وزير الصحة في مرمى الانتقاد بسبب إقصاء 8 ملايين مغربي من التغطية الصحية    "رايان إير" تطلق خطا جويا بين طنجة وورزازات    أول تعليق إسرائيلي رسمي على موافقة حماس على مقترح الهدنة    "البوليساريو" أداة وصنع جزائري موجه لتقسيم المغرب الى سرطان يفتك ويهدد الوجود الجزائري    المبادلات الخارجية: المؤشرات الشهرية لمكتب الصرف في عشر نقاط رئيسية    بلاغ جديد وهام من المديرية العامة للضرائب    مرصد يحذر من انفراد الحكومة في تنزيل "إصلاح التقاعد" و"قانون الإضراب"    استعراض تجربة المغرب في مجال مكافحة الفساد خلال منتدى عربي بالقاهرة    النصيري يقتحم قائمة أفضل 10 هدافين في تاريخ إشبيلية الإسباني    ارتفاع الاستثمار الأجنبي المباشر في المغرب ب56,2% عند متم مارس 2024    مئات الفلسطينيين ينزحون من شرقي رفح إلى غربي قطاع غزة    بسبب تصرفات مشينة وعنيفة.. تأجيل محاكمة محمد زيان في قضية اختلاس أموال الحزب الليبرالي    الفيفا تصدر أول تصنيف عالمي لمنتخبات الفوتسال.. وأسود الأطلس في المرتبة السادسة عالميا    لاعبين الزمالك كاعيين قبل الفينال ضد بركان ومدربهم كيحاول يكالميهم    ماكرون يطالب بمشاركة مبابي في أولمبياد باريس    عاجل.. القضاء يعزل رئيس الرجاء محمد بودريقة من رئاسة مقاطعة مرس السلطان    ملف "التوظيف مقابل المال".. دفاع اليملاحي يلتمس السراح المؤقت والقاضي يؤجل الجلسة    المحرشي ..الخياط لي عندو قصر فالرباط رجع من الغربة وبغا يدير وساطة والتمس من الحكومة دير حل لإضرابات طلبة الطب: وها كيفاش تجاهلو وزير الصحة    وفاة المقدّم التلفزيوني الفرنسي الشهير برنار بيفو    تطويق أمني بالعاصمة يحول "مسيرة الصمود" لأطباء الغد إلى "وقفة الحشود"    إسرائيل تغلق مكتب الجزيرة وألمانيا تنتقد القرار    حصيلة منجزات وكالة بيت مال القدس فاقت 13,8 مليون دولار خلال الخمس سنوات الأخيرة    الضمان الاجتماعي الإسباني يتحاوز عتبة 21 مليون منتسب    البرجاوي للدار: حكومة اخنوش تمكنت من إرساء الركائز القانونية والمؤسساتية واللوجستيكية للدولة الاجتماعية    تطوان: إطلاق طلب عروض لإنجاز منطقة الأنشطة الاقتصادية والحرفية "كويلمة"    ارتفاع حصيلة قتلى الفيضانات في البرازيل إلى 83    بلقصيري: أجواء افتتاح مهرجان سينما المرأة والطفل في دورته الأولى    هذه تفاصيل موجة الحرارة المرتقبة في المغرب ابتداء من يوم غد الثلاثاء    وثائقي فريد من وزارة الثقافة والتواصل يبرز 6 ألوان فنية شعبية على ضفاف وادي درعة    اللي كيمشي لطريفة وعزيز عليه الطون والسربيسة والسينما: ها مهرجان وها الافلام المغربية المعروضة فيه    إضراب جديد يشل محاكم المملكة    لأول مرة.. تاعرابت يحكي قصة خلافه مع البرازيلي "كاكا"    بسبب الهلال.. لجنة الانضباط تعاقب فريق الاتحاد السعودي وحمد الله    تسجيل بقوة 2.5 درجات على سلم ريشتر بإقليم تاونات    مبادرة التنمية البشرية تمول 4174 مشروعا بأكثر من ملياري درهم بجهة