تحكي العديد من الوقائع المتداولة بين الأسر في العديد من المناطق، أن بعض المواطنين استقبلوا الشاشة الصغيرة بمزيج من الدهشة والاستغراب، خصوصا عند ظهور صور في القناة لأشخاص يتحركون ويتحدثون ويضحكون ويتشاجرون ويمارسون حياتهم العادية وربما الخاصة، مثل ما هي في الواقع. وكانت نساء البيت، خصوصا، يحرصن على مشاهدة التلفزة في كامل لباسهن الذي يخرجن به للشارع خوفا من كشف أنفسهن أمام رجال غرباء ! وكان هذا من بين تأثيرات هذا الجهاز على الحياة التقليدية للمجتمع في فترة معينة. ومنذ ذلك الحين تعززت أهمية التلفاز كأداة أساسية لتأكيد وتوحيد النسق الثقافي والمعيشي للمواطنين في كل أقاليم المملكة، حتى في تلك المناطق التي كانت تحت تأثير العزلة، حيث كان من الممكن أن ينتج عن تلك العزلة أنماطا حياتية مختلفة قد تؤثر في النسيج الموحد للبلد. غير أن التلفزة ومنذ أول التقاط لذبذباتها عبر الأثير الوطني، كانت دائما مثار جدل بين الناس، حيث ما زالت صورة التلفزة في المخيال الشعبي للمواطنين تحمل إرهاصات من الماضي، أي من تلك البدايات الأولى لاكتشاف الجهاز السحري من طرف المواطنين. وقد تجدد ذلك الجدل حول الأدوار التي يجب أن تقوم بها التلفزة في الواقع المغربي مع إقرار الوزارة المعنية لدفتر التحملات الخاص بالقنوات العمومية خاصة القناة الثانية. فقد شارك مدراء وموظفون، متخصصون وغير المتخصصين في ذلك النقاش، كل حسب مفهومه لأدوار القناة العمومية ومرجعيته التي ينطلق منها. حتى أن بعض المشاركين في النقاش لم يبقى لهم إلا أن يقولوا أيها الشعب لولا الكهرباء لشاهدنا التلفاز في الظلام !! وبغض النظر عن أحقية الحكومة في تطبيق برامجها، التي على أساسها، حصلت على مقاعدها في البرلمان. وأيضا بغض النظر عن كون القطاع يتوفر على مؤسسة خاصة بضبط التقنين في هذا المجال، وكذلك عن أحقية الجميع في إبداء رأيه في النقاش العمومي. فإن صلب المشكل في القناة العمومية الوطنية أنها لم تستطع في يوم من الأيام خلق نموذج مغربي يليق بالخدمة العمومية، التي يجب أن تقدمها القنوات التابعة لها بشكل يراعي كافة الحساسيات الوطنية. فقد ظل التلفزيون الوطني منذ نشأته يشتغل بأسلوب مشابه للقناة الصغيرة، أي تلك القناة التي تشبه صبحية للصغار في دار للشباب، حيث لا يتعدى برنامجها العام بعض السكيتشات وبعض الأناشيد وبعض الأخبار الخفيفة، ولهذا لم تستطع القناة أن تخلق أبدا ذلك المنشط أو المقدم/النجم الذي يحرص المشاهدون على ترقب طلته وأسلوبه، بغض النظر عن قيمة المادة التي يقدمها. ربما يرجع الأمر لكون بعض من يعملون حاليا في الخدمة التلفزية العمومية قدموا من هذا البرنامج الذي كان يبث يوم الأحد والموجه للأطفال. ولم يستطيعوا حتى الآن إدراك التطور الذي عرفه المجال، خاصة مع انفتاح الفضاء ووفرة العرض من كل الجهات. إنهم لا يدركون أنه بعد سنوات قليلة، ويمكن منذ الآن، بإمكان كل مواطن، له إلمام صغير بلغة العصر، إطلاق قناته الخاصة من غرفة نومه. فقط يلزمه حاسوب وكاميرا، حتى يتمكن من مخاطبة الآف المشاهدين من كل الأصقاع. ويرجع فشل التلفزة العمومية في صناعة وتسويق نموذج مغربي للحياة، إلى كون هذا التلفاز اعتمد دائما على الحلول السهلة المنتهجة في معظم قنوات دول العالم الثالث، وهي استيراد النماذج الجاهزة من الدول الأخرى. هذه النماذج التي تحملها الأفلام والمسلسلات والبرامج والمنوعات والموسيقى. إنها كل الأنواع الثقافية المحتملة، والتي لها سلطة أكبر من سلطة الدول نفسها، ويمكن أن تنقل مناطق بأكملها من نموذج إلى آخر، بشكل هادئ ودون أن ينتبه أحد إلى التغيير الطارئ. ففي فترة كان الحضور المصري طاغيا في قنواتنا، حتى كان الأطفال في القرى النائية والفتيات في المداشر المنعزلة يحفظون عن ظهر قلب اللهجة المصرية ومصطلحاتها الموغلة في البداوة المصرية، والتي قد يجهلها المواطن المصري نفسه. وفي فترة أخرى، وعلى إثر شيوع الدبلجة، اكتسح التلفزيون الوطني النموذج اللاتيني. من يتذكر كوادالوبي وما فعلته في الأسر. كانت الشوارع أثناء بث المسلسل فارغة مثل ساعات الإفطار في رمضان، وفي كل يوم يكون حديث المواطنين والمواطنات عن آخر مشاكل كوادالوبي مع ألفريدو. وعندما استقدمت لأسبوع الفرس كان الجمهور الغفير يصيح كوادالوبي. الممثلة اللا تينية المسكينة لم تعرف ماذا يقصدون لأنها كانت قد نسيت أنها في يوم من الأيام تقمصت هذه الشخصية. ومؤخرا صار النموذج التركي هو المسيطر في قنواتنا. لقد حدث ذلك مع الحركية التي عرفتها السياسة التركية في المنطقة، وهي الحركية التي كانت مطلوبة على الصعيد العالمي في ظل التراجع الإقليمي لدول في المنطقة وبروز أخرى على الساحة، مما كان يحتم خلق نموذج منافس، يشكل النموذج التركي أفضل خيار لذلك الهدف الدولي. وبين نموذج وآخر، يملك هذا البلد ما لا يملكه غيره من المقومات الثقافية والكفاءات البشرية والمؤهلات الجغرافية والطبيعية والموقع الجيواستراتيجي ليخلق نموذجه الخاص، وليقوم بتسويقه أسوة بالدول الأخرى التي تجعل من المنتوج التلفزي مدفعيتها الهادئة، التي تمهد لدبلوماسيتها الوطنية، في جوارها ومحيطها الإستراتيجي. وهو ما لن يتحقق إلا بوضع النقاش في مكانه، والتفكير بشكل موسع أنه من الضروري رسم خريطة طريق موسعة وواضحة لصنع وتسويق نموذج حياة مغربية على الشاشة الصغيرة.