من ميناء الحسيمة...الى مارينا الحسيمة ... من زمن الإنتاج والرواج إلى زمن الركود والهجرة كعادتي أنزل بعد منتصف الليل إلى "مارينا" الحسيمة حيث تقل الحركة لأبحث عن لحظة سكينة وسط صمت البحر، أختار ركنًا هادئًا في احد المقاهي الجميلة المطلة على الميناء ، عادة اطلب مشروبا ساخنا ، وأرتشف منه على مهل، برفقة شخص افضل ان يكون صديقا من الزمن الجميل . في لحظة تأمل، شدّني طيف الذكريات، وعاد بي إلى زمنٍ بعيد، إلى ميناءٍ كان يعجّ بالحياة، لا يشبه هذا الذي أمامي ، اليوم، تذكرت وانا في عمر السادسة عشرة، كان الميناء عالمي الصغير اقصده لاشاهد الحركة ، وشائت الاقدار ان اشتغلت واتاجر فيه بعملٍ بسيطٍ وثانوي لكنه كان يدر عليّ أرباحًا لم أكن أتوقعها. هنا إشتغل والدي – رحمه الله – كان من ركائزه ، منذ سنة 1947 كأمين صندوق ومحاسب كعمل حر حتى سنة 1987. كانت تلك الأيام ذهبية، لا تغيب عن ذاكرتي مهما طال الزمن. "تذكرت" كاليرا"، حيث كان ينزل كابيسيروس حصتهم من صناديق السردين ، وكانت تُفرغ أنواعًا اخرى من الأسماك التي لم نعد نراها اليوم. تذكرت عمي شعيب "كابايو"، وموح امعنان، شيلاح، عبد القادر امغار، ومحمد اشرقي، والحاج علال، وأبركان احمد محايني ، وعبد السلام اجبلي الرايس... رجال سكنوا الميناء واستثمروا فيه بأموالهم وقلوبهم، فأصبح لهم فيه أثر لا يمحى ،صباحا ومساء كنت ارى البعض منهم في جلسة عند كابايو وكم من مرة جلست معهم وشاركت الحديث الذي كان غالبا يتحدث على الميناء ومشاكله الحقيقة بعضهم كان مدرسة .. تذكرت اصحاب الشاحنات وتجار السمك : البقالي، وشعيب نحمادي، ومصطفى، وكاراطي، واحمد التمسماني ،واحمد ابركان محايني .... تذكرت المراكب التي تعود كل صباح ومساء محملة بالسردين والشطون، فتنتظرها عشرات الشاحنات لتوزيعها على المدن ومعامل تصبير السمك . كان الرواج لا يهدأ، والحياة تضجّ في كل زاوية. تذكرت قادة المراكب: النيكرو، مرابو، الزموري، عمار بوثحاربين، عقاد، بوشلاغم، ومعاوية كابايو... رحم الله من رحل وبارك في من بقي. تذكرت سوق السمك الدلالة والذي كانت تبدأ به الحركة من الصباح الباكر احيانا حتى وسط النهار آلاف من صناديق الأسماك عينات صناديق السردين وأنواع اخرى من الفينو ...، الدلالين ،أحمد اجبلي رحمه الله والشريف اطال الله في عمره يبدأ كل واحد منهم الدلالة التجار يتزايدون حتى تستقر البضاعة على أحدهم. طوابير من الشاحنات تحمل السمك الى الشرق والغرب وجنوبا حتى مكناسوالخميسات .. ...مرة كنت مع المرحوم امحايني في مكتبه وكان يتحدث بهاتفه مع تجار السمك من زايوالخميساتتاوناتفاس ...ومصطفى بوثجنيث كان يكتب و يسجل وهو الذي يأمر بالغد سائقي الشاحنات بالشحن . أين كل هذا اليوم؟ الميناء صار شبه مهجور، مراكب السردين اختفت، والنيكرو – هذا الكائن الكسول المدمر – صار كابوسًا لأرباب المراكب، يمزق شباكهم ويكبدهم الخسائر. كثيرون غادروا إلى موانئ طنجةوالعرائش والقنيطرة، وبعضهم باع مراكبه، ومن بقي يشتغل بقلق وتوجس، أو في انتظار ما لا يأتي. أصبح بعض تجار الميناء يستوردون السمك المجمد، لتتم إذابته ويباع وكأنه طازج. حتى السردين لم يعد من الحسيمة، بل يستورد من موانئ أخرى سيدي احساين كابو دي اكوا والشطون من العرائش . أسماء مراكب كانت فخرًا للمدينة، مثل "الحسيمة 1" و2 ، "نكور1و 2"، "الامل 1و2 "، "أنوال"، "انري"، الصحراء ،على بركة الله ،استريا ذي الريف ،استريا ذي افريكا...