الدرهم يرتفع بنسبة 0,18 في المائة مقابل الأورو    كلية العلوم والتقنيات بالحسيمة تحتضن أول مؤتمر دولي حول الطاقات المتجددة والبيئة    الامن الوطني يضبط اربعة اطنان من الحشيش في ضيعة فلاحية    تسريب صوتي منسوب لولد الرشيد: منذ أن وجدت الانتخابات ونحن نستخدم المال العام (صوت)    "حزب الأحرار" يعقد لقاءات جهوية    الملك محمد السادس يبارك عيد بولندا    كازاخستان تستأنف تصدير القمح إلى المغرب لأول مرة منذ عام 2008    بيزيد يسائل كاتبة الدولة المكلفة بالصيد البحري حول وضعية مهني قوارب الصيد التقليدي بالجديدة    إسرائيل تعيد رسم خطوط الاشتباك في سوريا .. ومخاوف من تصعيد مقصود    تونس: محكمة الإرهاب تصدر حكما بالسجن 34 سنة بحق رئيس الحكومة الأسبق علي العريض    الإقبال على ماراثون "لندن 2026" يعد بمنافسة مليونية    العصبة تفرج عن برنامج الجولة ما قبل الأخيرة من البطولة الاحترافبة وسط صراع محتدم على البقاء    الأزمي: لم تحترم إرادة الشعب في 2021 وحكومة أخنوش تدعم الكبار وتحتقر "الصغار"    الداخلة-وادي الذهب: البواري يتفقد مدى تقدم مشاريع كبرى للتنمية الفلاحية والبحرية    منحة مالية للاعبي الجيش الملكي مقابل الفوز على الوداد    يونس مجاهد يكتب: حرية الصحافة المزعومة    الكركارات : إحباط تهريب طنين من الشيرا نحو إفريقيا    أصيلة تسعى إلى الانضمام لشبكة المدن المبدعة لليونسكو    اللحوم المستوردة في المغرب : هل تنجح المنافسة الأجنبية في خفض الأسعار؟    "الأحرار" يطلق جولة تواصلية جديدة ويشيد بالحوار الاجتماعي وبمكتسبات الشغيلة    الكوكب يسعى لوقف نزيف النقاط أمام "الكاك"    "كان" الشباب: المنتخب المغربي ينهي تحضيراته استعدادا لمواجهة نيجيريا وسط شكوك حول مشاركة الزبيري وأيت بودلال    إسرائيل تقحم نفسها في اشتباكات بين السلطات السورية والدروز    لماذا أصبحت فلسطين أخطر مكان في العالم على الصحفيين ؟    استقدمها من علبة ليلية بأكادير.. توقيف شخص اعتدى على فتاة جنسيا باستعمال الضرب والجرح بسكين    فريق طبي مغربي يجري أول عملية استئصال للبروستاتا بالروبوت عن بعد بمسافة تجاوزت 1100 كلم    تنظيم يوم وطني لخدمات الأرصاد الجوية والمناخية الاثنين المقبل بالرباط    "هِمَمْ": أداء الحكومة لرواتب الصحفيين العاملين في المؤسسات الخاصة أدى إلى تدجينها    تونس تسجن رئيس الوزراء السابق العريض 34 عاما بتهمة تسهيل سفر جهاديين لسوريا    غوارديولا: سآخذ قسطًا من الراحة بعد نهاية عقدي مع مانشستر سيتي    ألمانيا تهتز على وقع حادث دموي في شتوتغارت.. سيارة تدهس حشداً وتصيب 8 أشخاص    أجواء حارة مرتقبة اليوم السبت بعدة أقاليم    كيوسك السبت | الحكومة تكشف بالأرقام تفاصيل دعم صغار الفلاحين و"الكسابة"    كبرى المرافئ الأميركية تعاني من حرب ترامب التجارية    الموت يغيّب المنتج المصري وليد مصطفى    قصف منزل يخلف 11 قتيلا في غزة    زيارة صاحبة السمو الملكي الأميرة للا أسماء لجامعة غالوديت تعزز "العلاقات الممتازة" بين الولايات المتحدة والمغرب (الميداوي)    