طنجة    المغرب يحتضن الدورة 16 للبطولة الإفريقية للدراجات الجبلية    حماة المال العام: "حفظ طلبات التبليغ عن الجرائم من شأنه أن يوفر الحصانة لمتهمين متورطين في مخالفات جنائية خطيرة"    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    تفاصيل جديدة حول عملية نقل "درب عمر" إلى مديونة    أسعار النفط العالمية تعود إلى الارتفاع    الذهب يصعد وسط توترات الشرق الأوسط وآمال خفض الفائدة في أمريكا    وفاة مدرب الأرجنتين السابق لويس مينوتي بطل مونديال 1978    بعشرات الصواريخ.. حزب الله يستهدف قاعدة إسرائيلية في الجولان    مهرجان الجونة السينمائي يفتح باب التسجيل للدورة السابعة من "منصة الجونة السينمائية"    "الثّلث الخالي" في القاعات السينمائية المغربية إبتداء من 15 ماي الجاري    دراسة: السجائر الإلكترونية قد تسبب ضررا في نمو الدماغ    المشاهد الجنسية في أفلام هوليوود تراجعات بنسبة 40% وها علاش    باحثة: الضحك يقدر يكون وسيلة واعرة لعلاج الناس    اعتصامات طلاب أمريكا...جيل أمريكي جديد مساند لفلسطين    رأي حداثي في تيار الحداثة    دراسة حديثة تحذر المراهقين من تأثير السجائر الإلكترونية على أدمغتهم    السفه العقدي بين البواعث النفسية والمؤثرات الشيطانية    جواد مبروكي: الحمل والدور الحاسم للأب    منظمة تدعو لفتح تحقيق في مصرع عامل بمعمل تصبير السمك بآسفي    الأمثال العامية بتطوان... (589)    الأمثال العامية بتطوان... (588)    جامعيون ومتخصصون يحتفون بشخصية أبي يعزى في ملتقى علمي بمولاي بوعزة        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المؤسسة البرلمانية بالمغرب والثرثرة القانونية
نشر في هسبريس يوم 12 - 10 - 2023

يترأس الملك اليوم افتتاح الدورة البرلمانية الخريفية، ووجب الاعتراف بأن المؤسسة الملكية اليوم تحضر إلى البرلمان وهي محملة بحقيبة منجزاتها التدبيرية (الاستيقاظ الجيوستراتيجي – تدبير أزمة كوفيد – تدبير الزلزال -تنظيم الحدث الكروي العالمي بشراكة مع إسبانيا والبرتغال – ورش تحديث مدونة الأسرة...) وبالتالي تترأس المؤسسة الملكية افتتاح الدورة البرلمانية من موقع المؤسسة التدبيرية القوية، ليس فقط من خلال الموقع المنصوص عليه في الوثيقة الدستورية بل وكذلك من خلال الحضور والفعل المؤسساتي القوي الذي يترسخ من خلال حقيبة المنجزات المرتبطة بالفعل الملكي.
كما أن هذا اليوم الدستوري بامتياز هو اليوم المرتبط بزمن الدخول البرلماني، وبالتالي هو زمن لتقييم دور المؤسسة البرلمانية في الحياة السياسية المغربية، وللأسف فإن المحاسبة المرتبطة بالفعل المؤسساتي بالمغرب تسجل بوضوح التراجع المهول الذي تسجله المؤسسة البرلمانية أمام باقي المؤسسات، كما أن الذاكرة الشعبية ترسم صورة للمؤسسة البرلمانية باعتبارها المؤسسة المريضة العاجزة عن لعب دور أساسي ومحوري عبر المساهمة في المجهودات المتمحورة اليوم حول بناء الدولة الفعالة والدولة المسرعة ودولة النتائج.
