الدمناتي: مسيرة FDT بطنجة ناجحة والاتحاد الاشتراكي سيظل دائما في صفوف النضال مدافعا عن حقوق الشغيلة    تيزنيت: الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب ينظم تظاهرته بمناسبة فاتح ماي 2025 ( صور )    عندما يهاجم بنكيران الشعب.. هل زلّ لسانه أم كشف ما في داخله؟    وزراء خارجية "البريكس" وشركاؤهم يجتمعون في ريو دي جانيرو    كأس إفريقيا لأقل من 20 سنة.. المنتخب المغربي يدشن مشاركته بفوز صعب على كينيا    في عيد الشغل.. أمين عام حزب سياسي يتهم نقابات بالبيع والشراء مع الحكومة    صادرات الفوسفاط بقيمة 20,3 مليار درهم عند متم مارس 2025    تنفيذ قانون المالية لسنة 2025.. فائض خزينة بقيمة 5,9 مليار درهم عند متم مارس    "كان" الشباب: المنتخب المغربي ينتصر على كينيا ويشارك الصدارة مع نيجيريا قبل المباراة المرتقبة بينهما    أمطار طوفانية تغمر زاكورة.. وسيول كادت تودي بأرواح لولا تدخل المواطنين    الشرطة الإسبانية تعتقل زوجين بسبب احتجاز أطفالهما في المنزل ومنعهم من الدراسة    كلية الناظور تحتضن ندوة وطنية حول موضوع الصحة النفسية لدى الشباب    القهوة تساعد كبار السن في الحفاظ على قوة عضلاتهم (دراسة)    فرنسا.. ضبط 9 أطنان من الحشيش بعد سطو مسلح على شاحنة مغربية قرب ليون (فيديو)    فوائد القهوة لكبار السن.. دراسة تكشف علاقتها بصحة العضلات والوقاية من السقوط    نشرة إنذارية: زخات رعدية وهبات رياح قوية مرتقبة بعدد من أقاليم المملكة    كرة القدم.. برشلونة يعلن غياب مدافعه كوندي بسبب الإصابة    توقيف لص من ذوي السوابق لانتشاله القبعات بشوارع طنجة    لماذا أصبحت BYD حديث كل المغاربة؟    عمر هلال يبرز بمانيلا المبادرات الملكية الاستراتيجية لفائدة البلدان النامية    موخاريق: الحكومة مسؤولة عن غلاء الأسعار .. ونرفض "قانون الإضراب"    رحيل أكبر معمرة في العالم.. الراهبة البرازيلية إينا كانابارو لوكاس توفيت عن 116 عاما    المركزيات النقابية تحتفي بعيد الشغل    "تكريم لامرأة شجاعة".. ماحي بينبين يروي المسار الاستثنائي لوالدته في روايته الأخيرة    باحثة إسرائيلية تكتب: لايجب أن نلوم الألمان على صمتهم على الهلوكوست.. نحن أيضا نقف متفرجين على الإبادة في غزة    اتحاد إنجلترا يبعد "التحول الجنسي" عن كرة القدم النسائية    المغرب يجذب استثمارات أجنبية مباشرة بقيمة 9.16 مليار درهم في ثلاثة أشهر    تقرير: المغرب بين ثلاثي الصدارة الإفريقية في مكافحة التهريب.. ورتبته 53 عالميا    الحكومة تطلق خطة وطنية لمحاربة تلف الخضر والفواكه بعد الجني    تراجع طفيف تشهده أسعار المحروقات بالمغرب    أمل تيزنيت يرد على اتهامات الرشاد البرنوصي: "بلاغات مشبوهة وسيناريوهات خيالية"    المملكة المتحدة.. الإشادة بالتزام المغرب لفائدة الاستقرار والتنمية في منطقة الساحل خلال نقاش بتشاتام هاوس    معرض باريس.. تدشين جناح المغرب، ضيف شرف دورة 2025    عادل سايح: روح الفريق هل التي حسمت النتيجة في النهاية    العثور على جثة مهاجر جزائري قضى غرقاً أثناء محاولته العبور إلى سبتة    تسارع نمو القروض البنكية ب3,9 