توقيع اتفاقية إطار بشأن الشراكة والتعاون من أجل تطوير الحكومة الإلكترونية وتعميم استخدام ميزات الهوية الرقمية    حين تصبح الحياة لغزاً والموت خلاصاً… "ياقوت" تكشف أسراراً دفينة فيلم جديد للمخرج المصطفى بنوقاص    أشغال تجهيز وتهيئة محطة تحلية مياه البحر بالداخلة تبلغ نسبة 60 بالمائة    الجامعة الملكية المغربية تكرم المنتخب الوطني النسوي المتوج بكأس الأمم الإفريقية للفوتسال    الفنان محمد الشوبي في ذمة الله    الصحة العالمية تحذر من تراجع التمويل الصحي عالميا    "إغلاق أخضر" في بورصة البيضاء    دراسة: هذه الأطعمة تزيد خطر الوفاة المبكرة    دراسة: مادة كيمياوية تُستخدم في صناعة البلاستيك قتلت 365 ألف شخص حول العالم    كلية الآداب بالجديدة وطلبتها يكرمون الدكتورة لطيفة الأزرق    "موازين" يعلن جديد الدورة العشرين    خُوسّيه سَارَامَاغُو.. من عاملٍ فى مصنعٍ للأقفال إلى جائزة نوبل    وفاة الممثل المغربي محمد الشوبي    الزلزولي يساهم في فوز بيتيس    القهوة تساعد كبار السن في الحفاظ على قوة عضلاتهم (دراسة)    حقن العين بجزيئات الذهب النانوية قد ينقذ الملايين من فقدان البصر    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التجربة الإبداعية للكاتب العراقي غائب طعمة فرمان
نشر في بيان اليوم يوم 28 - 09 - 2011

انفراد بطاقة رؤيوية تنفذ إلى جوهر الحقائق الأساسية في الوجود
خلد اسم غائب طعمة فرمان (1990-1927) بما أبدعه وأنتجه، وما تركه عند قرائه ومحبيه من ذكريات وتذكر واستلهام للتاريخ والحنين إلى الوطن من منفاه واعتزازه الواضح بتراث وانتساب ولغة وعلاقات إنسانية تسجل له ولأدبه.
درس عدد من الباحثين والنقاد نتاجه المتنوع والمتعدد المجالات في أطروحات وندوات أكاديمية وأدبية، وتظل الحاجة باستمرار داعية إلى العودة إلى نتاجه الإبداعي والاستزادة منه في قراءة نصه وانعكاساته واقعيا ورؤيته في الواقع العراقي والعربي، روائيا وثقافيا.
ومن بين آخر الاطاريح البارزة عنه، أطروحة الناقدة فاطمة عيسى التي أعدتها في العراق ونشرتها في سلسلة رسائل جامعية ببغداد بعنوان: غائب طعمة فرمان روائيا.
المعروف أن غائب ولد ببغداد عام 1927 في أحد أحيائها الشعبية الفقيرة، من أسرة معدومة كانت تعاني الحرمان وشظف العيش، وأكمل دراسته الابتدائية والثانوية ببغداد وأصيب بمرض السل الرئوي في وقت مبكر، وسافر إلى القاهرة لدراسة اللغة الإنجليزية وآدابها وعاش حياتها الأدبية والثقافية المعروفة، حسب تمهيد الكتاب.
ولخص الكاتب الروائي تجربته هذه بمراحل ثلاث هي: مرحلة التراث العربي، الشعر، النثر، الكتب والدواوين الأربعة التي كان ابن خلدون يعدها أصولا وما سواها توابع وفروع... أدب الكاتب، كتاب الكامل، البيان والتبيين، وكتاب النوادر، وأنا ما أزال أرجع إلى هذا التراث، كلما أحس بضائقة نفسية، وأية متعة في الدنيا تعادل هذه المتعة.
والمرحلة الثانية: حركة الترجمة التي بدأت أثناء الحرب العالمية الثانية الوافدة من مصر وسوريا تعزف على نغمات من الأدب الفرنسي والإنجليزي والروسي.