الصورة التي ترسمها المؤسسة البرلمانية في المخيال الشعبي، هي صورة المؤسسة التي تجتمع من أجل التداول والثرثرة، وصورة المؤسسة التي تحتاج إلى الكثير من الوقت للتداول من أجل الوصول إلى نتيجة، مما جعل الزمن البرلماني متخلفا بشكل كبير عن الزمن المجتمعي، وبالتالي رسمت لها صورة في المخيال الشعبي أنها المؤسسة السلحفاة (عداد قياس السرعة بالنسبة لطريقة اشتغال البرلمان متخلف بشكل كبير عن عداد قياس سرعة تراكم المشاكل والمطالب المجتمعية)، وترسم لها كذلك صورة المؤسسة المرتبطة بالدولة المركزية وبالتالي المؤسسة البعيدة عن اليومي والواقعي والمعيش، ورسمت لها كذلك صورة المؤسسة التي لا تمنح للمجتمع وجها واضحا تنسب له الأفعال الإيجابية أو السلبية لأن المعروف عنها أنها مؤسسة جماعية (البرلمان – الأغلبية – المعارضة)، والمؤسسة التي تفرض نفسها داخل الزمن التشريعي، وبالتالي صعوبة تغييرها قبل اليوم الانتخابي دون حدوث زلزال سياسي بينما المؤسسات الأخرى (المؤسسة الملكية – المؤسسة الحكومية)، كانت تعطي صورة مغايرة متمثلة في مؤسسات الفعل التي تقرر وتمنح الاعتمادات، وبالتالي ارتبطت في الخيال الشعبي بالمؤسسات المسرعة (التي تتوفر على الإرادة المطلقة في استعمال دواس السرعة) والمؤسسات القادرة ومؤسسات الحضور والقرب من الواقع ومن اليومي والمؤسسات المكشوفة، التي تملك وجها وصورة واسما، مما يمكن الشارع والإعلام من أن ينسب لها الأخطاء والعثرات ويوجه لها سهام النقد، كما أن المؤسسات المكونة من أسماء معينة يمكن تغييرها بسرعة (تحتاج فقط للاقتراح من رئيس الحكومة وظهير من سلطة التعيين).
النجاح في عالم اليوم محجوز للدول التي تتفوق في الفعل والسرعة وتواجه المخاطر من أجل تنفيذ مشاريعها وتحقيق أهدافها والدول التي تملك العقلية المبتكرة، مما يؤكد الحاجة إلى المؤسسات المبتكرة والمسرعة ومؤسسات القرب ومؤسسات الحضور والمؤسسات القادرة على تمكين بلدانها من حجز مكان متميز ضمن خريطة القوة العالمية.
وبالتالي يطرح السؤال الصعب المرتبط بكيفية تحديث المؤسسة البرلمانية لتلعب الدور المنوط بها في الدستور وتسترجع حضورها المؤسساتي والشعبي، وفي الوقت نفسه تكون قادرة على المساهمة الفعالة في بناء الدولة المبتكرة. خصوصا وأن العقل الشعبي يشعر اليوم بأنه في حاجة إلى مؤسسات القطار السريع ومؤسسات تعوض الزمن الضائع، وهو في أمس الحاجة كذلك إلى مؤسسات الفعل ومؤسسات الحضور والقرب والمؤسسات المرتبطة بالمعيش اليومي للمواطن والمؤسسات التي تصنع الإجماع وتصنع الوحدة، وهو في حاجة كذلك للمؤسسات القادرة كذلك على لعب الدور المرتبط بصنع العيش المشترك ومؤسسات الجدال ومؤسسات صنع الإجماع وبناء القرار الحكيم.
تحديث الدور المفروض أن تقوم به المؤسسة البرلمانية بالمغرب مرتبط بالقدرة على تحديث الإطار النظري لدور المؤسسات التمثيلية في عالم اليوم، سواء كمؤسسات جماعية أو كمؤسسات للأغلبية (الأغلبية البرلمانية) أو كمؤسسات للمعارضة (المعارضة البرلمانية)، وفي هذا السياق وجب التأكيد على ما سبق وأكد عليه القانوني الألماني أريش كوفمان، من أن المؤسسات ليس مفروضا عليها البقاء سجينة المهام المرتبطة بظروف التأسيس ونظريات الفقهاء الدستوريين في القرن الثامن عشر، بل من المفروض التفكير في دور المؤسسة البرلمانية بشكل يجعلها قريبة من المزاج الشعبي المتعاطف اليوم مع مؤسسات الفعل ومؤسسات السرعة ومؤسسات النتائج ومؤسسات الوجه المكشوف المؤسسات التي تصنع الوحدة.