في المائة في مارس وفق نشرة الإحصائيات النقدية لبنك المغرب    الإسباني لوبيتيغي يدرب منتخب قطر    السكوري بمناسبة فاتح ماي: الحكومة ملتزمة بصرف الشطر الثاني من الزيادة في الأجور    أغاثا كريستي تعود للحياة بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي    دول ترسل طائرات إطفاء إلى إسرائيل    الإعلان في "ميتا" يحقق نتائج أرباح ربعية فوق التوقعات    فيدرالية اليسار الديمقراطي تدعو الحكومة إلى تحسين الأجور بما يتناسب والارتفاع المضطرد للأسعار    توقعات أحوال الطقس ليوم الخميس    أكاديمية المملكة تشيد بريادة الملك محمد السادس في الدفاع عن القدس    الدار البيضاء ترحب بشعراء 4 قارات    محمد وهبي: كأس أمم إفريقيا لأقل من 20 سنة (مصر – 2025).. "أشبال الأطلس" يطموحون للذهاب بعيدا في هذا العرس الكروي    طنجة .. كرنفال مدرسي يضفي على الشوارع جمالية بديعة وألوانا بهيجة    فيلم "البوز".. عمل فني ينتقد الشهرة الزائفة على "السوشل ميديا"    مهرجان هوا بياو السينمائي يحتفي بروائع الشاشة الصينية ويكرّم ألمع النجوم    مؤسسة شعيب الصديقي الدكالي تمنح جائزة عبد الرحمن الصديقي الدكالي للقدس    حقن العين بجزيئات الذهب النانوية قد ينقذ الملايين من فقدان البصر    اختبار بسيط للعين يكشف احتمالات الإصابة بانفصام الشخصية    دراسة: المضادات الحيوية تزيد مخاطر الحساسية والربو لدى الأطفال    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قضايا الريف في تشريح "الشجرة الهلامية" (الجزء1)

أصدر الحقوقي –السياسي المغربي، الذي ارتبط اسمه أكثر بقضايا الريف وبتجربة الانصاف والمصالحة المغربية روايته الأولى المعنونةب" الشجرة الهلامية"، و الرواية هي عبارة عن مئة حوار مع شجرة كانت تقابل منزله الباريسي الذي قضي فيه حجره الصجي الأول.
وأول من اهتم وشرّح عميقا "الشجرة الهلامية" هو المفكر العراقي المحامي الجامعي الحسين شعبان، رئيس جامعة " اللاعنف" ببيروت، والذي ارتبط اسمه سابقا كرئيس ل " اتحاد الطلبة الشيوعيين العرب" ، قبل أن قبل أن يؤسس بداية الثمانينات تيارا متميزا للتجديد والتغيير والنقد للتيار الاشتراكي واليساري، حيث تعكس مؤلفاته وكتبه ومساهماته المتنوعة انشغالات خاصة بقضايا الحداثة والديمقراطية والاصلاح والمجتمع المدني، واهتمامات فكرية لتطوير الفهم المتجدد لقضايا حقوق الانسان ونشر ثقافته وخصوصاً من خلال وسائل الاعلام.
في بداية تشريحه الذي بدأه بأبيات من قصيدة سعدي يوسف التي يقول فيها:
هل أضعنا الطريق؟
لا شك إني هرمت
وذاكرتي وهنت
مثل عينيك
بعد القصيدة يقول عن مؤلف الرواية:" بعد ساعتين ومن أول لقاء لي معه اكتشفت أنه صديق عتيق، جرب الحب مثلي وامتلأت رأسه بالأحلام والشيب وفاض كأسه الذي ظل مترعاً ... هكذا تخطت علاقتنا بسرعة فائقة الشكليات والبعد الجغرافي والسنون، فوجدنا أنفسنا دفعةً واحدة بجذور متشابكة وممتدة عميقاً مثل "الشجرة الهلامية" التي أطلقهإسمها على روايته الأولى، المدهشة والمثيرة، وإلى جوار هذا الاختيار كان يغنجها ويدلعها فيسميها ب "دولوريس" أو "لابوسيوناريا" مرادفاً للاسمالأول."