صارت اليوم مجرد ذكريات. الميناء بات على حافة الإفلاس، لا حراك فيه سوى مراكب الجر التي تصطاد في مناطق ممنوعة وتدمّر أماكن توالد الأسماك، تحت أنظار من لا يراقب. وما خفي أعظم... على شاطئ السواني، يشهد زوار المكان صيد "القوبيان" بطريقة غير قانونية، ويباع علنًا في سوق بوكيدارن، أمام أعين السلطات. ...أتذكر جيدًا كيف كنا نرسل المبيعات اليومية من البريد إلى المكتب المركزي إلى للإدارة المركزية بالبيضاء، "بشوفاليي دو بيليارد"، التابعة للمكتب الوطني للصيد البحري، والتي كانت تتلقى كل الأرقام من مكاتب المملكة: ضرائب الدلالة، الضريبة على القيمة المضافة، واجبات الضمان الاجتماعي... كنا نقتطع حوالي 14% من كل عملية بيع رسمية، أما السوق السوداء فقصتها وحدها مؤلمة. كانت أرقام الميناء فلكية، وكان ضمن الأوائل على الصعيد الوطني احيانا تكون مناصفة بين اسفي واكادير . مدراء المكتب آنذاك، مثل مصطفى حمدي،باني مصطفى ، أحمد السقاط، علال الشعالي، عايشوا ذلك الزمن الذهبي... أما اليوم، فلا عزاء سوى في الذكريات. تمرّ أمامي صور أولئك الذين أفنوا أعمارهم هنا: عبد القادر موحا، وعابد أفقير رحمهم الله كانوا من خيرة المدافعين عن البحارة ، ممن لم ينصفهم الزمن ولا السياسات. الحسيمة كانت تُصنف ضمن "المغرب غير النافع"، واستمر تهميشها حتى جاء الزلزال المدمّر سنة 2004، فتدخل جلالة الملك محمد السادس، لتُطلق مشاريع تنموية كبرى، وتتحول المدينة إلى وجهة سياحية، لكن الميناء بقي رهين لعنات النيكرو. في هذا الميناء أُُنْهِكَ جسد البحّار وأفرغت جيبه،وخرج خالي الوفاض بتقاعد هزيل بسبب السوق السوداء ،إلا الذين اشتغلوا مع ارباب المراكب الذين يعرفون حقوق غيرهم للاسف كانوا قلة . كيف يمكن لبحّار أفنى ثلاثين سنة او اكثر من حياته فوق ألواح خشبيةعلى أمواج البحر وبرده وحره ، أن يُكافَأ بمعاش لا يتجاوز 1500 درهم؟ هذه مأساة تُروى، لا يُتصوَّر عمقها إلا لمن عاشها أو عاينها عن قرب. إنها لعنة طمع بعض التجار، بسبب غياب العدالة في المراقبة الصارمة . هذا الميناء الذي كان تابعًا لجمعية البحارة بعد الاستقلال، ثم للمكتب الوطني للصيد البحري، فوزارة الصيد، وانتهى اليوم ضمن وزارة الفلاحة والصيد البحري، صار مرفقًا بلا روح، ينتظر مصيره كشيخٍ هرم فقد كل قواه . لم نعد نسمع على تلك الشباك السينية والتي كانت تجريبية والتي صممت على انها تقاوم هجمات النيكرو والتي اعطت بعض النتائج الملموسة ،ثم فجأة توقف كل شيء ولم نسمع عن تلك الشباك المقاومة . ومع ذلك، لا أفقد الأمل. أستمدّ قوتي من الذكريات، من ضحكات الرفاق الذين رحلوا، ومن الحلم الذي لم يمت، بأن يعود هذا الميناء يومًا إلى الحياة، كما كان، وربما أجمل. صورة لن يكررها الزمن لمراكب السردين تغادر الميناء .