الباحث جون هالويل سيؤكد أن البرلمانات في مجموعة من الدول الديمقراطية صارت اليوم تمثل أكثر -مؤسسات الإرادة- بدل مؤسسات الفكر والتداول، وبالتالي فإن إحياء دور البرلمان المغربي من جديد يبقى مرتبطا بقدرة المؤسسة البرلمانية على لعب دور مؤسسة الإرادة والفعل وكذلك مؤسسة التداول من خلال ترسيخ الثنائية الذهبية (مؤسسة الفعل والسرعة والنتائج – مؤسسة التداول وصنع الوحدة والإجماع والقدرة على تحويل القرار السريع إلى قرار حكيم من خلال التداول). الباحث رونالد دروكين سيؤكد أن هناك طريقين لبناء الإرادة العامة في الديمقراطيات الحديثة، طريق العقلنة من خلال الأرقام وبالتالي منح الفرصة للرأي الأغلبي لمساندة الحكومة (الملك – الحكومة – الأغلبية البرلمانية) والطريق الثاني هو العمل على ترسيخ العقلنة من خلال التحليل والجدل والحجج (وبالتالي منح الوسائل للفعل للمعارضة البرلمانية بالمغرب).
1- الطبقة السياسية المغربية عليها أن تعي أن فصل السلط في عالم اليوم هو بين الثنائي المكون من (الحكومة – الأغلبية البرلمانية) والمعارضة البرلمانية
يتناسى الباحث السياسي والأكاديمي المغربي في بعض الأحيان أن المؤسسة الملكية والمؤسسة الحكومية هما المسؤولان عن تصور السياسة الوطنية والخطوط العريضة والأساسية للفعل العمومي وعن تحديد أهداف الفعل العمومي، وبالتالي يترسخ الدور المحوري والأساسي لمؤسسات الفعل (المؤسسة الملكية – الحكومة)، أما دور المؤسسة البرلمانية فينحصر فعليا في المصادقة على البرنامج الحكومي والتنصيب البرلماني والتدخل اللاحق أو التدخل المعدَّل أو التدخل المصحَّح إن أمكن، ولكن سلطة الالتزام بالفعل وسلطة المبادرة بالفعل محجوزة دستوريا للمؤسسة الملكية والحكومة، ومن المعروف أن تنفيذ السياسة الوطنية وتنفيذ البرنامج الحكومي يتطلب توفير الوسائل الضرورية والأساسية للفعل ومنها التشريع والترخيص المالي، وبالتالي فإن احتكار الحكومة لمشاريع القوانين الضرورية من أجل تنفيذ سياستها الوطنية وبرنامجها الحكومي هي مهام في صلب الوثيقة الدستورية وتمنح للمؤسسة الملكية والحكومة سلطة المبادرة وللبرلمان سلطة التدخل اللاحق وخصوصا التصويت على القوانين والمراقبة والتقييم.
مما سبق نتأكد أن الفعل العمومي واستمرارية الدولة مرتبطان ارتباطا وثيقا بثنائية (الحكومة – الأغلبية البرلمانية) وإذا ما أضفنا البحث عن بناء الدولة المبتكرة والمبدعة فمن المفروض الاعتراف بأن الأغلبية البرلمانية تبقى ملزمة بتسهيل سرعة الإنجاز والفعل وفعالية الفعل وبالتالي فعليا لعب الدور الثانوي.
ووجب التوضيح هنا أن إعادة إحياء دور البرلمان في المشهد السياسي المغربي مرتبط ارتباطا وثيقا باقتناع رجال السياسة بالمغرب بأن البحث السياسي والدستوري المرتبط بالمؤسسات الدستورية بالمغرب، من أجل أن يبدع ويتقدم من المفروض أن ينطلق على أسس صحيحة مرتبطة بالوعي بطبيعة فصل السلط الجديد ما بين الثنائي المكون من (الحكومة -الأغلبية البرلمانية) من جهة والمعارضة البرلمانية من جهة أخرى، حتى يبنى على الشيء مقتضاه وحتى نطور ونحدث من طبيعة ونوعية اشتغال مؤسساتنا الدستورية في أفق بناء الدولة الفاعلة والدولة المبتكرة.
