الخط : إستمع للمقال لا صحة إطلاقا لمن يعتقد أو يُجزم بأن الصحف الخاصة التي اكتسحت المشهد الإعلامي المغربي، مع بداية الألفية الجديدة، هي صحف مستقلة. مثل هذا الاعتقاد يصير هُراءً وتخريفا، حينما نتوهم أن تلك الصحف لها خطوط تحريرية حرة ومستقلة، تميزها عن غيرها من الصحف. خطوط خالية من التبعية والانبطاح، ومتحررة من قيود المال الفاسد والولاءات المختلفة، تستوعب أحلام المتلقي، وتعبر عن هموم الوطن والمواطن. ولا أظنه من الضروري أن يكون المرء مُنظّرا في الإعلام، ليفهم بعد تتبُّع دقيق وحذر للصحافة المغربية، أنها نوعان: واحد يؤسس للمستقبل، وآخر يستهلك الحاضر. أما الأول المؤسس للمستقبل، فتراه على قلب واحد في القضايا الوطنية الكبرى، وفي المنجزات الكبرى، يضيف على المفردات معاني منبثقة من مخزون قلبه، ويجتهد في توجيه البوصلة الإعلامية نحو تقوية ركائز المواطنة الصادقة. إعلام بكل منابره من صحف، ومواقع، وقنوات خاصة، جميعها تشارك في الحدث بمسؤولية وأمانة، ضمن رؤية نقدية تحليلية متحررة، خالية من كل مداراة أو مجاملة أو تودُّد. والنوع الثاني المستهلك للحاضر. فوجوده من عدمه سيان، طالما يقوم على النفاق المؤدي تلقائيا إلى تمجيد وتحميد من يدفع أكثر. إعلام قذر تستهويه الحمولات التهجمية والتحريضية، ضد الوطن والشرفاء من أبنائه. وفي ظل التباين الشاسع بين النوعين، فإن إعلامنا الوطني، من صحف ورقية (تكاد تنمحي)، ومواقع إلكترونية، وقنوات خاصة وغيرها، أصبح اليوم عند تقاطع الطرق، بين إعلام يتغذى من المال المُسيّس، وإعلام مسئول وصادق يعتمد على الوعي الجماهيري اليقظ، كذرع أساسي في مواجهة التضليل وزرع الشكوك، علما أن منسوب انعدام الثقة في الكثير من المواقع والقنوات التحريضية، آخذ في الارتفاع بشكل غير مسبوق. ويبقى المواطن الجاهل بأساليب النصب المألوفة لدى أباطرة الإعلام القذر، والباحث عن شعاع حقيقة بين جدران وطنه، هو المتضرر الأول من الشعوذة الكلامية التي ألفناها بالأمس عند فريق الدّجالين وقارئات الورق، بساحة جامع الفنا بمراكش، وجاءتنا اليوم في لباس جديد. وهي وإن كانت تختلف في السلعة والوظيفة، فهي تلتقي في التلاعب بأماني الناس وتطلعاتهم. المواقع الإعلامية والقنوات الخاصة عند بارونات الإعلام القذر، ليست أدوات للتوعية والتثقيف والاطلاع، كما يُفترض أن تكون، ولا مهنة إنسانية تعتمد معاني الحياد والصدق والموضوعية، بل هي منابر للاغتناء الفاحش، وللولاءات والمداهنات الفياحة بالأغلفة المالية والعلاوات السخية. وأكثر ما يحز في النفس، أن تلك المواقع والقنوات التي لا يخرج ضجيجها عن نقيع الغربان، تحولت إلى عناوين "للريع"، تستهدف في المقام الأول، مكونات المجتمع المغربي، وتتطاول بأرذل النعوت على الرموز الوطنية والدينية، بل فيها من تحاول النيل من وحدتنا ومكتسباتنا الوطنية، تحت ذريعة حرية الرأي والتعبير، تكريسا لما يمكن تسميته ب"الدكتاتورية الفكرية" التي تربط حرية التعبير بالتحريض على الوطن، ضدا على كل المواثيق الحقوقية الكونية، التي تصنف الرأي المُحرِّض، في خانة الجريمة مكتملة الأركان. هؤلاء المتشدقون بحرية التعبير، يفهمون فهما جيدا ودقيقا، أن خطابات التحريض على اختلاف أشكالها ومبرراتها، ليست لها علاقة بحرية التعبير، في جميع ديمقراطيات العالم، التي حددت ضوابط صارمة لمجال حرية التعبير، عندما يتعلق الأمر بالأمن العام، ويث الكراهية، وبالتحريض على الوطن، وما شابه ذلك. ولابد من التأكيد في هذا السياق، على أن كل من يربط حرية التعبير بإهانة الشعب المغربي وبالتحريض على الوطن، هو شريك فعلي في الخيانة، حيث حرية التعبير، وكلامي موجه هنا لمن يفهمون حقوق الإنسان فهما مُزوّرا، بما يخدم مصالحهم، تخضع لإجراءات عقابية وفق ما تستدعيه الضرورة الأمنية، وحفظ النظام في مجتمع ديمقراطي. وكل من وظفها لأغراض مقيتة، هو شريك مُتخفّي في المؤامرة. وليقرأ هؤلاء جيدا المادة 10 من الميثاق الأوربي لحقوق الإنسان، والتي تضع حدا فاصلا بين حرية التعبير، وخطابات التحريض والإساءة العرقية والدينية والجنسية. ولا بد من التأكيد في الختام، على أن المتلقّين للمادة الإعلامية، ليسوا جميعهم علماء ومفكرين وباحثين، لهم من المناعة الفكرية والثقافية ما يحميهم من التفاهات الإعلامية المتكاثرة كالذباب في موسم الصيف، لكن علينا جميعاً توخي اليقظة والحذر حيال التحاليل المفبركة، والتحقق منها. فالخطورة لا تكمن برأيي، في التحليل الزائف أو الكذبة الإعلامية في حد ذاتها، بل في سهولة تصديقها. فحين تغيب أدوات التحقق والتحري عند المُتلقّي، وتنتفي ثقافة التشكيك المؤدي لليقين، يتحوّل كل ما يُقال إلى يقين، ويصبح المتلقي شريكا، دون أن يدري، في نشر التزييف وتغذية الوعي الشقي. نحن ملزمين في زمن التفاهة الإعلامية السائدة في أوساط بارونات الإعلام المّزيف، ألا نكون مستقبلين للمعلومة فقط، بل يجب أن نكون مُدققين لها. ولعل أعظم ما يمكن أن نقوم به لسد الطريق أمام هؤلاء، ليس هضم المعلومات كما تأتينا، بل التأكد من صحتها. ففي زمن التفاهة الإعلامية التي تسكن ضمير أباطرة الإعلام المُسيّس، تصبح صناعة التضليل منْجما ذهبيا للاغتناء الفاحش، وللفتن وزرع الشكوك. ذلك أن الكلمة الإعلامية لم تعد، كما كانت مجدر جملة تُقرأ وتُنسى، بل غدت أداةً توعوية، تُوجه العقول، وتُغير المسارات أيضا.