لا يعد الإحرام مجرد تغيير في اللباس؛ بل هو خلع رمزي لكل ما التصق بالإنسان من تعريفات زائفة. حين يلبس الحاج الإزار والرداء، لا يلبس فقرًا ولا غنى، لا رتبة ولا وظيفة، بل يدخل عاريًا من كل ما كسبه من أسماء. الإحرام هو لحظة الانسلاخ الكبرى: أن تخرج من جسدك الاجتماعي، لتعود كائنًا طاهرًا، لا يعرف إلا ربه. في لحظة الإحرام، تُنسى المدن، وتُطوى الخرائط، وتُغلق دفاتر الإنجازات. لا يعود لاسمك معنى، ولا لجواز سفرك سلطة. الكل، فجأة، يصبح "عبدًا لله" فقط. وما كان بالأمس مركز قوة، يصبح لا قيمة له. رجل الأعمال والتاجر والخادم والعامل، كلهم يقفون عند الميقات بالهيئة نفسها، في صفٍّ واحد أمام المطلق. الإحرام ليس فرضًا فحسب؛ بل بوابة عبور إلى زمن آخر، إلى مساحة لا تُقاس بالساعات، بل تُقاس بالخفة: كم حملتَ من الدنيا معك؟ كم تخليت عنها الآن؟ إنه إعلان سفر داخلي، وقطع مع حياة الضجيج، ضجيج الامتلاك، وضجيج التعريف، وضجيج الذات المتضخمة. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "مَن حَجَّ فلم يرفث ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه". فكأن الإحرام هو رحم رمزي جديد. تبدأ الحياة من جديد، بشروط جديدة، وبقلب جديد. وفي هذا اللباس الأبيض، الخالي من الزينة، يكمن سر كبير: لا أحد يراك إلا كما أنت، لا كما أردت أن تظهر. تسقط الأقنعة، وتظهر ملامح الضعف الإنساني ببهائها الصادق. حتى لغة الجسد تتغير. يمشي الحاج بخفة، كأنه لا يحمل إلا نفسه، ولا يطلب من الأرض إلا أن تحمله قليلًا في هذا الطريق نحو النور. في الإحرام، تذوب الحدود بين الناس. الأبيض يوحد، لا يُفرّق. الطقوس لا تميز، بل تدمج. وهذا، في جوهره، درسٌ عن الإنسان، عن أن الأصل فينا واحد، وأن كل ما ارتديناه بعد الولادة ليس إلا إضافات. إنها لحظة فارقة، حين تقف على مشارف الحرم وأنت مُحرِم، وتشعر بأن جسدك صار هشًّا أمام المعنى. شيء داخلك يرتجف، لا خوفًا، بل هيبة. وكأنك على وشك أن تدخل إلى قلب الحياة، أن تُحدّق في وجه الله بقلب مكشوف. وحين تلبّي: "لبيك اللهم لبيك" فأنت لا ترد على نداء خارجي، بل ترد على نداء سكنك منذ أول خلقك، ولم تسمعه إلا الآن.