العقل السياسي المغربي عليه أن ينفتح على التجارب الدولية والقانون المقارن وخصوصا تجربة العقل الدستوري الإنجليزي وأطروحات الباحث الدستوري والتر باغيهوت (1826-1877)، والذي أكد على أن الفعالية السرية للدستور الإنجليزي تكمن في الوحدة والاندماج شبه كلي للسلطة التنفيذية والسلطة التشريعية (الحكومة – الأغلبية البرلمانية) وكما أن العقل السياسي والأكاديمي المغربي المقتنع ببناء الدولة الفاعلة عليه أن يراجع معتقداته المرتبطة بالمسلمات النظرية المرتبطة بفصل السلط بين الحكومة والبرلمان (مونتسكيو)، وكذلك النظريات الدستورية المتعلقة بالفصل المرن للسلطات للباحث القانوني ايديمار اينسمان.
اشتغال مؤسسات الفعل بالمغرب في مواجهة الأزمات أظهرت بوضوح أن الفعل السياسي المغربي تفوق بترسيخ اشتغال المؤسسات من خلال اندماج فعلي للسلط، من خلال الاشتغال مرة تحت مظلة الثلاثية المكونة من (الملك – الحكومة – الأغلبية البرلمانية) وعند الضرورة الاشتغال تحت ثنائية (الحكومة – الأغلبية البرلمانية)، وبالتالي رسخ الفعل العمومي بالمغرب الحقيقة المرتبطة باندماج السلطة بين (الحكومة – الأغلبية البرلمانية) ورسخ كذلك ضرورة تعزيز هذا الاندماج من أجل بناء الدولة الفاعلة والدولة المسرعة والدولة القادرة على حجز مكان لها ضمن الخريطة العالمية.
وفي الأخير وجب التأكيد على أن شروط الفعل العمومي المرتبط بتنزيل استراتيجية الاستيقاظ الجيوستراتيجي ومواجهة أزمة كوفيد وأزمة الزلزال أثبتا إيمان العقل المركزي المغربي بجدوى الاشتغال تحت سقف الاندماج ما بين (السلطة التنفيذية – الأغلبية البرلمانية)، أما المعطى الثاني فيبقى مرتبطا بالاعتراف كذلك بأن الدور الأساسي للبرلمان المغربي الذي من الممكن أن يؤهله للعب الدور المطلوب منه شعبيا هو الدور المرتبط بالبرلمان المراقب أولا ومن ثمة البرلمان المشرع بشكل جيد، وليس البرلمان الثرثار (المهمة الأساسية المطلوبة من البرلمانات في التجربة الدولية هي المهمة المرتبطة بمراقبة العمل الحكومي وليس المهمة المرتبطة بالتشريع).
2- البرلمان المغربي وضرورة الابتعاد عن الثرثرة القانونية من خلال إعادة النظر في مهمة التشريع
تحديث دور البرلمان المغربي مرتبط بشكل وثيق بتغيير ثقافة العقل البرلماني المغربي، من خلال نقلها من ثقافة تعتبر أن الأولوية بالنسبة للبرلمان هي التشريع ومن ثم المراقبة وبعد ذلك التقييم، إلى ثقافة تركز على أن الدور البرلماني الأهم هو المراقبة والتقييم ومن ثمة التشريع وليس أي تشريع بل التشريع الجيد والضروري والواضح والمصاغ بشكل جيد والبعيد عن الثرثرة القانونية.
تغيير الثقافة البرلمانية والتقاليد البرلمانية المغربية يبقى مرتبطا بضرورة تذكير العقل البرلماني المغربي بأن المشرع الدستوري المغربي كان واضحا، من خلال التأكيد على أن القانون المصوت عليه لا يمثل الإرادة العامة إلا من خلال احترامه للوثيقة الدستورية (تأكيد الفصل السادس من الدستور على، القانون أسمى تعبير عن إرادة الأمة وكذلك على: تعتبر دستورية القواعد القانونية وتراتبيتها ووجوب نشرها مبادئ ملزمة).
