في الرابع عشر من غشت سنة 1979، دخل إقليم وادي الذهب مرحلة جديدة في مساره التاريخي، بعد أن عاد إلى حضن الوطن الأم، المغرب، في محطة شكلت تتويجاً لمسار طويل من النضال السياسي والدبلوماسي والعسكري. كانت هذه العودة تتم في سياق إقليمي ودولي شديد التعقيد، حيث تداخلت رهانات الحرب الباردة مع الحسابات الجيوسياسية لشمال غرب إفريقيا، وتقاطعت الإرادات بين القوى الاستعمارية السابقة والفاعلين الجدد في المنطقة. لقد كان المغرب وموريتانيا قد نسّقا منذ بداية السبعينيات المواقف بخصوص الصحراء، حيث أفضى اتفاق مدريد في نوفمبر 1975 إلى تقسيم الإدارة بينهما: الساقية الحمراء للمغرب، ووادي الذهب لموريتانيا. لكن الوضع لم يستقر طويلاً، إذ دخلت جبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر وليبيا في مواجهة مسلحة مع الطرفين، مستهدفة استنزاف قوتهما وتغيير الوضع على الأرض. وفي ظل هذا الضغط العسكري والسياسي، جاء الانقلاب على الرئيس الموريتاني المختار ولد داداه في يوليوز 1978، ليخلط أوراق التحالف بين نواكشوطوالرباط. السلطات العسكرية الجديدة في موريتانيا، التي رفعت شعار "الحياد" ووقف الحرب، رأت أن الانسحاب من وادي الذهب قد يخفف الضغط عليها، كما اعتبرت أن كلفة التمسك بالإقليم تفوق قدراتها في مواجهة الجبهة المدعومة من قوى إقليمية نافذة. وهكذا، في 5 غشت 1979، وقّعت موريتانيا مع البوليساريو اتفاقية الجزائر، التي انسحبت بموجبها من الإقليم وتنازلت عنه للجبهة، في خطوة مثّلت من منظور الرباط إخلالاً بالعهد والميثاق الذي ربطها بموريتانيا. حينها، علّق الملك الحسن الثاني على هذا التحول السياسي مستشهداً بالقرآن الكريم: "وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم"، في إشارة إلى أن ما بدا آنذاك خطوة غير ودية من نواكشوط قد يفتح للمغرب باباً لفرض سيادته الكاملة على وادي الذهب. بعد أيام قليلة من ذلك الاتفاق، تحركت الدولة المغربية بخطوات حاسمة. وفي 14 غشت 1979، توجّه وفد من شيوخ ووجهاء وادي الذهب إلى القصر الملكي بالرباط، حيث أعلنوا أمام الحسن الثاني بيعتهم الشرعية له، مؤكدين ارتباطهم التاريخي بالمغرب، ومعلنين أن ولاءهم لم يتزعزع رغم تعاقب الاحتلالات ومحاولات العزل. هذه البيعة كانت لها دلالة مزدوجة: فهي من جهة استندت إلى الشرعية التاريخية والروابط الدينية والقبلية التي جمعت الصحراء بالمغرب منذ قرون، ومن جهة أخرى منحت المغرب أساساً قانونياً وسياسياً لتعزيز سيادته على الإقليم في المحافل الدولية. في العلاقات الدولية، شكل استرجاع وادي الذهب مثالاً واضحاً على قدرة الدول على توظيف الشرعية التاريخية والتحالفات المحلية في خدمة أهدافها الاستراتيجية، حتى في مواجهة محيط معادٍ. فالمغرب استطاع أن يحوّل أزمة الانسحاب الموريتاني، الذي كان يمكن أن يخلق فراغاً تستغله البوليساريو وحلفاؤها، إلى فرصة لتوسيع سيطرته الميدانية، مع تثبيت الاعتراف القبلي والاجتماعي بذلك. كما أن الرباط، بإدارتها لهذا الملف، وجهت رسالة ضمنية إلى موريتانيا مفادها أن روابط الجوار والمصير المشترك يجب أن تبقى فوق تقلبات الأنظمة. علاقات المغرب بموريتانيا بعد هذه الحادثة مرت بمراحل شد وجذب. ففي البداية، أدى توقيع نواكشوط لاتفاق الجزائر إلى برود دبلوماسي واضح، إذ اعتبر المغرب أن الخطوة انحياز ضمني لمحور الجزائر–ليبيا. لكن سرعان ما أدرك الطرفان أن التوتر يخدم خصومهما أكثر مما يخدمهما، خاصة في ظل هشاشة المنطقة أمنياً وتهديدات الحركات الانفصالية والجماعات المسلحة. وهكذا، انطلقت محاولات الترميم عبر قنوات دبلوماسية هادئة، وتوجت لاحقاً بعودة العلاقات إلى مسار التعاون الحذر، خصوصاً في الملفات الأمنية والاقتصادية. اليوم، وبعد أكثر من أربعة عقود على ذلك الحدث، بات إقليم وادي الذهب واحداً من أكثر المناطق دينامية في المغرب. الإحصائيات الاقتصادية تشير إلى أنه يسجل أعلى ناتج محلي إجمالي للفرد في المملكة، بفضل الطفرة التي شهدها في قطاعات الصيد البحري والفلاحة الصحراوية والطاقات المتجددة والسياحة. ومع إطلاق مشروع الميناء الأطلسي الضخم بالداخلة، يتوقع أن يتحول الإقليم إلى منصة لوجستية وتجارية استراتيجية، تربط المغرب بأسواق غرب إفريقيا والمحيط الأطلسي، وتفتح آفاقاً جديدة للتكامل الاقتصادي الإقليمي. في منظور العلاقات الدولية، فإن استثمار المغرب في تنمية هذه المنطقة ليس مجرد خيار اقتصادي، بل هو جزء من استراتيجية أوسع لتعزيز العمق الإفريقي للمملكة. فالداخلة ووادي الذهب يمثلان بوابة المغرب نحو إفريقيا جنوب الصحراء، وهو ما يفسر الانفتاح على شراكات مع دول مثل السنغال وكوت ديفوار ونيجيريا، إضافة إلى الحضور المتنامي للمغرب في منظمات إقليمية كالمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس). ومع أن مسار التنمية مستمر بوتيرة تصاعدية، فإن التحدي يبقى في ضمان استفادة الساكنة المحلية بشكل مباشر وعادل من هذه الطفرة، بما يعزز الاندماج الوطني ويحصّن الإقليم ضد أي محاولات لإعادة إنتاج النزاعات القديمة. هذا البعد الاجتماعي، إلى جانب الحضور الدبلوماسي الفاعل، سيظل عاملاً أساسياً في ترسيخ سيادة المغرب على وادي الذهب، وفي بناء علاقات حسن جوار مستقرة مع موريتانيا، قائمة على التعاون المتكافئ والمصالح المشتركة، بعيداً عن إكراهات الماضي وتقلبات السياسة. بهذا المعنى، فإن ذكرى 14 غشت ليست مجرد احتفاء بحدث تاريخي، بل هي تذكير بقدرة المغرب على تحويل التحديات إلى فرص، وعلى الجمع بين الشرعية التاريخية والفعالية الدبلوماسية، من أجل الدفاع عن وحدته الترابية، وترسيخ موقعه كفاعل استراتيجي في شمال غرب إفريقيا. إنها أيضاً مناسبة للتأمل في أن الروابط التي تجمع المغرب بموريتانيا، رغم ما مرّ بها من عواصف، قادرة على الصمود وإعادة التشكل بما يخدم استقرار المنطقة وتنميتها.