ارتبط الدين تاريخيا بالأخلاق واعتبر النبع الأساسي الذي يحث على السلوك الخير، لكن ومع مر التاريخ تشكلت "الأديان النظامية" بكل معتقداتها وطقوسها ومذاهبها... فضاعت ملامح الحد الأدنى من الأخلاق لتصبح أخلاقا سميكة يصعب معها الاتفاق بين الأديان، فالنواة الأخلاقية المفترضة كعامل توحيد للبشرية، أصبحت وبفعل التاريخ عامل تفريق وتمزيق، عامل تعصب وكراهية، وما الحروب التاريخية باسم الدين إلا شاهد على ذلك. كل هذا دفع بالحكماء إلى إعادة التفكير في جوهر الدين الحقيقي والتفرقة ما بين الدين المطلق والكوني والتدين المشكل تاريخيا باعتباره نسبيا وأحد نتاجات الاجتماع البشري. إلى الحد الذي جعل أحد أعمدة مفكري الزمن الحديث وهو الفيلسوف الألماني كانط يدعو إلى ضرورة ضبط اللغة جيدا في مسألة الدين، والتي يجب فصلها عن المعتقد، إذ يعد الأنسب من وجهة نظره أن نقول: إن هذا الإنسان على معتقد المسيحية أو اليهودية أو الإسلام (...)، فهذه حسب كانط، ليست دينا بل معتقدات، لأن الدين الحق واحد، وهو لا يرتكز على الوحي القادم من التاريخ، بل هو متعال يقوم، كما يرى، على أساس العقل، فهو ليس ظاهرا بطقوس وشعائر، بل هو محجوب في الباطن ومتعلق بالنوايا الخلقية. ليصبح ما يتحدث عنه كانط هو شبيه إلى حد ما بما نسميه في تداولنا الثقافي: "الإسلام لوجه الله". إن الإنسان العامي، بحسب "كانط"، تلتبس عليه الأمور، بحيث عندما يسمع كلمة دين، يتجه ذهنه مباشرة إلى الجماعة الخاصة به، والتي تقع تحت حواسه، في حين أن الدين غير المعتقد المشيد في التاريخ، بل هو الأخلاق العقلية غير المغلفة بالشكليات الشعائرية. بالطبع قد نختلف مع كانط، في هذه الجزئية، فهو كانت له إرادة جامحة في محو الدين التاريخي والإبقاء فقط على الدين الأخلاقي القائم على قواعد أخلاقية عقلية صارمة تكون بمثابة أوامر إلهية ملزمة لكل البشرية وذلك وفقا للمنطلق الحداثي الذي يرى أن العقل هو "أعدل قسمة وزعت بين البشر"، فطموح كانط النهائي، كما نعرف، كان هو بلوغ دين واحد أو ما أسماه ب "مملكة الغايات"، وهو الطموح المثالي المنتظر والذي هو الآن في زماننا يبدو بعيد المنال إذ مازالت الخصوصيات الدينية قائمة ولا يمكن محوها بسهولة، مما يستدعي الاكتفاء مرحليا بالقواسم الأخلاقية المشتركة كأرضية للتقاطع والتواصل والحوار. إن المساعي، كما نرى، قائمة ومنذ مدة، لتقشير أغلفة التاريخ عن الدين وترك جوهرها الأخلاقي فقط، باعتباره الهادي والموجه للسلوك البشري، لكن ما هو هذا الحد الأدنى الأخلاقي؟ وهل من سبيل لوضع اليد عليه لاستثماره عالميا كمنطلق متفق عليه يسمح بوحدة الصف البشري ويحول دون الصدام والنزاع؟ ومن ثمة تحقيق السلام العالمي المنشود. اهتم العديد من الباحثين بقضية تحديد الحد الأدنى للأخلاق، ومن ضمنهم أحد كبار اللاهوتيين المعاصرين وهو المفكر السويسري "هانس كيونج" بكتابه: "لماذا مقاييس عالمية للأخلاق؟" والذي ترجمه للعربية ثابت عيد وأصدره المركز القومي للترجمة عام 2015. لتكون مشتركا بين أتباع الأديان واتباع الفلسفات والثقافات المختلفة، فتنبهوا إلى تواجد قاعدة أساسية بسيطة قد ترددت عند أغلبية الملل والنحل سواء منها تلك المسماة وضعية أو تلك المسماة سماوية، هذه القاعدة تمت تسميتها بالقاعدة الذهبية والتي يمكن صياغتها كالآتي: "عامل الناس كما تحب أن يعاملوك" أو "أحب لغيرك ما تحب لنفسك". وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الفيلسوف الألماني كانط قد قبض في القرن الثامن عشر على هذه