والمرحلة الثالثة: ذهابي إلى مصر في مدة أعدها من أنشط الأزمان للحركة الأدبية في هذا البلد الشقيق، وتصوروا طالبا في السنة الأولى من كلية الآداب في جامعة القاهرة قادما من العراق، يشهد مجلس الزيات في يوم الأربعاء، وفي يوم السبت كنت أشهد مجلس سلامة موسى في جمعية الشباب المسيحيين، وفي ظهيرة كل يوم جمعة كنت أشهد المجلس الطليق الطليعي، مجلس الأدباء الشبان الواعد المبشر بكل خير، مجلس نجيب محفوظ في مقهى الأوبرا.
نقلت الدكتورة فاطمة عيسى عن حوار مع غائب عن موضوع تأثره بالكتاب قوله: نعم أنا أتأثر بما أقرأ وأبحث وأتعايش وأستفيد وأوظف ذلك ضمن اجتهاداتي وأسلوبي والقاسم المشترك الذي أثر في جيلي من الأدباء العرب هم: همنغواي، فوكنر، تولستوي، ديستوفسكي، تورجنيف، وغيرهم. تأثرنا بأساليبهم، وحتى في رسم الشخصيات حسب ما أرادت في أعمالهم وشخصياتهم. وتأثرت بنجيب محفوظ بناحيتي السرد والمعالجة القصصية، ولا زلت مستمرا في قراءة نتاجات الكتاب العرب، كيوسف إدريس، وجبرا إبراهيم جبرا، وحنا مينا وغيرهم. فان جيلنا من الروائيين والقصاصين قد دخل معترك التجريب والتجديد في البناء القصصي والروائي في الخمسينات أيضا.
هذه المقدمة ضرورية للتعريف بالروائي الراحل ومعرفة أساليبه وقدراته ومصادرها الإبداعية وتنوعها وتوزعها وتأثيراتها على نصه وأقرانه والعلاقات الأدبية في زمنه الإبداعي والحياتي من الحركة الأدبية العربية، وفي المنفى حيث عاش ومات.
وللروائي المبدع نتاجات متنوعة، موزعة بين القصة القصيرة والروايات والكتابات السياسية والترجمة، التي كانت مصدر عيش وتثاقف مقارن. فقد أصدر منذ عام 1954 أول مجموعة قصصية له بعنوان: حصيد الرحى إلى روايته الأخيرة التي صدرت عام 1989 بعنوان المركب. مولود آخر مجموعة قصصية، والروايات: النخلة والجيران، خمسة أصوات، المخاض، القربان، ظلال على النافذة، آلام السيد معروف، المرتجى والمؤجل. وترجم نحو ثلاثين كتابا معظمها قصص وروايات روسية، ونشر الحكم الأسود في العراق بالقاهرة عام 1957، وقصص واقعية من العالم العربي بالاشتراك مع محمود أمين العالم.
الباحثة الدكتورة فاطمة عيسى تناولت الموضوع في مقدمة وتمهيد وثلاثة فصول وخاتمة إضافة إلى المصادر والمراجع، بحثت في الفصل الأول في السرد وأبنية الحدث، ثم درست في الفصل الثاني الشخصيات في روايات غائب والفصل الثالث قرأت الزمان والمكان في الروايات. وهي في بحثها تعمقت في البناء الفني والسرد وتأثير المكان والزمان في الرواية وفي عالم غائب الروائي، مستنبطة منه قدراته الإبداعية وأجوائه التي استطاع الغوص فيها والتعبير عن حياة أبطالها في لغة روائية متميزة. وفي تمهيدها الذي استعرضت فيه أقوال العديد من النقاد والدارسين لغائب توصلت إلى استنتاج مفاده تأكيد «أقوال وآراء وشهادات عدد من النقاد والباحثين العرب والعراقيين أن غائبا يحتل موقعا مرموقا في الأوساط الأدبية والفنية والنقدية ونسجل له حضوره الدائم والمتميز في الصحف والمجلات العالمية والعربية والعراقية وانه يمتلك أدواته الفنية التي منحته البراعة والمهارة الإبداعية المتميزة التي تعج بها الساحة الأدبية» (ص 21).
