الخط : هو من أعلن قبل أسابيع بتصميم وإلحاح، وبعناد ومكابرة أيضا، بقاء السفير والعسكر الفرنسي في النيجر إلى أن يطلب منه ذلك الرئيس المنتخب محمد بازوم. وهو من يعلن اليوم بخجل وانهزام خروجهما ضمن انسحاب قسري مهين يكرس الفشل الذريع لسياسة إيمانويل ماكرون في الساحل الإفريقي وفي إفريقيا عموما. ومع هذا الإعلان أمعن الرئيس ماكرون في إذلال الجيش الفرنسي ومعه السفير الذي بقي مع نفاد مخزون الطعام والماء في السفارة الفرنسية، معزولا من دون حصانة دبلوماسية. مثل هكذا انسحاب يأتي بعد الانسحاب من مالي في غشت 2022، ومن بوركينافاسو في فبراير 2023 وكلا البلدين يحملان شعورا معاديا لفرنسا الماكرونية التي لم تلحظ بل لم ترغب في فهم التطورات الجارية في مستعمراتها القديمة، وشابت مواقفها السياسية مجموعة من التناقضات. فهو من أيد انقلاب مالي الأول عام 2020 وفي العام الموالي أيّد وصول إدريس ديبي للسلطة في تشاد من دون أي اعتبار للنظام الدستوري ولأبسط الأبجديات التي تحكم الممارسة الديمقراطية. أسباب عدة تقف وراء الشرخ العميق الذي أصاب روابط الصداقة بين فرنسا ومستعمراتها الإفريقية، منذ تولي ماكرون السلطة، يمكن إيجازها فيما يلي : أولا : النظرة الدونية للفرد الإفريقي و المعاملة الاستعلائية الطاغية في الخطاب الفرنسي، أسهمت بشكل كبير في تغييب البعد الإنساني وتقوية الشعور لدى الإنسان الإفريقي بوجود جنسين من البشر، واحد غبي، متخلف، بطيئ التفكير، والثاني ذكي، سامي يعود له الفضل في بناء الحضارة وتحريك التاريخ. ثانيا : القطيعة مع المحددات التقليدية للسياسة الخارجية الفرنسية التي رسمها الجنرال شارل دوغول وأرسى بنيانها من بعده الرئيس جاك شيراك، والتي جعلت من إفريقيا نقطة ارتكاز أساسية في علاقات فرنسا الدولية. فالرئيس ماكرون لا يصدق كثيرا أن يكون الأفارقة قد حققوا اليوم من شروط المعرفة والتطور ما يؤهلهم إلى اقتحام العولمة الاقتصادية والثقافية بوتيرة سريعة. ثالثا : سياسة التغول والاستعلاء جعلته يصُمّ أذنيه بل يسخر من جميع الأصوات السياسية والاقتصادية والثقافية التي ارتفعت من أقصى العلم إلى أقصاه لتلتمس قليلا من الرحمة بإفريقيا وبثرواتها الاقتصادية.. أصوات لقيت تأييدا واسعا في الأوساط المناهضة للاستعمار الثقافي والاقتصادي الجديد القائم على نسف الذاكرة الثقافية لإفريقيا من خلال نهب كل ما يؤرخ لتراثها الفني الثقافي. رابعا : صناعة وإنتاج طبقات حاكمة في القارة تدور في فلك الحكومة الفرنسية وتنفذ توجهاتها. ومن هنا أصبح التواجد العسكري والاقتصادي الكاسح بالمستعمرات الإفريقية يقوي الشعور لدى الإنسان الإفريقي بأن فرنسا، كقوة استعمارية سابقة، لا تتحرك سوى لدعم الموالين لها من فئات المستبدين وحمايتهم تحت ذرائع مختلفة. خامسا : التمرد والسخط الإفريقيين مردهما أيضا إلى سياسة النهب التي تمارسها فرنسا لثروات إفريقيا، وتحويلها إلى مواد مصنعة تبيعها بعد ذلك بأضعاف قيمتها إلى