينما هُمش مبدعون حقيقيون لمجرد أنهم لا يصلحون أحصنة يمكن أن توصل السياسيين إلى أهدافهم. لا أقول إنه على المثقف ألا يكون مسيسا أو أن يُضَمِّن أعماله مفاهيم ذات أبعاد سياسية، أو حتى أن يكون منخرطا في العمل السياسي المباشر؛ ولكن أن يسمح لحزبه باستغلال إبداعه لأغراض سياسية؛ فهذا هو الذي فتح المجال أمام أشباه المثقفين ليحتلوا مقاعد المبدعين الحقيقيين، وسمح بتهميش هؤلاء، وإدخالهم غَيابات جب النسيان، وبالتالي سمح بإجهاض نهضة ثقافية وفنية كان ممكنا أن تينع وتعطي ثمارها.