إن أول ما يلفت الانتباه في عمل الكاتبة السويسرية وان كوني «لو تركت لي الوقت الكافي..» أنها كانت واقعية إلى حد النخاع, بحكم أن العمل يتناول سيرتها الذاتية، وللأمانة فقد كان يتسم بالطهر والنقاء فمن أول سطر الى آخر كلمة منه لم تصادفني عبارة تخدش الحياء ولا إثارة جنسية، بل النص كانت كل حيزاته ومساحات صفحاته تنطوي على الكثير من الأسئلة حول الكون والغيبيات. ففي الفصول الأولى من مخطوطها. الكاتبة تناولت طفولتها بالتحليل و النقد. عارضة أهم محطات حياتها المحفوفة بالصعاب، بدءا من انعدام الحنان من والدها الذي كان يشتغل مدير مؤسسة ثقافية، وتماشيا مع قهر والدها دائما لوالدتها بسبب دفاعها عنها في كل مرة، ووصولا الى التفكك العائلي الذي انتهى بطلاق والدتها، وفي خضم هذه التعقيدات. ينتهي مصير الكاتبة الى الصعلكة والإلتحاق بأطفال الشوارع حيث كل شيء مباح من المخدرات، الى الانحراف الكلي. الكاتبة يتحرك فيها الوازع الديني بعد ذلك، فتلجأ الى الله للبحث عن طريق الايمان رغبة في الاستقامة فحسب تعبيرها، الانسان الأوروبي كل شيء متوفر لديه من سهولة الحياة الى رغد العيش، الى التكفل الكامل، ومن هم بحاجة الى الله هم الفقراء والمعدومين في هذا العالم، نعم هؤلاء هم من يتذكرون الله، وعليه من الصعب اكتشاف الايمان في اروبا وتحديدا في سويسرا. ويبدأ التفكير في السفر بجد من لدن الكاتبة إلى حيث يقع اختيارها على أفريقيا، وتحديدا على بوركينافاسو وفي اتصالها مع أحد الكنائس بسويسرا تجد كل التسهيلات لتواصل مع كنيسة ببوركينافاسو فتعد العدة لذلك السفر وتحضر ضروراته المتعلقة بالألبسة و حاجياتها الخاصة وبعد ان تقتطع تذكرة السفر... تاركة وراءها منزلها وعملها و أقاربها.. وفجأة ينتابها التردد مع ذلك لا تستسلم لهواجسها ولا لخوفها من المجهول الذي ينتظرها. بل تبقى مصممة على السفر قصد الوصول الى طريق الايمان. ووصولا الى عاصمة - بوركينافاسو واغاودغو - حيث قضت هناك اسبوعا كاملا. تقول «أنا القادمة من وطني الغني والنظيف، حيث كل شيء مسير فيه مثل ورقة النوتات الموسيقية، أجد نفسي أدوس على أرض لا أرى فيها سوى الفقر و العوز، ومع ذلك الكاتبة لا تهمها الصعاب مادام هدفها هو البحث عن طريق الايمان، كانت تقضي معظم وقتها في صمت تنظر الى ما حولها وهي في خجل لا يطاق من نفسها مناجية الله في السر والعلن عما ارتكبته من اثم الأهواء وشهواتها المبالغ فيها. وفي إحدى مناجاتها الرهيبة تسأل باكية «ربي نورني لما هؤلاء يعانون كل هذا الفقر المدقع و الحرمان ولماذا كل هذا الاختلاف بين العالم الذي أنا قادمة منه، وهذا العالم الذي أنا متواجدة فيه. وتضيف معلقة : بكت روحي كثيرا على هؤلاء الغلابة، وتختم مناجاتها معاتبة نفسها على جرأة سؤالها: (كل ما هو موجود مقرون بسبب وجوده ومن خلال التجربة نتعلم القيم الصحيحة، فمن خلال نظرة الانسان يبدو له كل شيء غير عادل.. لكن من منظور الله كل شيء على ما يرام... تماما مثل الطفل الرضيع الذي عندما تنبت أسنانه للمرة الأولى يحس بألم شديد... وهو لا يعرف الى أي مدى سوف ينسى هذه اللحظة المؤلمة التي ستعوضها سعادة مدى الحياة بعد أن تظهر كل أسنانه، وطيلة اقامتها بالعاصمة لم تتوان في الاطلاع على أحوال الناس المزرية. لقد كانت كثيرة التردد على ملجأ الايتام... وأثناء اقامتها المؤقتة بالعاصمة وفي دير كبير يحتوي على قاعة للندوات