ما هي الخلاصات التي يمكن أن يصل إليها المغاربة إذا أرادوا أن يقفوا عند محطة الذكرى الخمسينية للاستقلال؟. لا شك أنها محطة هامة للتأمل واستخلاص الدروس والمواقف من مسيرة خمسين عاما من البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، أي البناء الشامل للبلاد منذ أن خرجت من الاحتلال الفرنسي، ولكنها أيضا محطة لممارسة النقد على الذات. ثلاث محطات من البناء لقد حقق المغرب خلال مسيرة خمسين عاما الماضية منذ التحرر من الاحتلال الفرنسي الشيء الكثير على مستوى بناء الدولة الوطنية المستقلة، فعندما حصلنا على الاستقلال لم يكن عدد سكان البلاد يتجاوز الخمسة ملايين نسمة، وكان المغرب في حاجة إلى إعادة بناء كل شيء تقريبا، مثله مثل سائر بلدان العالم الثالث التي حصلت على استقلالها في تلك الفترة. لقد قام الملك الراحل محمد الخامس بتحصيل الاستقلال ونهض ببناء الدولة الوطنية، وأرسى قاعدة العمل السياسي التعددي من خلال قانون الحريات العامة عام 1958 الذي كان خطوة لا نظير لها في العالم العربي الذي غرق العديد من بلدانه بعد استقلاله في الاستبداد السياسي وسيادة الحزب الوحيد والخيارات الايديولوجية المتصارعة، أما الملك الراحل الحسن الثاني فقد تابع هذه المسيرة من خلال الدسترة وبناء الشروط الاجتماعية والاقتصادية وإقامة البنيات التحتية للدولة الحديثة، وهكذا كرس أول دستور للبلاد عام 1962 قاعدة التعددية التي سبق وأن أرساها قانون الحريات العامة، ودشن سياسة لبناء السدود وإقامة المنشآت والمؤسسات الدولية، وجعل من المغرب بلدا مؤثرا وفاعلا على المستوى الإقليمي والجهوي، واستكمل الاستقلال الوطني بالوحدة الترابية للمملكة عبر استعادة الأقاليم الجنوبية للمغرب، وقبل رحيله بسنوات قليلة شرع في فك البلاد من أسر الماضي من خلال البدء في طي الصفحات السود، وتدشين تناوب سياسي مع المعارضة. ومع عهد الملك الحالي محمد السادس، دخل المغرب محطة جديدة تركز على البناء الاجتماعي والاقتصادي وتغيير سياسة تدبير شؤون نحو ثلاثين مليون من السكان، في عالم ليس فيه مكان للدولة المتخلفة في سلم التنمية، وتضع ترابطا قويا بين حقوق الإنسان وكرامته وبين الشروط الموضوعية الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها. ولا شك أن ما تحصل خلال هذه السنوات الخمسين كان بفضل تضافر جهود العرش والشعب، وقد أعطى المواطن الكثير من عرقه، وأحيانا على حسابه كما حدث خلال عشرية التقويم الهيكلي للبنك الدولي(1983 1993)، إذ إن المغرب لم يكن من البلدان العربية التي فاضت فيها خيرات الثروات النفطية، وكان عليه أن يعتمد على مقوماته الخاصة. من الاستقلال إلى سياسات التردد الوجه المشرق خلال العقود الخمسة من استقلال المغرب لا يجب أن يحجب عنا الوجه الآخر المقابل، وهذا ما يؤكد على استمرارية البناء ومواصلة التطوير والإفادة من الماضي. فبعد خمسين عاما من الاستقلال لا يزال هناك الكثير من القضايا التي تلفت الانتباه. فالمغرب بدا خلال العقود الماضية وكأنه يسير ببطء شديد، حيث إن الجيل الحالي الذي ولد قسم كبير منه في حقبة ما بعد الاستعمار لا يزال يرى أن معظم النخب المغربية في شتى المجالات لا تزال هي هي ،لم تتغير بعد خمسين عاما، ولا تزال طبيعة التعامل مع التحديات هي ذاتها التي كانت موجودة قبل خمسين عاما مضت، ولا تزال مرحلة نيل الاستقلال هي نفسها التي تمنح المشروعية لرجالات العمل السياسي اليوم وكأن الحنين إلى الماضي يتعارض مع التطلع إلى المستقبل، كما أن معظم زعماء الأحزاب السياسية هم من خريجي تلك الفترة، حتى أصبح شباب اليوم لا يجد ون من يعبر عنهم فباتوا يلجأون إلى أساليب مختلفة للتعبير عن الاحتجاج أو اللامبالاة، مما يلمسه الملاحظ في عزوف الشباب عن العمل السياسي والحزبي بالخصوص، وقس على ذلك ما يحصل في المجال الثقافي والاقتصادي وغيرهما، وهو ما يفسر في ذات الوقت ضعف المردودية السياسية للأحزاب نتيجة تأثرها بخطابات الماضي وعزوفها عن المشاركة السياسية للجيل الحالي في همومه. وهناك ما يمكن أن نطلق عليه سياسات التردد في السياسة المغربية إزاء القضايا والإشكالات التي طرحت بعيد الاستقلال ولا تزال تتمتع براهنية. فإذا أخذنا التعليم مثلا كحالة أمكننا أن نرى فيه نموذجا قويا لسياسات التردد هذه، حيث إن المغرب منذ تشكيل أول لجنة في بداية الستينات من القرن الماضي وإلى يوم الناس هذا لا يزال مترددا في النموذج التربوي والتعليمي الذي ينهجه، ويتخبط بشكل عشوائي بين أشكال مختلفة ومتناقضة من التجريب والاختبار والاختيار دون حسم في أي منها، بل إن دلالة هذا التردد تصبح أشد خطورة إذا ادركنا أن المشروع المجتمعي للدول والأمم يستند إلى النموذج التربوي لها، وأن تردد المغرب في حسم هذا الملف يكشف فقدانه أي مشروع مجتمعي على الإطلاق. وإلى جانب التعليم وفي صلبه أيضا يظهر مشكل التعريب وطغيان اللغة الفرنسية في جميع الإدارات والمؤسسات، ما يعني أننا لم نخرج بعد من تحت المظلة الفرنسية ولم نشرع بعد في السير في المشروع المجتمعي الذي نريده لأنفسنا. نفس الأمر يمكن أن يقال فيما يتعلق بالترسانة القانونية. فقد ورث المغرب عن فرنسا العديد من القوانين التي لا تزال سارية المفعول ولم يتم تجديدها بما يساير الظروف الجديدة للبلاد، وخضعت القوانين التي وضعت بعد الاستقلال للمؤثرات الفرنسية ذاتها وكأنها الخيوط نفسها التي تحرك المجريات والوقائع. والخلاصة أن التحديات الموضوعة على عاتق المغرب والمغاربة بعد خمسين عاما من الاستقلال هي تحديات كبيرة وما تحقق في الماضي لا يعفي من جدية الطرح والسير،والذي يظهرأن المسيرة لا تزال طويلة وتتطلب الإرادة السياسية في الحسم مع أسئلة الماضي وإجابات جيل ما الاستعمار، فجيل اليوم له أسئلته الحرجة هو الآخر وله ما يقدمه في سياق الإجابة عليها.