مما يوضح أن القانون بالمغرب لا يوجد فقط تحت رحمة الأغلبية السياسية والاغلبية العددية بل وملزم كذلك بضرورة احترام القانون كذلك للإرادة العامة المعبر عنها من خلال الوثيقة الدستورية، مما يعني ان النقاش السياسي المحكوم بالمعطى المرتبط بالظرف السياسي والقناعات الأيديولوجية من المفروض ان يخضع كذلك لشكل من اشكال التحجيج المرتبطة بالطرق القانونية والدستورية، وأن شكل التحجيج القانوني والدستوري يبقى هو الشرط المحدد والاساسي.
الشرط الدستوري المرتبط بتطبيق القانون لا يمكن أن يترسخ دون أن يخضع القانون لشرط الوضوح وشرط المقروئية والقاعدة ذات التفسير الواحد والقاعدة المكتملة، وبالتالي فإن القانون غير الواضح وغير المفهوم بالنسبة للكل يعرض مبدأ الأمن القانوني إلى الخطر، كما أن القاعدة القانونية من المفروض أن تكون مصاغة بشكل دقيق حتى تمكن المواطن من ضبط سلوكه من خلال معرفته بما له وما عليه، لهذا فإن التشريع الجيد هو التشريع النوعي الذي يتوفر على شروط البساطة والفعالية. شرط الوضوح هو شرط مرتبط بمبدأ لا أحد يعذر بجهله للقانون، كما أن القانون الواضح والمحدد يعزز فصل السلط ويقيد سلطة القاضي بينما القانون المبهم يوسع من سلطته.
القانوني الفرنسي دي كاركسون سيؤكد أن القانون اليوم صار يمثل جوابا على الأحداث السياسية، وهو قانون ينصح دون التنصيص على قواعد ملزمة وبالتالي هو قانون رخو، كما أن القوانين ذات النوعية الرديئة هي نوع من التضخم القانوني، الصياغة الرديئة والقواعد المعقدة تطرح مشكلة في الفهم للمواطن وصعوبة في التفسير بالنسبة للقاضي وتضرب في الصميم مبدأ فصل السلط.
الطبقة السياسية المغربية لم تعد تنظر للفعل السياسي إلا من خلال زاوية القانون، مما خلق هاجسا لدى البرلمان يتمثل في جعل كل شيء قادر للتحويل لمشاريع قانونية، لأن الطريق التشريعي هو أكثر مردودية سياسية من خلال الإعلان السياسي، وهنا نستحضر المقولة الفرنسية "عندما لا نملك في يدنا إلا المطرقة فإن كل المشاكل بالنسبة لنا تبرز على شكل مسامير".
التكامل بين الفعل الإعلامي والسرعة الحكومية المطلوبة وامتلاك الأغلبية في الغرفة الأولى والغرفة الثانية لم يعد يترك وقتا للتفكير المتأني في صياغة النصوص القانونية، كما أن الوزراء لم يعودوا يثبتون فعاليتهم من خلال النصوص القانونية الجيدة بل من خلال النصوص القانونية السريعة والنصوص القانونية التي جاءت كرد فعل على الأحداث السياسية، وهكذا فإن اجتماع الحدث الإعلامي والتسرع الحكومي والقوة التي يمنحها الفعل الأغلبي لا تترك مساحة للتفكير بشكل جيد في محتوى النصوص القانونية، كما أن فعالية الوزراء لم تعد تقاس من خلال النصوص القانونية الجيدة بل من خلال النصوص القانونية السريعة، ولم يعد الزمن البرلماني بالنسبة للمسطرة القانونية زمنا من أجل النقاش بل زمنا من أجل التصويت.