وكتبت الناقدة عن هذه التطورات عند غائب: ينفرد غائب بطاقة رؤيوية تنفد إلى جوهر الحقائق الأساسية في الوجود وبقدرة على التعبير تتخطى اللغة التقريرية إلى لغة مجازية إيحائية.. استطاع أن يضيف بعدا جديدا وامتدادا فسيحا في مسيرة جهوده الروائية، وان يقدم صورة صادقة للمجتمع العراقي في العقود الأخيرة من القرن العشرين.. في زحمتها.. وتحولاتها.. لم تكن هذه الصورة الفوتوغرافية تاريخية ولكنها كانت من منطلق واع ورؤية واضحة. ونؤكد هنا دور غائب الكبير في تأسيس مكانة للرواية العراقية الفنية الناضجة في الأدب العربي الحديث، ولا يمكن لأي باحث أن يتحدث اليوم عن الرواية العراقية دون الحديث عن أعمال غائب الروائية، وليس من الغريب أن تصبح شخصياته الروائية مثل سليمة الخبازة وحمادي العربنجي ومصطفى وخاجيك ودبش ومظلومة وصباح شخصيات معروفة لدى القارئ المتابع للرواية العربية في العراق. (ص 22).
بحثت الناقدة فاطمة في فصولها الثلاثة عن غائب روائيا، محللة السرد وأبنية الحدث في رواياته وقارئة سمات وأنواع الشخصيات في عالمه، ورابطة كل ذلك في استخدامات الزمان والمكان في فنه الروائي وإنتاجه الإبداعي. حيث شرحت معنى السرد وقسمته إلى ثلاثة أنماط، السرد الموضوعي، والسرد الذاتي، والسرد المختلط، وجدت أن غائبا أبدع بالنمطين الأولين، ولم ينل الثالث نصيبا كبيرا من اهتمامه. ونقلت عن الشكلاني الروسي توماتشفسكي إشارته إلى السرد الموضوعي من أن الكاتب «يكون فيه مطلعا على كل شيء، حتى الأفكار السرية للأبطال». ورأت أن غائبا منح الراوي العليم السطوة على سرد رواياته لأنه يكون عليما بكل ما يخص الشخصية ويتعلق بها محايدا في رؤيته لها أمينا على التعريف بها. واستنتجت أن الطابع السردي الغالب على روايات غائب هو السرد الموضوعي ونتيجة لغلبته وكثرته اختارت الناقدة النموذج له في روايته (المرتجى والمؤجل). فحللت النص الروائي مؤكدة ما وسمته به من هذه الناحية. وصولا إلى أن الناقدة تقول بإمكانية أن الروائي استعان بوسائل متنوعة وتقنيات متعددة في السرد الموضوعي أضفت على روايته حيوية وحركة وقوة تأثير في نفس القارئ. وهذا أدى إلى انشداده وانجذابه إلى قراءة الرواية والاندماج بجزئياتها السردية، فضلا عن انه ختمها بنهاية مفتوحة. وهذه سمة من سمات غائب الفنية أنه يمنح قارئه الحرية في التفكير والاستنتاج والخروج ببعض الحلول التي تكشف القدرة والإمكانية التعبيرية لدى القارئ عندما يتركه يفكر ويستنبط ما تؤول إليه من نتائج وحلول. (ص:32-31). كما يحتل السرد الذاتي ركنا بارزا من روايات غائب، وبخاصة روايات (خمسة أصوات) و(المخاض) و(ظلال تحت النافذة)، كما رأت الناقدة ويكون مبثوثا في رواياته المتبقية بشكل متوازن مع غيره وتأخذ رواية (النخلة والجيران) وشخصية الخالة نشمية مثالا في منولوجها عن حياتها الشخصية. وضعت الناقدة وصفا لسمة من سمات هذا السرد في المزج بين الماضي والحاضر، كما هو الحال في رواية (المخاض) واسترجاع بطلها كريم داود لعلاقته الغرامية ونقلت من النص ما يثبت ذلك، لاسيما في قول الراوي: تكلم الملعون كلمات طيبة. ربما أنا وخزت ذكرياته، وإنما الذكريات إذا فاضت لا ترحم تملأ جوانحنا بحنين مخبول، وتجعل الماضي يسير في شوارع الحاضر كموكب الحلم. (ص35). وانتقلت الباحثة إلى الرؤى السردية فذكرت: يكاد يتفق معظم النقاد والباحثين أن هذا المفهوم هو جديد استخدمه النقد الإنجلو - أمريكي في بدايات هذا القرن (الماضي طبعا) مع الروائي هنري جيمس، وعمقه أتباعه وبالخصوص بيرسي لوبول في كتاب (صنعة الرواية) الواضع الأساسي لأحجار زاوية الرؤية، فالرؤية تعني «المعلومات التي يقدمها الخطاب تتقولب دائما حسب منظور أو وجهة نظر تعكس العلاقة بين من يحكي والعالم الروائي المتخيل». وناقشت اطروحات النقاد حول الرؤى السردية إلى أن تنقل عن تودوروف فهمه لها في تنوعها إلى ثلاثة أصناف مع رسوماتها وشروحها، وكلها تدخل في صلب العمل الروائي وتتداخل في الصنعة الفنية للرواية وجدت الناقدة تطبيقات لها في روايات غائب، منتقية من بينها رواية المركب في تحليلها، ملاحظة هذا التعاقب والتداخل بين مختلف الرؤى الخارجية والداخلية من خلال اختفاء الراوي وحضور الشخصية الروائية أو ضمور الشخصية وظهور الراوي العليم. (ص46). وانتقلت إلى وسيلتي السرد، الحوار والوصف، وطبقتهما على العديد من النصوص الروائية لغائب، لتكمل الفصل في استقراء أبنية الحدث، والانطلاق من أن ترتيب الأحداث في الرواية وأولوية ذكرها هو جزء أساس من تشكيل الرواية وبنائها بناء فنيا متماسكا. ونظرا لأهمية العلاقات القائمة بين الأحداث وترابطها مع بعضها بعض رأت الباحثة هذا الترابط يتم بطرق مختلفة وتتمثل هذه الطرق أو العلاقات في صور التتابع الزمني، في البناء المتتابع/المتسلسل، أو البناء المتداخل، أو البناء المتضمن، أو البناء المكرر/اللولبي أو الدائري، أو البناء المتوازي وتطبق هذه البنى على الروايات ونجاح المؤلف في استخدامها، وأوجزت أن الراوي يعتمد في بناء الحدث في اغلب رواياته اللقطات السريعة الموحية التي تخلق مع سواها في نفس القارئ انطباعا يمهد لتلقي النبأ الأخير، واختيار الحدث يعد من ميزات الرواية الفنية. (ص76). وأستنتجت في خاتمة الفصل قدرة غائب الفنية في اختياراته للأبنية التي تخدم رؤيته وكشفه للواقع روائيا.
حاولت الناقدة في بحثها عن الشخصيات في روايات فرمان التأكيد على الأهمية التي وظفها الروائي لها باعتبارها الركن الأساس في البناء الفني وابرز أوجه الرواية الحديثة وارتباطها الوثيق والفعال مع العناصر الروائية التي تكون لحمة النص. وبحثت في أنماطها وكيفية تعامل الروائي معها في نصوصه المدروسة. منتقلة في تحليلها بين الشخصيات الرئيسية ودورها في الرواية والشخصيات الثانوية ومن ثم الشخصيات الإيجابية، والثابتة أو الجاهزة الجامدة وكذلك في الشخصيات المغتربة، وطرق رسمها والإبداع في نقلها والقدرة على فهمها وإيصالها إلى القارئ. لتستنتج أن غائبا استطاع أن يعبر عن الشخصية العراقية بظروفها المتباينة وأمانيها وأهدافها في الحياة الحرة الكريمة، وعلى هذا اجتنى أبطاله من الطبقات الفقيرة المعدمة، الكادحة من اجل لقمة العيش، وقد نجح في تصوير واع تلك الطبقة، (كما رأى ناقد) وان الشخصيات المعالجة في النصوص المحللة مستقاة من واقع اجتماعي بائس ويبدو من خلال أفعالها وأقوالها وأنماط تفكيرها، فهي تعيش مع شخصيات أخرى تتفاعل معها وتتعالق بها، يمكننا أن نجدها في الواقع الذي نحيا بأسمائها وأفعالها التي قامت بها داخل النصوص. (ص124). معتمدا على حيوات الناس البسطاء، كما ختمت بحثها في هذا الفصل، الذين يعيشون في الأحياء الشعبية القديمة، وهم الخيوط التي ينسج الروائي عبر متابعته آمالهم ومشكلاتهم وهمومهم اليومية، عالما روائيا جديدا، هو عالم الإنسان الكادح في نضاله اليومي.
