ثمة حقيقة في محاكمة صدام كان المحتفلون بإذلاله يتناسونها عمداً أو جهلاً، والحقيقة التي نعينها هي أن ما وضع الرجل رهن تلك الأقفاص لم تكن جرائمه في الدجيل أو حلبجة أو أي مكان آخر، بل قوله (لا) للولايات المتحدة في المراحل الأخيرة من حكمه، وهي وحدها الحقيقة التي سيتذكرها الحكام، لاسيما العرب منهم، وليس البعد الآخر ممثلاً في أن الظلم يورد صاحبه المهالك، لاسيما وأن الظلم مرتبط على نحو استثنائي بطبيعة الحكم والسياسة، وإذا قيل إن ذلك لا ينطبق على كل الحكام في الغرب، فإن ذلك لم يحدث بسبب طبيعتهم الشخصية، وإنما بسبب استقرار نمط الحكم وآلياته بعد قرون من الحروب والقتل والدمار، وبعد حقب من إذلال الآخرين ونهبهم لحساب القوى الكبرى ورفاه شعوبها. لا نبرر للحكام ظلمهم، ولا نضعهم جميعاً في سلة واحدة، لكننا نقول ذلك في سياق التأكيد على أن العدالة الإلهية ليست هي من وضع صدام حسين رهين الأقفاص، كما ذهب إخواننا الشيعة الذين تحدثوا عن رب العالمين الذي انتصر لمظالمهم وأذل الطاغية. لو كانت العدالة الإلهية تنفذ أحكامها على الأرض في هكذا حالات لكان شيعة الحكيم والجعفري خير عند الله من الحسين الشهيد، ذلك الذي قتل مظلوماً على يد يزيد وجماعته من دون أن يقتص رب العالمين ممن قتلوه، ولكانوا كذلك أفضل من محمد بن النفس الزكية وشقيقه إبراهيم بن الحسن بن علي بن أبي طالب اللذين خرجا على أبي جعفر المنصور فكانت نهايتها الموت، فيما بقي المنصور سيد الخلافة وأحد أهم رموزها حتى ورّث الحكم لأبنائه. في يوم محاكمة صدام تعرض تمثال أبي جعفر المنصور لمنطق العدالة المؤجل كما يبدو!! فقد بادر من يعتقد أنهم عناصر من القوى الشيعية بتفجير التمثال، ولا يخفى التزامن الواضح بين الحدثين، لكأن هؤلاء كانوا يعلنون من خلال رمزية الفعل أن زمناً آخر يطل على العراق اليوم، إنه زمن محمد النفس الزكية، أو زمن الإمام موسى الكاظم الذي يعتقد أن المنصور هو من قتله بالسم. ما ينساه هؤلاء، ربما جهلاً، أن إمامين كبيرين من أئمة أهل السنة قد بايعا محمد بن النفس الزكية بعد أن نزعا البيعة من المنصور، ودفعا ثمنا باهظاً لقاء ذلك، أعني الإمامين أبو حنيفة ومالك رضي الله عنهما، فهل يغفر ذلك لأتبعاهما أم أن الأعظمية التي نسبت للإمام أبي حنيفة ستبقى النقيض للكاظمية، نسبة للإمام موسى الكاظم، مع أن كلا العلمين قد استهدف من قبل المنصور؟! ما أردنا قوله هو أن الله عز وجل لم يقل إنه سيحاسب الظالمين في الدنيا، بل قال "إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار"، وما يجري للبعض هو جزء من سنن التدافع البشري، ولو خضع صدام حسين للشروط الأمريكية كما فعل من لا يقل عنه ظلماً (تعرفونه بالطبع)!! لكان الآن نزيل أحد قصوره الكثيرة. وبالمناسبة فسؤال من قتل أكثر لا يبدو مهماً هنا لأن الحاكم لا يقتل في غالب الأحيان من أجل المتعة، بل يقتل ويعذب ويسجن على قدر ما يواجه من معارضة وخروج. ربما استحق صدام من زاوية العدالة والإنسانية أكثر مما وقع له، لكن ما تابعناه هو جزء من منطق عدالة الكاوبوي الأمريكي، وليس منطق العدالة الإلهية، ولو طبق المنطق الثاني لرأينا في الأقفاص أسماء وأسماء؛ من المؤكد أن بينهم كثيرون ممن يجلسون في مقاعد الحكم في العراق اليوم، وإلا فمن هو الذي ينفذ عمليات القتل الأعمى في مناطق العرب السنة منذ عامين دون أن تطاله يد العدالة، اللهم سوى ما تزرعه مجموعات المقاومة في خلاياه من مشاعر خوف ورعب!! مشهد سوريالي يعيشه عراق اليوم .. أليس كذلك؟!!