و هذا التشريح ينم على أن الكاتب قرا عميقا رواية الحقوقي-السياسي المغربي، حيث قسم دراسته الي أبواب تلخص المحتويات:الذاكرة تمطر وحشة وغموضاً وعطراً، أمازيغية واعتزاز، الهوية وتداعياتها، عالم مليئبالأسرار،ثلاث أشجار،النخلة عمتنا،المنولوج الداخلي،غادر السجن ولم يغادره السجن،الوسادة ثم الوسادة،هدم السجن: ماذا يعني؟، الهواجس،الجائحة والبداهة،استنطاق الحجر و البشر،بوذا وشجرة التين، النقد المزدوج وعقدة الهويّة، مطامح وطنية، ثم فقرة أخيرة عنونها ب : "روح مؤمنة" قائلا ليلخص محتويات الرواية :
إنه حوار الروح الذي أظهر فيه عبد السلام بو طيب شفافية عالية وحساسية إنسانية دفّاقة ولغة سليمة وأسلوب قص مشفوع بحبكة درامية مثيرة، فضلاً عن بوح أكثر انكشافاً ورؤية استشرافية إنسانية، حتى وإن كان ثمة هنّات أو اختلافات في التوجه والمنطلقات والتفاصيل، لكن الرواية "الشجرة الهلامية" تبقى عملاً مميزاً وفيه حرفيه عالية وخيال خصب ورؤية جمعت القلب والعقل في هارموني متسق حتى وإن تباعدا أحياناً، لكن موسيقى الكتابة والصور السينمائية والبصرية التي احتواها جعلت منه عملاً مثيراً وإيحائياً وجديراً بالقراءة.
وأختم مع سعدي يوسف
إتئدْ
وإهدأ الآن
وإنظر إلى عطر الياسمينة أبيضَ
قبل فوات الأوان
وأهتف من قلبي دولوريس هل تقبلين صديقاً لك أيضاً بتزكية من عبد السلام بو طيب ؟.
دليل الريف ستعمل على نشر هذا التشريح المعنون ب " "دولوريس "أو "الشجرة الهلامية"عبر حلقتين.

الجزء الاول
بعد ساعتين ومن أول لقاء لي معه اكتشفت أنه صديق عتيق، جرب الحب مثلي وامتلأت رأسه بالأحلام والشيب وفاض كأسه الذي ظل مترعاً ... هكذا تخطت علاقتنا بسرعة فائقة الشكليات والبعد الجغرافي والسنون ، فوجدنا أنفسنا دفعةً واحدة بجذور متشابكة وممتدة عميقاً مثل "الشجرة الهلامية" التي أطلق عبد السلام بو طيب إسمها على روايته الأولى ، المدهشة والمثيرة ، وإلى جوار هذا الإختيار كان يغنجها ويدلعها فيسميها ب "دولوريس" أو "لابوسيوناريا" مرادفاً للإسم الأول .
في حجره الباريسي الإجباري تزاحمت عليه الأيام والليالي، بل والسويعات، فلجأ إلى القص عبر حوار مع شجرته الأثيرة التي كانت منتصبة مقابل شباك شقته التي إكتراها، وأمام غرفة الإستقبال بالذات ، فبعد بضعة أيام ثقيلة أصبح صوته واهناً وعيناه حزينتين وحركته صعبة ، لكنه لم ييأس أو يستسلم وهو المرفوق بالأمل ، فاستفز ذاكرته بالحوار، حتى كشف عن بعض مكنوناتها ، وبالطبع حاضرها، وهي مستودعٌ للكثير من الحكايات والأسرار والمعلومات ، وحاول أن يقدمها بحبكة درامية لتجارب مريرة في غالبيتها، تعكس ثقافته الصافية والأنيقة.

الذاكرة تمطر وحشة وغموضاً وعطراً
لم يدع عبد السلام بو طيب لحظة تهرب من بين أصابعه أو اعتبار ما حصل امراً محبطاً ومؤثراً على معنوياته بحيث يعطل طاقته الإيجابية التي يُعرف بها، فاستدرج نفسه، مثلما استدرجته الذاكرة إلى التدوين والكتابة لرؤية تمطر وحشة وغموضاً وعطراً، رواية تشبه أعماق النفس البشرية، وأستطيع أن أقول تشبه عبد السلام بو طيّب كما عرفته.
لقد ابتدع أو عاش أو تخيّل أو استحضر حواراً مع دولوريس كجزء من منولوج داخلي، يسمع من خلاله صوتها الذي لا يسمع أحداً سواه، وهكذا مضت الأيام ال 100 بقدر ما هي ثقيلة فقد كانت مسرعة أيضاً وظل متعلقاً فيها بحواره السرّي مع الشجرة، تلك التي أستطع التعبير عنها بالحكمة الخفيّة، التي هي أقرب إلى مناجاة الروح، كأن يفتش فيها عن هويّته الأمازيغية ويتحدث عن الأمازيغيين ، خارج دائرة الشرنقة العنصرية المقيتة، ولكن ضمن إطار الخصوصية والهويّة الفرعية الواجبة الإحترام ، وقد وضع هدف الأمل كهدف سام ليسعى إليه دون تردد أو إكتراث للمعوقات والمنغصّات.