أصحابها الأصليين، لتساهم بشكل منهجي في عملية لصوصية تستنزف القارة وسكانها. سادسا : من بواعث السخط الإفريقي أيضا، سياسة الهجرة "الماكرونية" التي تضع أبناء إفريقيا في خانة البشر الدونيين، حيث الترحيلات المجحفة حطمت أرقاما قياسية منذ تولي ماكرون السلطة، دون اعتبار لصوت المنظمات الإنسانية التي ترى في تهجير الأفارقة تدنيس للكرامة البشرية فضلا عن كونه وصمة عار في جبين هذا البلد الذي مات من أجله الأفارقة ليعيش في كنف الحرية والاستقلال. سابعا : سعي فرنسا الحثيث لبسط هيمنة اقتصادية قوية تضمن لها نفوذ سياسي وبعده عسكري على معظم دول القارة والساحل الإفريقي على الخصوص علما أن القارة تنتصب الأولى عالميا من حيث إمكانياتها وثرواتها الطبيعية. فبإفريقيا يمر أطول نهر في العالم هو النيل، وبها أكبر وأهم البحيرات الطبيعية في العالم، كما تحوي حوالي 30 في المئة من الاحتياطي العالمي للنفط والغاز، فضلا عن ثرواتها الهائلة من الخشب والفوسفاط والماسوالذهب والأورانيوم، وغير ذلك من الموارد التي تتعرض لنهب منتظم من قبل الحكومات الغربية والحكام الفاسدين، وكأن القارة مرغمة على أداء ضريبة ثروتها للطرفين. عوامل أخرى لا يتسع المجال لذكرها تكرس تعامل فرنسا مع إفريقيا كمجال طبيعي لهيمنتها دون غيرها حتى لو كان المنافسون من حجم الصين والولايات المتحدة والبرازيل وقوى أخرى ناشئة ترى في القارة السمراء أرضا حبلى بالفرص الاستثمارية، علما أن التنمية الحقيقية لإفريقيا لابد أن تأتي من داخل إفريقيا وليس من خارجها، ومن التعاون بين بلدانها. وقد لا تُسعد ماكرون الرؤية الاقتصادية المغربية الجديدة لإفريقيا والقائمة على إرساء البعد الاقتصادي التضامني بين البلدان الإفريقية من خلال شراكة أفقية عادلة مبنية على قاعدة رابح رابح، وليس على منطق الربح الأحادي والاستغلال المفرط لثروات القارة كما تفعل فرنسا. ومن هذه النافدة تسربت مشاعر العداء للمغرب "اللاعب المزعج" في أرضية فرنسا الإفريقية، وبدأت تتقوى تدريجيا إلى أن بلغت حدا لا يطاق. وقد انعكست تلك المشاعر في العديد من القضايا الثنائية، منها على الخصوص التطورات التي عرفتها قضية الصحراء المغربية حيث غياب فرنسا عن الدينامية الدولية بشأن الصحراء، يطرح أكثر من سؤال بشأن ترددها المريب، علما أنها البلد الوحيد بعد إسبانيا العارف تاريخيا بمؤامرة ما يسمى بالوهم الصحراوي الجزائري. ولم يكتف الرئيس ماكرون بالانبطاح للغاز الجزائري وللرئيس تبون، ونهجه سياسة عدائية تجاه المغرب بتبنيه المقولة السقراطية، "أعلم أنني لا أعلم شيئا" في قضية الصحراء، بل سخّر إعلامه وقنواته العمومية وغير العمومية للتحامل بلغة قذرة وبذيئة على المغرب ورموزه. تحامل قد يصيب الرئيس الفرنسي بانتكاسة أقوى مما شهده في النيجرومالي وبركينافاسو قد تعصف لا محالة بمستقبله السياسي والتاريخي. وللرئيس ماكرون ما يريد وما يبتغي، فالوقت كفيل بأن يكشف عن الأسرار الحقيرة والأماني السعيدة.