الاستثمار في التشريع هو في حقيقة الأمر غياب للقدرة على النقاش وعلى التعبير عن المواقف السياسية وبالتالي يهرب البرلماني المغربي إلى مربع التشريع. لهذا من المفروض أن يقتنع البرلمان المغربي بالمدرسة التي أنشأها أب الدستور المدني الفرنسي جون ايتيان بورطاليس، الذي أكد على ضرورة الابتعاد عن الثرثرة في التشريع من خلال التأكيد على أن القانون (يتوقع – يأمر – يعاقب) فقط، كما أكد بورطاليس على ضرورة الابتعاد عن التفاصيل لأن التفاصيل تنادي على التفاصيل.
العقل البرلماني المغربي عليه أن يقتنع بأن البرلمان الذي يشتغل بشكل جيد والبرلمان الذي يعزز موقعه داخل الحياة السياسية المغربية هو البرلمان الذي يؤمن بأن قوته لا تستمد من خلال سلطة التشريع ولا من خلال الثرثرة القانونية، بل من خلال التشريع المختصر والتشريع الجيد والتشريع الواضح، مع التركيز بشكل أساسي على المهام المرتبطة بالمراقبة والتقييم، ومن أجل احترام ذلك يجب تفعيل دور المجلس الدستوري وتفعيل دور الأمانة العامة للحكومة وكذلك الوزارة المكلفة بالعلاقة مع البرلمان، ولما لا التفكير في إصلاح دستوري يربط التشريع بالتوقع والأمر فقط والعقاب كما هو الشأن بالنسبة للقانون التنظيمي للمالية.
3- الدولة الفاعلة وضرورة تقوية دور المعارضة البرلمانية
الدولة الفاعلة والدولة المبتكرة تحتاج إلى السند الشعبي وهنا وجب التأكيد على أننا نحتاج في المغرب إلى شرعنة مصالحة معينة بين الثنائي المكون من الحكومة والأغلبية البرلمانية من جهة والمعارضة البرلمانية من جهة أخرى، ووجب التأكيد هنا أنه من أجل أن يلعب البرلمان الدور التمثيلي على أكمل وجه (الفصل الثاني من الدستور) عليه أن يفعل الروابط بين الثنائية المكونة من (المشروعية الشعبية – المشروعية البرلمانية)، لأن وحده تعزيز الدور التمثيلي للبرلمان من بإمكانه أن ينقل الخلافات داخل المجتمع من التعبير عن نفسها من خلال التظاهرات والإضرابات إلى قبة البرلمان حيث الحوار والجدال الذي يعمل على تجديد التوافقات وبناء المصالحات، ووجب التأكيد هنا أن الحوار والجدال لكي يكون مثمرا من المفروض أن يشرعن الحلول السياسية، خصوصا وأن هذه المصالحة هي ضرورية وأساسية من أجل بناء الدولة الفاعلة والدولة المبتكرة والدولة المسرعة، وفي هذا السياق يؤكد الباحث الفرنسي ميشيل فينوك أن سبب تأخر فرنسا مرتبط بكونها عجزت عن إبرام صفقة مصالحة بين الأغلبية والمعارضة البرلمانية.
من المعروف أن النقاش البرلماني يوجد تحت تأثير مجالين بحثين (نظريات الحوار-الدراسات التشريعية) وبالتالي لا يمكن دراسة النقاش البرلماني دون الاعتماد على المجالين، كما أن النظريات الحوارية تعتمد على مبدأ التراتبية بين مجموعة من المساحات الحوارية التي تتميز بانتقال المعلومة أو الراي أو الحجة، وإذا كان البرلمان يعتمد على نوعين من النقاشات واحدة تستهدف التعاون والأخرى تستهدف المواجهة، فوجب التأكيد أن الدولة المبتكرة والدولة الفاعلة من المفروض أن تعتمد على البحث عن التعاون والتعاقد والتوافق ما بين الأغلبية البرلمانية والمعارضة.