لم يخفي منولوجه الداخلي حزنه المعتّق على الرغم من ابتسامته التي لا تفارق محيّاه، لكن هذا الحزن صار مضاعفاً خلال فترة حصاره الباريسي، بسبب اجتياح العالم "فايروس كورونا" كوفيد 19 ، وبدلاً من الإحتفال مع ابنته الكبرى يسرا لتخرّجها من إحدى مدارس الهندسة، تمّ حجره ، وخصوصاً حين تم تعطيل الطيران إلى بلده وبقية أقطار العالم.

أمازيغية واعتزاز
لا يتردد الراوي في التعبير عن أمازيغيته بكل اعتزاز في جواب على سؤال دولوريس عن الأمازيغية، فيقول : أهل بلدتي في "الريف" حينما يشكّون بأحد يتظاهر بالدهشة، تكون إجابتهم حينئذٍ مليئة، ويتوقفون عند كل حكمة وهم يتابعون عيون المندهش، نعم ، هي أصلٌ ... وفصلٌ ... وجنسٌ...وعرق... ولغة...وثقافة...وتقاليد... وعادات لأبناء شمال أفريقيا الأصليين، وهي منطقة تمتد غرباً من جزر تاكتريت المعروفة اليوم بجزر الكناري أو الجزر الخالدات أو جزائر السعادة وهي لاس بالماس وتزييف وكراند كناري ( كناري الكبرى) وفوير تيفينثورا ولانزورتي وجزر أخرى كلّها تابعة لإسبانيا حالياً، إلى سيوه بمصر شرقاً وإلى تخوم النيجر جنوباً .
ورغم إنه لا يريد تقليب المواجع كما يقول، إلاّ أن ألمها يطفح حين يستعرض التاريخ أو يدع الشجرة تستعرضه بدلاً عنه في لعبة ذكية بتبادل المواقع، لكن التاريخ لا يمكن استعادته ولا بدّ للإستفادة من دروسه وعبره للحاضر والمستقبل.
الهوية وتداعياتها
لكن عبد السلام الذي يبدي حساسية عالية إزاء الغزوات التي تعرضت لها المنطقة، سرعان ما ينتبه وكأنه في غفلة عن المتاجرين بالهوية، فيقول: إن مأساة اللغة الأمازيغية يا صديقتي دولوريس تكمن في أنها ذهبت ضحية بعض المدافعين عنها، وهو يقصد المتطرفين فيها ضد الآخر، سواء كانوا بحسن نيّة أو بغيرها مثلما ذهبت ضحية بعض المتعصبين للغة العربية من القوميين (بمعنى التسيّد) وهؤلاء وأولئك لا تهمهم اللغة العربية أو اللغة الأمازيغية وإنما همهم الأول هو التجارة الرابحة، وبمعنى أكثر من ذلك يقول فقد استعملت اللغة الأمازيغية كحطب " نبيل" في حرب إيديولوجية، وإن إستشكلت عليه اعتبار اللغة العربية لغة غزاة كما أسمتها دولوريس ولعلّ وقفة مثل هذه تحتاج إلى حوار جاد ومعرفي برأس بارد وقلب حار.

عالم مليئ بالأسرار
عالم عبد السلام بو طيب لا ينفتح بسهولة على الرغم من بساطته، ولكنه يبقى غامضاً ومبهماً وهو بحاجة إلى جهود استثنائية وإلى محفزّات، فأقفاله مصنوعة بدقة لأن خزانته تحتوي على أسرار وخفايا وخبايا ومشاريع وتكوينات بصرية وسمعية وطموحات سياسية ومساومات وتحالفات مختلفة، وقد تبدو متناقضة، فهذا هو عبد السلام وعلينا أن نأخذه كما هو بتناقضاته وتضاداته واجتهاداته.
وكما يقول الجواهري شاعر العرب الأكبر:
ولم أر في الضدائد من نقيضٍ
إلى ضدٍ نقيضٍ من ضريبِ
حاول عبد السلام أن ينظر إلى دولوريس وكأنها تعتمر قبعة كبيرة هي أشبه بمظلّة وأخذ يتفيأ تحت ضلالها، ناظراً إلى مفاتن الجمال التي يترصع بها صدرها، مثل أضواء ملوّنة، وأخذ يبوح لها ما لم يستطع أن يبوح لغيرها، حتى لحبيبته وزوجته، ومثل هذا البوح المكبوت لسنوات طويلة كا ن تعبيراً عن أصوات عاشت بداخله، وهي أصوات غير متجانسة أحياناً، لكنها تشكّل هارموني شخصية عبد السلام التي تكوّنت عبر التراكم والتداخل والتفاعل والتراكب ما بين المرحلة الإيمانية التبشيرية ووصولاً إلى المرحلة التساؤلية العقلانية النقدية كل ذلك في فضاء الرؤية بزوايا المختلفة والحادة أحياناً.
