اغتراب الإنسان في رواية الأشجار و اغتيال منصور - 4 - لا يجادل أحد على أن الإنسان في رواية الأشجار و اغتيال منصور محكوم عليه بالغربة و عانى الأمرين أثناء مطالبته حتى لأبسط الحقوق ، إذ تطلبت منه عملية الحصول على جواز السفر صبرا قاتلا لمدة سنتين أو ثلاثة من أجل العبور إلى الضفة الأخرى و معانقة الحرية و استنشاق نسائم الديمقراطية بكل تجلياتها المفقودة في زمان و مكان الرواية ، مما جعل الشخوص تعتاد على كل شيء على حد تعريف " دويستوفسكي " للإنسان ، هذا الكائن الغريب حقا الذي استطاع العيش و التأقلم في ثنائية معقدة ، غريبا في وطنه ممزق البال و مشتت الذهن، مسلوب الحقوق و الحريات ، يسعى نحو غربة من نوع خاص خارج الوطن التي من شأنها أن تضمن له قسطا من الحقوق ، وهي غربة لا تشكل طموحات الجماهير العريضة في الوطن العربي. إن تهافت هذه الطبقة المثقفة إلى بلدان الديمقراطية ، قد أضاعت جيلا بأكمله كانت الأمة العربية في حاجة ماسة إليه، تأمل من خلاله إلى انبلاج صبح جديد نحو الانعتاق و تحقيق الحريات و المساواة ، في الوقت الذي اختارت فيه هذه النخبة الخلاص المر الحلو للانفلات من براثن السلطة التي تطغى في كل مكان و تكتم الأنفاس، ما عبر غليه منصور عبد السلام بقوله : " ثق إن كل الأجيال التي مرت عبر التاريخ كانت أحسن من هذا الجيل ، جيلنا لم يفقس البيضة حتى انغمس في التفاهات ، إنه أقبح جيل يمكن أن يمر على وجه الأرض ، و لكن لا يعترف ماذا نحن ؟ هل رأينا أعواد المشانق ؟ هل شممنا رائحة البارود ؟ إن هذا الجيل جيل نتن و مأبون ،دعي ، مريض ، عاجز عن الحلم ، كل الأجيال و في جميع الأماكن حاولت أن تعمل شيئا و حتى أصعب الساعات و أكثرها قسوة لم يكن الواحد من الأجيال الأخرى يريد أن يسلم " . ففي رواية " الأشجار و اغتيال مرزوق " يعيش إلياس نخلة في الطيبة و كأنه غريب عنها ، حيث لن يستقر على حال و انتقل من عمل إلى أخر و من امرأة إلى أخرى ، إنها حياة مليئة بالتشرد و التمزق النفسي ، لا يملك أي شيء لا أولاد و لا حتى لقمة عيش يسد بها رمقه ، كان كريشة في مهب الريح وجوده من عدمه سيان ،أما منصور عبد السلام فقد عاش غريبا في وطنه ، غربة المكان و الزمان ، و كان ملاذه الأخير ديار المهجر ، فكل منهما عاش مقطوعا من شجرة في وطن كله ذئاب، يقول إلياس نخلة : " بدأت ألاحظ أن زوجتي لم تعد تحبني ، كانت تصرخ في وجهي ، تعيرني أني مقطوع من شجرة ، لا أب و لا أم لي لم أكن كذلك ، و لكن الحية تجعل الإنسان مثل ثور يدور في الفراغ". و بتشريح بسيط و تفكيك لمعمارية الشخصيتين ( إلياس نخلة ، منصور عبد السلام ) نستنبط أنهما عاشا في وطن متجرعين كل صنوف الاضطهاد و المذلة و المهانة ، مما جعلهما يتحمسان و يندفعان لمعانقة الغربة و الارتماء في أحضان المهجر ،حيث إن الفقر و البؤس و الحرمان في الوطن غربة و الغنى و الحرية و الحقوق في الغربة وطن، و لقد عبر منصور عبد السلام عن هذا الشعور بالغربة السلبية في وطنه بأدق الصور إلى درجة أنه تنكر لهذا الوطن ، و سخر من تلاله و شوارعه و من كل شيء يوحي إليه حين قال : " ما الوطن ؟ التلال الجرداء ؟ العيون القاسية التي ينصهر منها الحقد و الرصاص و كلمات السخرية ، الوطن أن يجوع الإنسان ؟ أن يتيه في الشوارع بحثا عن عمل وراءه المخبرون ؟ ما أقسى تلك الأيام و لكن لن يبقى منها إلا ساعات و تنتهي ، إذا وقف القطار في المحطة الأخيرة يجب أن أجبر نفسي على أن أبول هناك ، لا أريد أن أحمل شيئا معي حتى تلك الذكريات البائسة التي تنطبع على وجهي ، على ملابسي أريد أن أتركها ، أريد أن أكون إنسانا جديدا لا علاقة له بهذه الأرض " ( ص 31 ) ، إن أصعب لحظة و أسوءها ، أن يجد المرء نفسه مطرودا من وطنه من شدة القهر و الحرمان ، تطارده الأشباح بالليل و النهار و يتسول و يستجدي دقيقة نوم لا يجدها . مما سبق ذكره ، يتضح أن رواية " الأشجار و اغتيال مرزوق " قدمت فلسفة جديدة و رؤية تشخيصية للواقع ، و مفهوما مغايرا و جريئا للكتابة الروائية ، تنطلق أولا من رفضه الإقرار بأن هناك مواضيع محرمة لتبنيها و الكشف عنها ، و تنطلق ثانيا من تأسيس خطاب يلامس بعمق و صدق تجربة الإنسان العربي في مواجهات تحديات زمانه و الوقوف عند القضايا الكبرى من حرية ، قهر ، اغتصاب إلى غير ذلك. خلاصة القول إن تجربة منيف الروائية استطاعت أن تزيل الستار و تميط اللثام عن مخبوء المجتمعات العربية و تفجر السؤال المحرم و الخطوط الحمراء في قالب روائي استوعب كل الشروط الذاتية و الموضوعية للفترة التاريخية التي تعالجها الرواية ، و عموما فإن " رواية الأشجار و اغتيال منصور " لا تعني أحدا بعينيه و لكن تعني كل الناس .