القاعدة الذهبية المنتشرة في متون الأديان والممل والنحل العالمية، وطورها بطريقة تتلاءم والأفق العقلاني لعصر الأنوار جاعلا إياها قاعدة معممة بل قانونا أساسيا للأخلاق، يعتمد البرهان بالخلف ويمكن صياغته كالآتي: "افعل بحيث يمكن لمسلمة إرادتك أن تصح دائما وفي الوقت نفسه مبدأ تشريع عام"، بعبارة أخرى، ونحن نسلك في الحياة، لن يكون فعلنا فعلا أخلاقيا، إلا إذا كانت له صبغة القانون العام، أي أن ما يمسني يجب أن يمس الآخرين. بصياغة أخرى، علي الحرص كي لا أجعل من نفسي استثناء في التشريع، وأن أقحم نفسي ضمن القانون الذي شرعته. وهنا بالضبط، تتجلى صلاحية العقل وقدرته على توحيد المعيار نحو الفضيلة والخير؛ يقول "كانط": "بإمكان العقل الأكثر انتشارا (بين البشر) أن يميز من دون تلقي توجيه، الصورة التي تجعل المسلمة صالحة لتشريع شامل عن تلك التي لا تصلح. فهي مثلا، أنني جعلت لي مُسَلمة في حياتي وهي: أن أنمي ثروتي بكل الوسائل المتاحة. والآن لدي بين يدي وديعة توفي صاحبها، ولم يترك فيها قيدا. فهل أتملص من إرجاع الوديعة تماشيا مع المسلمة التي انطلق منها؟ هنا يكفي بحسب كانط وضع حالتي في قالب قانون عام وذلك كالآتي: "يحق لكل إنسان أن ينكر، وديعة ليس بوسع أحد أن يثبت إيداعها". هنا سأدرك على الفور أن هذا القانون سيلغي نفسه بنفسه، لأن النتيجة عنه سوف تكون القضاء نهائيا على وجود كل وديعة. لكي يحظى السلوك بسمة الأخلاقية إذن، يجب حسب "كانط": "أن يثبت جدارته لإعطاء قانون شامل". بمعنى أن الحدود الفاصلة بين الأخلاقي واللاأخلاقي، تعود فقط إلى الشمولية والعمومية. فمثلا قد أمتنع عن مساعدة الآخر، كمسلمة لإرادتي، لكن حين أتصور نفسي في وضع من يحتاج إلى مساعدة من طرف الآخر، كأن أكون في لحظة غرق مثلا، فإنني لن أستطيع أن يمتنع غيري عن مساعدتي. وهو ما يجعل مساعدة الآخر أمرا أخلاقيا وواجبا، وإلا ستتناقض الإرادة مع نفسها، والتناقض ضد العقل. فالعقل إذن، هو المُعَوَّلُ عليه في ضبط الفعل الأخلاقي، فقد أجد نفسي في ورطة، وليس أمامي للخروج منها إلا الكذب، لكن وبينما أردت لنفسي الكذب، فإنني لا أرى أن يصبح ذلك قانونا عاما، لأني ببساطة لا أريد أن يكذب علي الآخرون، وبذلك يناقض المرء نفسه، إذن لا ينبغي علي الكذب ولو كان الأمر في صالحي. وهنا تجدر الإشارة إلى أن "كانط" قد قفز بالقاعدة الذهبية في منحى أكثر دقة وموضوعية إذ هو يفرق بوضوح بين قاعدة التعميم، وتلك القاعدة الذهبية التي يمكن التلاعب بها وأخذها بمراوغة نحو اللاأخلاق، فحين نقول: "لا تفعل ما لا تريد أن يفعل بك"، فنحن هنا بحسب كانط لسنا أمام قانون أخلاقي، لأنه قد "لا أعطي المعونة ولا أطلب المعونة"؛ في حين أن المعونة، ومساعدة الغير واجب أخلاقي، إنها قاعدة تنطلق من حب الذات، وحب الذات ليس معيارا آمنا للخير. إذن، نصل عطفا على ما سبق إلى أن البشرية لها مستند تاريخي ومأثورات تاريخية معممة في مجمل ديانات وثقافات الشعوب تصب في قناة القاعدة الذهبية التي تطالبنا بأن نحب للآخرين ما نحب لأنفسنا. فيكفي أن نضيف عليها بعضا من التعديل العقلاني لتصبح قانونا معمما من خلاله نستطيع توجيه ترسانة القوانين العالمية في اتجاه مجمع عليه. فالقانون الذي لا يمكن تعميمه لا يمكن جعله قاعدة ذهبية كونية. وهكذا وفي ظل المساعي نحو بلورة قواسم مشتركة إنسانية بين أتباع الأديان، فإنه لدينا مبدأ واضحا لا غبار عليه يمكن الانطلاق منه في رسم ملامح قواعد للعمل، من الأكيد ينبغي أن تكون متسمة بالإجرائية والواقعية.