تزاحم خفيف تتخلله عبارات الاعتذار المألوفة كلما انفلق بالعربة.. ينزل البعض بحثا عن علامات الخروج أو الوجهة القادمة، ويركب آخرون حيث الجو بالداخل مثقل بالصمت.. وما إن ينغلق الباب حتى ينساب كائن في النفق ملتويا مع المنعرجات. وعند كل منعرج، تتمايل الأجسام، تتداخل أحيانا داخل العربات، تختلط الروائح والعطور. تتزاحم القارات والأجناس والشعوب. نسيج غريب من الأشخاص والألوان يتوافدون كل يوم على هذا الكائن الذي شيده الفرنسيون في باطن باريس وأطلقوا عليه اسم الميترو. وتعود فكرة إحداث هذا الكائن في باريس وبين أطرافها، إلى منتصف القرن التاسع عشر (1845) حيث المجلس البلدي آنذاك رفض بقوة االتصميم الهندسي الذي اقترحته سلطات الولاية للتخفيف من الاكتظاظ الطرقي الذي تشهده باريس، حجته في ذلك أن عمليات البناء وما تشمله من حفريات وتدمير لبعض المواقع، ستلحق ضررا جسيما بتناسقية المدينة وتناغمها العمراني. وظل التصادم بين مجلس المدينة وولايتها قائما قرابة نصف قرن، إلى أن قدم المهندس الفرنسي، فلوجانس بيانفونو، تصميما متكاملا يراعي بشكل دقيق النسق العمراني للمدينة، حيث تمت المصادقة عليه سنة 1897، بينما دشنت العاصمة البريطانية، لندن، أول خط سنة 1863، ثم نيويورك (1904) وطوكيو (1924). انطلقت الأشغال الكبرى في أكتوبر 1898، وما هي إلا سنتان حتى انطلق العمل بثلاثة خطوط (يوليوز 1900)، ليباشر العمال بعد ذلك وعددهم حوالي خمسين ألف، عمليات الحفر تحت نهر السين من أجل بناء عشرة خطوط أخرى وربطها على مدى 159 كلم ب332 محطة. لم تسلم الأشغال الشاقة في أنفاق عميقة تحت الأرض، وما نجم عنها من أخطاء تقنية، من حوادث مؤلمة أودت بحياة العشرات، وأهمها حريق غشت 1903 بمحطة لاكورون الذي قتل فيه 84 شخصا على الفور. واليوم يحق للباريسيين التباهي بتضحيات أجدادهم الذينأنجزوا أفضل وأكبر خط مترو في العالم، يقوم حاليا بنقل خمسةملايين و900 ألف شخص يوميا بفضل نظام نقل متكامل يغطي باريس وضواحيها 22 ساعة على 24، ويسهم في تخفيض التلوث بنسبة أربعين في المائة. وقد تم بناؤه على شكل نجمة حيث كل الخطوط تأتي من الأطراف باتجاه وسط المدينة. ومن مميزات ميترو باريس أنه مدينة باطنية بكل مستلزماتها المعيشية والترفيهية، من مطاعم ومتاجر وقاعات للعروض الفنية، ومحلات للروائح والعطور، وأجواق فنية من مختلف الأجناس،ومقاهي، وفروع لمكاتب البريد والأبناك، وأكشاك ومكتبات، ووكالات أسفار وغيرها من المرافق التجارية والثقافية المفتوحة أمام مئات الآلاف من الوافدين يوميا. وتدر تجارة الميترو أرباحا سنوية تفوق العشرين مليار أورو سنويا، حسب الغرفة التجارية الباريسية. والتوجه السائد حاليا لدى المصممين، هو تعزيز شبكة القطار الآلي، عالي التقنية الذي لا يحتاج إلى سائق مثل ما هو معمول به في الخطين واحد و14، وتكفيه 13 دقيقة فقط لقطع مسافة أربعة كيلومترات بوسط باريس مع التوقف بثماني محطات.والميترو الآلي الذي يتحرك بمتوسط سرعة تصل إلى خمسينكيلومترا في الساعة، هو أسرع بمرتين من القطارات القديمة، وبثلاث مرات من أية سيارة في الشارع. وخلال أوقات الذروة يمكن جدولة انطلاق قطار كل 85 ثانية، مما يتيح نقل 100 ألف شخص في الساعة، كما يمكن بواسط الحاسوب، تخفيض عدد القطارات أو زيادتها استنادا إلى عدد الركاب. وتراقب تسعمائة آلة تصوير، حركة مرور القطارات على المسارتحت الأرض البالغ طوله ثمانية كيلومترات وسط باريس، للتأكد من عدم حدوث أي خلل، وأيضا للسهر على سلامة الركاب بواسطة نظام للمراقبة مزود بتقنيات سمعية وبصرية، يستطيع الموظفون في مركز القيادة التحدث بواسطته إلى الشخص الذي اتصل من القطار ورؤيته على الشاشة. وتحاول مدن أخرى في العالم كسنغافورة ونيويورك وبرشلونة وموسكو، الاستفادة من تجربة الميترو الآلي الباريسي الذي زاره عدد من القادة الأوربيين، وفي مقدمتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي وقع مع الرئيس شيراك اتفاقية تقضي ببناء خط مماثل للخط ال14 في موسكو بغلاف مالي يقدر بحوالي مليار و500 مليون أورو. وعلى الرغم من أن نظام الميترو يلبي بشكل جيد مستلزمات النقل الحضري، حيث معدل الانتظار لا يتجاوز 15 دقيقة بالنسبة لقطارات الضواحي، وأقل من دقيقتين في المحطات الباريسية، فقد تم إنشاء حافلة كهربائية " الترام" في باريس، تمر حول المدينة بشكل حلقة لربط المحطات النهائية بخطوط المترو الموجودفي الضواحي. ويعني هذا المشروع بالنسبة إلى ملايين الأشخاص الذين يعيشون في ضواحي باريس، إحداث طريق أسرع إلى العمل يتم من خلاله نقل حوالي 600 ألف مسافر يوميا. القطار التقليدي، الميترو الآلي ثم الترام.. كل وسائل النقل والسلامة الطرقية متوفرة في عاصمة الأنوار التي تعتبر الأولى عالميا من حيث تدبير النقل الحضري.