و غرف و بئر لانعدام الحنفيات في دير الاستقبال وفي اغلبية منازل العاصمة - واغادوغو - بل الشائع هناك أن الماء والكهرباء يعدان من الكماليات و مثل هذه الحقيقة المرة جعلت الكاتبة تستشيظ غضبا وغيضا على قومها في سويسرا بسبب عدم الاسراع لنجدتهم.. وفي اقامتها الوضيعة ولا اقول المتواضعة زودت بخادم لخدمتها وفي هذا الفصل الكاتبة تصور واقعا مقززا فعلى سبيل المثال خادمها الذي كان يحضر لها الطعام تنعدم به شروط النظافة، ورأفة به وبأفراد عائلته لم تطالب باستخلافه; بل كانت في كل مرة تنتظره حتى ينتهى من عملية الطبخ وبعدها تطلب منه نقل ما يطبخ لأولاده خفية عن قس الكنيسة والا تعرض للطرد. وتبعا لهذه العلاقة الانسانية الراقية بين الكاتبة و الخادم، أضفت الى احداث تغيير في هوية الكاتبة، حيث اقترح عليها الخادم تغيير اسمها بقوله، في عرفنا نحن الأفارقة، عندما نحب شخصا ونتعلق به، نقترح عليه اسما،ومن الأسماء اخترت لك اسم (وان كوني، وتفسيره.... وان: الله ، كوني: هدية.. ومنه فانه من اليوم اسمك وان كوني: هدية الله) للتذكير الكاتبة الى يومنا هذا تحمل هذا الاسم. انتهى الحيز الزمني للإقامة المؤقتة بالعاصمة - واغادوغو - وكم ترجاها كل من عرفها بعدم الذهاب الى - بوصلة - لإنعدام أدنى شروط الحياة بها. نعم انه الجحيم في أوضح معانيه فهناك لا ماء ولا دواء و لا هواء... لكن الكاتبة لم تعبأ بترجيهم وقررت مواصلة مشوارها لسبب واحد ووحيد أن هناك بشرا ومن واجبها تفقد أحوالهم لتقدم لهم ما امكن من المساعدة. وبعد أن ودعت الجميع شاكرة على ما ابدوه من قلق وحيرة عليها امتطت سيارة باتجاه - بوصلة -وهي مسافة ساعتين ونصف الساعة بالسيارة وفي طريقها لاحظت أن كل شيء متوقف باستثناء الحرارة و سحابة الغبار التي تظلل السيارة والغير مرغوب فيها لكونها تحول بينها وبين استنشاق الهواء النقي. وعند وصولها وجدت قس - بوصلة - في انتظارها لترتيب أمور اقامتها، و كان لها ذلك. الكاتبة و في استقبالها ليوم جديد بمدينة - بوصلة - اسندت لها مهام تسيير الصيدلية الوحيدة بالقرية، التي لا تمتلك من الصيدلة الا الاسم لانعدام الأدوية بها، وهي تفتش في طوابق جدران المخزن أصابها الذهول لأنه لم يكن بالمخزن سوى بعض الأدوية منتهية صلاحيتها منذ إحدى عشرة سنة، و مع ذلك كانت تسلم للمرضى لتناولها، ودائما و في خضم هذا العوز والفقر المدقع، الكاتبة بدأت تتذوق الحياة من جديد كما بدأت معالم الايمان والهروب الى الله تتحدد... نعم سوف لا يقتصر دورها على العمل في الصيدلية بل عليها تعلم اللغة البوركينابية وعليها أن تحتك بأوساط الاجتماعية فنسجت بذلك علاقات انسانية، وبالفعل توصلت مع الكثير من الشرائح الاجتماعية. حيث كانت تقوم بصنع الكعك والفطائر لبيعها في سوق - بوصلة - في اوقات الفراغ وعائدات كل ما تجمعه تصرفه على ملجأ للأيتام والمعوزين وفي مدينة - بوصلة - دائما ذاع صيت الكاتبة فلم يعد يقتصر عملها في الصيدلة بل صارت تتنقل إلى البيوت لاستطبابهم وصار أيضا الناس من كل الفيافي يقصدونها بعد أن يقطعوا أياما وأياما من السير للوصول اليها للاستفادة من خدماتها الصحية... هي ليست بالطبيبة بل كانت توظف كل ما تعلمته من مهارات في بلدها سويسرا مهارات كالتي يتعلمها أي مواطن سويسري للمحافظة على صحته وان كانت هذه المهارات عادية في موطنها ففي موطن تواجدها له قيمته ولا يقدر بأي ثمن.