وجدت الناقدة للزمان أهمية كبيرة في روايات غائب، بما أن الرواية تجسد اقتطاعا من الحياة، «أي اقتطاع أحداث تجري في الزمان، أي أن كل رواية هي في مجموعها تمثل لحظات زمنية مشبعة بالأحداث ومتصلة بعضها ببعض، وهذا يدفعنا إلى الاسترشاد بمقولة جان ركاردو: «أن كل عمل روائي غير مستقل عن السرد الروائي الذي يبنيه لذا ينبغي أن نحدد زمنيته حينئذ على المستوين اللذين يحددان كلا من زمن السرد الروائي وزمن القصة المتخيلة». (ص127). وانتقلت الناقدة إلى التفصيل في استخدامات الزمان، الخارجي والداخلي وتقسيماته الطبيعي والنفسي والتاريخي والكوني وتحللها كما في الأنساق الزمنية في روايات غائب، وعززت بحثها بما يتطابق مع رؤيتها النقدية وتصوراتها لهذا العامل في الفن القصصي وموضوعها، لتصل إلى أن غائبا استخدم الزمان بكل تموجاته، وأنساقه مخترقا في ذاكرة الشخصية بين الذاكرة والواقع، أي بين الماضي والحاضر، فهو في الوقت الذي يتكلم فيه عن الزمن الحاضر، يترك أبوابا مشرعة للارتدادات الزمنية صوب مراحل معينة. (ص152). ورأت الباحثة أن للزمن في روايات غائب نصيبا كبيرا تمثل في الأنساق الزمنية، ولكن كان للنسق الزمني في اتجاه الماضي (حصة الأسد) أن صح التعبير، فقد طغى طغيانا كبيرا على الأنساق الأخرى نتيجة اعتماد الكاتب على ذكرياته الماضية وأحيائها في رواياته، لأنه عاش غريبا عنها، تركها منذ ثلاثين عاما تقريبا. ولكنه مع هذا استطاع أن يقدم الزمن واتجاهاته وطبيعته ضمن ملامح محددة من العلاقات وأنماط العيش وطموحات الناس وأحلامهم، وحتى الكوابيس التي تقض مضاجعهم والتلاعب بالأزمنة عمل جمالي أحسنه غائب واستخدمه في معظم رواياته. (ص153).