وهكذا كانت سرّديته مفعمة بالأسماء والشخصيات والشعراء والفنانين والبيوت والوجوه والأزمان والمراجعات والنقد، قدّمه على نحو ممتع وشائق، مصحوباً بثقافة عالية وذائقة رائعة وأبعاد جمالية زاهرة.

ثلاث أشجار
حين قرأت روايته "الشجرة الهلامية" إستحضرت ثلاث أشجار كانت حاضرة في ذهني، إثنتان منها في طفولتي وفتوتي الأولى، والثالثة قبل عقد ونيّف من الزمان، ولعل حبر عبد السلام الحقوقي كان له لون أدبي شفيف آمتزج بوجدانية عالية وصورٍ مبهرةٍ وخلاصات حياتية عميقة، وإن كنت لا أتفق مع بعضها، لكنني لا أستطيع إلاّ أن آخذها كجزء من قناعاته التي أحترمها.
أولى الأشجار التي تركت في ذاكرتي شيئاً أثيراً لا يمحى، هو شجرة السدر التي كانت تتوسّط فناء (حوش)بيت جدّي الكبير، وكنّا نهزّها في فترة الظهيرة حين كان الجميع يغطون في قيلولة، ليتساقط "النبق" اللذيذ وهو من الثمار النادرة، وكأنه أقمار ملونة، وكانت الشجرة تزهو به وتحمله كدرر على صدرها. كان يستفز النسوة الكبيرات حين يسمعن تساقط النبق بالطريقة التي نقوم بها، أي باستخدام عصا طويلة نخبؤها في سطح المنزل، محاولين استنزال النبق بواسطتها بضرب الأغصان الكبيرة.
كانت غزوة "أم معين" زوجة الحاج عبد وهي شديدة الصرامة تعتبر شجرة السدر مقدّسة وهي "علوية" أي أن نسبها يعود إلى الرسول محمد ، في حين أن اسمها العلمي يُعرف بأنها شجرة المسيح في اعتقاد دارج بين بعض المسيحيين بأن الإكليل الذي توج به السيد المسيح قبل أن يُصلب، وقد جاء ذكرها في القرآن الكريم باعتبارها "من الأشجار الموجودة في الجنّة" ويستخدم ثمارها "النبق" ولحاؤها وأوراقها وجذورها في الكثير من العلاجات، ويعتبر عسلها المنتج من أغلى أنواع العسل ثمناً، وهو موجود في اليمن ويسمى "عسل السدر الدوعني" أما الحاجة زهرة "أم ناصر" وهي زوجة الحاج حمّود شعبان شقيق الحاج عبد الأكبر ووالدتها تاضي التي فقدت بصرها ومن ثم فقدت قدرتها على التنقل وأصبحت مقعدة، فكانتا دائماً ما تحذّران من استخدام تلك الطريقة في جني ثمار شجرة السدر، وغالباً ما كان الكلام موجهاً لي باعتباري المحرّك لتلك "العملية" وينصحن بانتظار أن يسقط "النبق" الناضج لنجمعه ونغسله ونأكله بدلاً من إسقاطه بواسطة العصا الطويلة، التي يتم اكتشافها بين فترة وأخرى فيتم إخفاءها .
وثانيها – شجرة التوت في الكوفة قرب قصر الملك، وبالمناسبة كانت شجرتان، واحدة للتوت الأبيض وأخرى للتوت الأسود أو الأحمر المائل إلى اللون البنفسجي ولا أتذكر إنني أكلت توتاً في حياتي أطيب من توت تلك الشجرة الفضيّة والأخرى البنفسجية، وفي كل مرّة وفي الفصل الخاص كنّا نذهب إلى الكوفة لنجلس تحت الشجرتين، نجدهما مزدانين بالثمر، بل وإنهما مضاءتان بزهو وكأنهما ينتظراننا. ذهبت في المرّة الأولى ولعدة مرّات مع العم شوقي ، وكنا نأكل ما لذّ وطاب، وقد ذهبت فيما بعد مع بعض الأصدقاء ومنهام علي الخرسان وسهام ماضي وعبد الأمير السبتي ومحمد الكويتي وجواد نقش ومرة واحدة مع عبد الأمير الغرّاوي وعلي الخرسان وآخرين لا أتذكّرهم.