الفكرة المتمحورة حول أن مشروعية القرار الديمقراطي لا يمكن أن تنتج فقط عن كونه نابعا من الاقتراع العام بل ومن المفروض كذلك أن يمر بمراحل النقاش العام، وبالتالي حاول بعض الباحثين الربط بين الإرادة العامة والنقاش العام، وفي هذا السياق سيؤكد هبيرماس أن الجدال هو النقاش الذي من خلاله يستهدف المتحاورون القبول بتحجيج آرائهم والاقتناع كذلك بالحجج الأكثر صلابة، المواجهة من خلال الأفكار والحجج والقبول بالأفكار الأكثر صلابة تقود عمليا نحو التوافق العقلاني، ويحسب لجون باركنسون التأكيد على ضرورة وجود علاقة بين النقاش المجتمعي والنقاش البرلماني وبناء التوافقات.
الثقافة السياسية المغربية في جزء منها وفية لطروحات السياسي الألماني كارل شميت الذي كان يرى أن الاتفاقات هي ضد الدستور الذي في نظره ذي طبيعة سياسية، وبالتالي يفرض الاقتناع بتوجهات واضحة ومتناقضة ولا تحتاج للتنازلات من الطرفين للوصول إلى قرارات سياسية مهمة. السياسي شميت كان يرى أن الاتفاقات تضعف الوحدة لأنها تمثل تردد في الدفاع عن التوجهات السياسية المختلفة، وأن الديمقراطيات البرلمانية تستهدف البحث عن الحقائق المطلقة والبحث كذلك عن إرادة الدولة الحقيقية، وبالتالي كان ضد الحقائق النسبية وضد كذلك إرادة الدولة الممكنة، لأن في نظره النقاش البرلماني من المفروض أن يرسخ إرادة الدولة الحقيقية بتناقضاتها واختلافاتها.
ويحسب للقانوني هانس كينسيل التأكيد على أن البرلمان ليس مطلوبا منه أن يبحث عن الحقيقة المطلقة كما ليس مطلوبا منه أن يضمن الخيار الأمثل ليكون مشروعا، بل إن المطلوب من الديمقراطية عموما ومن البرلمان خصوصا البحث والعمل على خلق التوافقات السياسية بين الأغلبية والأقلية، وسيؤكد القانوني أن الاتفاق بين الأغلبية والأقلية يعني إزاحة الحواجز التي تعيق التواصل بين الأغلبية والمعارضة من أجل تعاقد الأغلبية والأقلية.
العقل الدستوري المغربي عليه كذلك أن يشرعن النقاشات المحض سياسية من خلال دسترة ما يطلق عليه في التجارب الدولية الحلول، كما يمكن التفكير في الاعتراف بزعيم للمعارضة البرلمانية ولما لا التفكير كذلك بشرعنة المقرر المعارض بالنسبة لكل مشروع قانون، كما من المفروض الاستفادة من التجارب الدولية في ما يتعلق بالبرلمانية المعقلنة الحديثة، كما هو الشأن في التجربة الألمانية والتجربة البريطانية حيث أن ميكانيزمات البرلمانية المعقلنة الحديثة تعتمد على الأغلبية البرلمانية وليس على الحكومة مما يرسخ كذلك اندماج السلط.
الخلاصة
افتتاح الدورة الخريفية من خلال حضور المؤسستين (المؤسسة الملكية -المؤسسة البرلمانية) هي رسالة للباحث السياسي والدستوري تجعله يفتح قوس اندماج السلط بين (المؤسسة الملكية – الحكومة – البرلمان) بشكل أساسي، من أجل التفكير بعد ذلك في مساهمة هذا الاندماج في بناء الدولة الذكية والدولة الفاعلة والدولة المسرعة، وتجعله يفكر كذلك في فصل السلط الجديد بين الثنائي المكون من (الحكومة – الأغلبية البرلمانية) من جهة والمعارضة البرلمانية من جهة أخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار أن تعزيز دور المعارضة البرلمانية يبقى مشروطا بالاقتناع بأن تعزيز هذا الدور يستهدف بناء مؤسسة لتبادل الآراء والحجج القوية من أجل الوصول إلى الاتفاق والتوافق الذي يعزز الوحدة الوطنية والإرادة الشعبية القوية التي تسند بناء وترسيخ الدولة الفاعلة والدولة المسرعة والدولة الذكية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.