وبحثت الناقدة المكان أيضا، وأهميته كمكون أساس في النص الروائي، وتقتبس من ناقد قوله «يجعل هذا المكان يبدو كما لو كان خزانا حقيقيا للأفكار والمشاعر والحدوس حيث تنشأ بين الإنسان والمكان علاقة متبادلة يؤثر كل طرف فيها على الآخر. (ص 154). والمكان يكتسب هويته من هوية الإنسان الذي يعيش فيه تماما كما يؤثر في الإنسان فيكسبه هوية خاصة، والكاتب لا يمكن أن يصور أو يقدم مكانا مجردا من التجربة الإنسانية. وهذا ما وصلت إليه الباحثة في روايات غائب، حيث يشكل عنصرا داخليا في العلاقات الروائية، لا تتحرك الشخصيات فيه، وإنما تنمو فيه، وتظل لصيقة إلى حدود الاندماج. والناقدة تعرف أو توصف الروائي الواقعي بأنه يعير المكان أهمية كبيرة بالقدر الذي لابد منه ليبين تأثير ذلك في شخصياته الذين هم بدورهم جزء من الواقع. ومن هنا تحدد أنماط المكان، كمكان جاذب أو طارد أو تاريخي، وهذه الأنماط المتنوعة تجسد الاهتمام المتزايد بالمكان لدى الروائي العراقي، وترى أن المكان لدى غائب لم يكن مكانا يؤطر على وفق منظور الروائي التقليدي أي انه يتخذه توطئة ومدخلا إلى عالم الرواية، وإنما يتحول المكان إلى قضية بحد ذاته، ولذلك لا نجد الكاتب يهتم بوصف الأمكنة المادية بل ينتقل بشكل سريع إلى ما هو اجتماعي وفكري، كما ترى أن غائب أعطى المكان أهمية بارزة في رواياته من خلال توظيفه في إضاءة الأحداث والشخصيات زيادة على استخدامه لتقديم رؤية خاصة له، فهو يمثل خلاصة التفاعل بين الإنسان ومجتمعه، لأنه يجسد الكيان الاجتماعي له. (ص160).
ختمت الناقدة مؤلفها باستنتاجاتها، وتقاربت مع اغلب دارسي غائب في قراءاتهم المنشورة، في فهم عالمه والغوص فيه، نقدا وتحليلا واستكشافا، مع التباين أحيانا في منطلقات الناقد والنقد الذي مارسه في دراسته. فالباحثة فاطمة حللت عالم غائب الروائي من خلال تعاملها مع الشكل الروائي بوصفه بنية شكلية أساسا، أي كما تكتب هو تركيب مستقل بأجزائه ومكوناته، وعالم مقنع بذاته وصفاته الماثلة فيه. فلاحظت اهتمام الروائي بمختلف الأساليب والخلفيات، وانتقائه للأحداث بما يجعل الرواية عالما حيا خاليا من القوالب الجامدة، واستفادته من الحس الدرامي والفن السينمائي والتكنيك المسرحي في بناء رواياته وقدرته على خلق الأجواء المناسبة التي تعتمد على الفهم النفسي والاجتماعي للناس الذين كتب عنهم. وقدرت اهتمام الروائي بالبطل في أعماله، كوحدة اجتماعية تحمل إلى جانب مميزاته الشخصية مميزات شعبه، لتنتهي عند قدرته على التلاعب بالزمن والمكان لإعطاء قيمة معينة لهما في العمل الأدبي.
ذكرت الدكتورة فاطمة عيسى أن اختيارها بعد تقديم أهمية الرواية والروائي لسببين: الأول: موضوعي، فالروائي غائب الذي اخترته واحد من الروائيين العراقيين القلائل الذين أسهموا منذ العقد الخمسيني في رفد المسيرة الروائية والحركة الإبداعية في العراق والوطن العربي قصصا وروايات ومقالات ودراسات كان لها اثر واضح على صعيد التطور الروائي.. فهو والحالة هذه يعد من الذين تحسب جهودهم ضمن مرحلة التطور والتجريب والتجديد التي ازدهرت آنذاك.
والثاني: ذاتي، وهو التقائي مع غائب في معاناة الغربة والاغتراب، فكان لهذه المعاناة طعمها الخاص ونكهتها الممتعة الموجعة في البحث ومواصلة الدراسة.
يظهر هذا الحب للكاتب المبدع والإنسان غائب طعمة فرمان عند باحثيه واضحا، وقد يكون جزء من اهتمامهم في عوالمه الإبداعية وانغماسهم في البحث فيها وإصدار بحوثهم منشورة، تكريما للموضوع والجهد والتاريخ الأدبي والسياسي أيضا، كما أن الكتاب إضافة نوعية للنقد الأدبي في العراق ونقد الرواية العربية ودراسة موضوعية نقدية لرائد مهم في الرواية الفنية والإبداع القصصي العربي المعاصر.
كاتب عراقي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.