وثالثها- شاهدتها وصوّرت بجانبها كانت في ساوباولو (البرازيل) حيث شيّد تحت أغصانها المرفوعة بسقف شفاف مطعماً راقياً إسمه Figuerie Rubaiyat ، وفي هذا المطعم وعشية عيد رأس السنة الميلادية 2008-2009 عرفت بالعدوان الإسرائيلي على غزة والمعروف بعملية "الرصاص المصبوب" وأطلقت عليها المقاومة الفلسطينية "معركة الفرقان" واستمرت 23 يوماً. لا أعرف كم حجم الشجرة أو طولها، لكنها بصورة تقريبية، وحسب النظر، فإنها تمتد يميناً بنحو 15- 20 متراً ويساراً بنفس القدر حيث تخرج بعض أغصانها إلى الشارع العام من تحت السقف الشفاف. وكنت قد جئت على ذكرها أمام الصحافي الكبير جهاد الخازن فقال لي أنه كتب عنها وعن المطعم المذكور خلال حضوره أحد المؤتمرات في ساوباولو.
لعل شجرة بو طيب الباريسية أو "الهلامية" ستكون الشجرة الرابعة التي لا بدّ أن أضمّها إلى الأشجار المميزة التي أحبّها وسأذهب لأقتفي أثره، فعسى أن تنفتح قريحتي ويتحرك قلمي كما انفتحت قريحته وكما داعب قلمه الأنيق الوريقات البيضاء، وكل شيئ يتعلق بالبقاء على قيد الحياة، وهنا لا أريد أن أتحدث عن أشجار النخيل التي كانت تزدان بها حدائق بيوتنا وبساتيننا في الكوفة، بل غابات النخيل والأصح بحار النخيل العراقية التي دمرّت الحرب العراقية – الإيرانية تلك الثروة، لا سيّما حين تم قطع رؤوس نحو 6 ملايين نخلة وتلويث البيئة والعبث بالطبيعة بتلك الطريقة اللاّإنسانية في حرب لا معنى لها .

النخلة عمتنا
فهذه "عمتنا النخلة" التي وردت في أحاديث الرسول محمد وجاء ذكرها في العديد من الآيات القرآنية، تعود أصولها إلى العهد السومري والبابلي والآشوري وقد قننت في شريعة حمورابي (المادة 59) ونصت على تحريم من يقطع نخلة واحدة.
وكما يقول أبو العلاء المعري:
وردنا ماء دجلة خير ماء
وزرنا أشرف الشجر النخيلا

المنولوج الداخلي
يقول المنولوج الداخلي في حوار مع الشجرة الباريسية: بعد حين جاءني صوتها خفيفاً متموّجاً يشبه الأثير، فخاطبتهُ: صباح الخير سيدي، طاب نهارك، يسعدني أن أرحب بك في مدينة الجن والملائكة "باريس" وحين يكون السؤال بأي لغة كان الحديث مع الشجرة يستنفر صاحب الذاكرة لأن الأمر حسب وجهة نظره يتعلق بالأمازيغية ، فيحتج ليقول وحتى دون إشارة إلى ذلك " إنها ليست لغة ميتة ... إنها أم لغات المنطقة "مدفوعاً بالشعور بالفداحة والإستلاب والتهميش.
في اليوم التاسع والثلاثين تبدأ لواعجه تتداعى فتسأله الشجرة لماذا أنت حزين؟ وكان جوابه طريفاً ومعبراً في آن: أنا مشتاق لوسادتي ، وهنا تذكرت سعدي يوسف حين يعبر عن غربته بقوله في ديوانه الأخضر بن يوسف ومشاغله:
يبلل ماؤه طعم الوسادة في ليالي النوء والحسرة
ويأتي مثل رائحة الطحالب أخضر الخطوات يمسح كفّي اليمنى
بغصن الرازقي أفق
أنا النهر
ألست تحبني
أولمْ ترد أن تبلغ البصرة
بأجنحة الوسادة؟
أيها النهر
أفقت...أفقت
فوق وسادتي قطرة
لها طعم الطحالب إنها البصرة

عبد الحسين شعبان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.